قضية تطوير الصحافة المصرية والعربية تتحصل على اهتمام لا تخطئه العين خلال السنوات الأخيرة. هناك اتفاق بين أصحاب المهنة والرأي العام على وجود أزمة حقيقية في التعاطي مع “المحتوى” في الصحافة المكتوبة، نتيجة عوامل عديدة، منها عدم مواكبة هذا المحتوى للتقدم الحاصل في طريقة الحصول على الأخبار ومواكبة الأحداث الجارية على شبكة المعلومات الدولية “الإنترنت”. وعُقدت مئات الندوات في مصر والعالم العربي خلال السنوات القليلة الماضية، ومازالت، حول كيفية مواكبة الصحافة الورقية للتطور في تكنولوجيا المعلومات وسرعة النشر، ثم أضيفت أسئلة جديدة للنقاش بعد التوسع في المواقع الإلكترونية وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي، حيث بات الأمر مُحيراً أكثر بعد أن قدمت تجربة الإعلام الإلكتروني صورة باهتة للإعلام الجديد المنشود. السلبيات التي تحيط بالإعلام الجديد تترسخ وتزيد من حجم التحديات التي تواجه الممارسين لمهنة الصحافة محليا وإقليمياً. لكن ماهي شروط عودة الإعلام الإخباري إلى مكانته؟ وماهي أولويات تصحيح مسار صناعة الأخبار اليوم؟
الثقة أولاً
كشفت دراسة بعنوان: “فهم جديد: ما الذي يجعل المواطنين يثقون ويعتمدون على الأخبار” A New Understanding: What Makes People Trust and Rely on News نُشرت في أبريل ٢٠١٦(١)، أن أهم عناصر “الثقة” تتمثل في “الدقة” Accuracy، فمن المهم أن تحصل المؤسسات الإخبارية على الحقائق بشكل صحيح بغض النظر عن الموضوع. العامل الثاني الأكثر قيمة فيما يتعلق بالثقة يرتبط بعامل “التوقيت” Timeliness، حيث تتسابق كل الصحف الورقية والإلكترونية اليوم على تقليل زمن اللازم لوصول الخبر بتفاصيله إلى القاريء، وأن يكون مواكباً للتطورات دون تأخير. العامل الثالث يرتبط بـ”الوضوح” Clarity، فمن المهم للغاية أن يكون التقرير الإخباري موجزا ويتجه للهدف مباشرة.
في كل مؤتمرات الصحافة يؤكد المشاركون الكبار من خبراء الصناعة (الناشرون) أو الأكاديميون على أهمية استعادة المصداقية من خلال كسب “ثقة” Trust القاريء أو الجمهور العام للمحتوى المقدم له، باعتبار عامل الثقة هو مفتاح بقاء مهنة الصحافة بتقاليدها الراسخة بعد أن اهتزت الثقة في وسائل الإعلام بفعل الأخبار الكاذبة، وقبلها عدم تحري الدقة في المضمون المقدم بسبب اللهاث وراء السبق أو التنافس على سرعة إيقاع النشر الإلكتروني مقارنة بالنشر الورقي.
وعن العلاقة بين الثقة وأداء الوسيلة الإعلامية، تقول منظمة “وان إيفرا” أن آخر الاستطلاعات تشير إلى أن ٣٦٪ من الجمهور يرى أن الوسيلة الإعلامية يجب أن تلعب دور “الحارس” على مصداقية المعلومات المقدمة إليهم، فيما يرغب ٤٥٪ أن يكون للصحافة والإعلام دورا في تنبيه القراء إلى القرارات التي تعينهم على الوصول إلى حياة أفضل في ظل تعقيدات الحياة المعاصرة، بينما يفضل ٥٠٪ من الجمهور أن يكون للإعلام بكل أنواعه دور رئيسي في تعليم وإرشاد القراء بشأن القضايا المهمة.
