منذ عشر سنوات فقط، كان الناتج المحلي الإجمالي الهندي في المرتبة الحادية عشر على مستوى العالم، والآن برزت الهند باعتبارها أسرع الاقتصادات الرئيسية نموًا في العالم، وجاءت التوقعات خلال السنوات العشر إلى الخمس عشرة القادمة بأن الهند ستصبح واحدة من أكبر ثلاث قوى اقتصادية في العالم، واستطاع الاقتصاد الهندي أن يحقق هذا التقدم بالرغم من معاناة الاقتصاد العالمي من موجات العدوى المتكررة لجائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتهما على سلاسل التوريد وارتفاع التضخم، وذلك بفضل الاستراتيجية التي وضعتها الدولة، والتي تقوم على توسيع الإنفاق الرأسمالي على البنية التحتية لإعادة بناء الطلب على المدى المتوسط فضلاً عن تنفيذ تدابير جانب العرض بقوة لإعداد الاقتصاد لتحقيق تنمية مستدامة طويلة الاجل، والذي مكنها من تحقيق نمو في قطاعات اقتصادية هامة كالزراعة والقطاعات المرتبطة بها والخدمات والصناعة، وتركز الورقة على مدى تفوق الهند في تحقيقها للنمو الاقتصادي وقدرتها على تنافس اقتصادات متقدمة.
أولاً: إمكانات الهند الاقتصادية
تتمتع الهند بتركيبة سكانية لديها رغبة قوية للانخراط ضمن القوى العاملة، كما تتمتع بطبقة استهلاكية كبيرة وطموحة أي بسوق كبير استطاعت من خلاله أن تجذب استثمارات أجنبية كبيرة، وفي ظل أوضاع عالمية غير مؤكدة وقفز التضخم في معظم البلدان، وقيام البنوك المركزية الرئيسية بدورة سحب للسيولة، فإن ذلك قد يمثل تحدياً أمام الاقتصاد الهندي، ومع ذلك فإن بالتوسع في تغطية التطعيمات ضد كوفيد لأكبر عدد من السكان فإن التوقعات للاقتصاد الهندي اكتسبت طابعاً إيجابياً.
وخلال عام 2022 توسع الاقتصاد الهندي بنسبة 6.3% على أساس سنوي في الربع الثالث، وهو أعلى قليلاً من التوقعات عند 6.2%، ولكنه أقل بكثير من نمو بنسبة 13.5% في الربع الثاني وذلك مع ارتفاع الأسعار العالمية وارتفاع أسعار الفائدة وبدأ تباطؤ الطلب العالمي في التأثير على الصادرات مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، ويمكن متابعة تطور الناتج المحلي الإجمالي من خلال الشكل التالي:
وعلى الرغم من جميع الاضطرابات التي سببها الوباء العالمي، ظل