يقول مؤشر “إيدلمان للثقة” Edelman Trust Barometer عن عام ٢٠١٨ أن غالبية الجمهور في ٢٢ بلدا من أصل ٢٨ بلدا حول العالم (من بينها الولايات المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، وكوريا الجنوبية، وروسيا، وجنوب أفريقيا) لديهم عدم ثقة في محتوى وسائل الإعلام عموما، بينما جاءت النتيحة محايدة في ثلاث دول فقط هي سنغافورة وهولندا والإمارات. ولم تأت النتائج بمؤشر إيجابي عن وسائل الإعلام سوى في ثلاث دول أيضا، هي الهند وإندونيسيا والصين. الخبر السار في الإستطلاعات الأخيرة أن درجة الثقة في الصحافة التقليدية بدأت في التزايد مجدداً في العام 2019 مقارنة بما كانت عليه قبل سبع سنوات (٢٠١٢)، حيث زاد مؤشر الثقة في الصحافة التقليدية بمقدار ٥٪ ليصبح ٥٩٪، بينما تراجع مؤشر الثقة في المنصات الإلكترونية بمقدار ٢٪ لتبلغ ٥١٪.(٢)
أرقام وسياسات
القصة مازالت محيرة في البلد الأكثر تأثيرا في الإعلام الدولي، وهي الولايات المتحدة، حيث الثقة في وسائل الإعلام الرئيسية لا تزال تتآكل. فقد كشف استطلاع للرأي أجرته مؤسسة جالوب في سبتمبر ٢٠١٨ أن ٦٩٪ من الأمريكيين البالغين تراجعت ثقتهم في وسائل الإعلام خلال العقد الماضي، بينما عبر ١٧٪ فقط عن ثقتهم “في معظم المؤسسات الإخبارية”، ويقول ٦٧٪ أنهم “يثقون في بعض المؤسسات الإخبارية”. وأشار ٤٥٪ إلى مسائل مثل عدم الدقة، والتحيز، و”الأخبار الكاذبة”، و”الحقائق البديلة” كأسباب مباشرة لعدم ثقتهم في وسائل الإعلام. في الأونة الأخيرة، وفي محاولة مثيرة للجدل لوقف التراجع في مسار الإعلام الرئيسي يتدخل عمالقة التكنولوجيا الكبار بشكل يثير لغطا سياسيا ربما يؤدي إلى انقسام أكبر بشأن المصداقية، حيث تقوم كل من Google و Facebook بمراقبة مصادر الأخبار التي تصدر عن معسكر اليمين الأمريكي. فقد قامت Google مؤخرًا بحظر Western Journal وThe Gateway Pundit من أخبار Google بما يؤدي إلى تقليص الكثير من قدرة تلك المواقع على تحقيق انتشار أكبر.
في الوقت نفسه، تعطي Google الأولوية للمواقع الإخبارية ذات الاتجاه الليبرالي في نتائج البحث. كما غيّر Facebook خوارزمية في يناير 2018 أدت إلى تقليل عدد الزيارات للصفحات المحافظة بشكل كبير. وحظر فيسبوك بعض الصفحات الأكثر شعبية خلال العام الجاري، بما في ذلك موقع Right Wing News. وحسب استطلاع مركز بيو في يناير ٢٠١٩، يشعر ٥٨٪ من البالغين الأمريكيين أن وسائل الإعلام لا تفهم أشخاصًا مثلهم، بينما يشعر ٤٠٪ فقط أنهم يفهمون توجهاتهم ورغباتهم. ومع ذلك، فإن القراء في صفوف الجمهوريين يشعرون بنسبة كبيرة جدا -بالمقارنة بمعسكر الديمقراطيين- بأن المؤسسات الإخبارية لا تفهمهم (٧٣٪ بالمقارنة بنسبة ٥٨٪ في صفوف الديمقراطيين). من ثم، تنسجم الانقسامات العميقة بين الجمهوريين والديموقراطيين في شعورهم بالفهم الخاطئ من قبل المؤسسات الإخبارية إلى حد كبير مع الانقسامات الحزبية من حيث درجة الثقة في الإعلام الوطني والنزاهة الواضحة في التغطية الإخبارية. وكما رأينا في النتائج السابقة، فإن الجمهوريين أقل احتمالا بكثير من الديمقراطيين في القول بأن لديهم ثقة كبيرة في المعلومات التي يحصلون عليها من المؤسسات الإخبارية المحلية، ومن الأرجح أنهم يعتقدون أن وسائل الإعلام تميل إلى تفضيل جانب واحد في التغطيات المختلفة.
————–
الهوامش:
- للاطلاع على نص الدراسة انظر الرابط التالي:
Associated Press, NORC Center for Public Affairs Research, & American Press Institute, “A New Understanding: What Makes People Trust and Rely on News”, April 2016. Available at:
http://www.mediainsight.org/PDFs/Trust/TrustFinal.pdf
2. لمزيد من التفصيلات حول تقريري 2018، 2019، انظر: الرابطين التاليين على الترتيب: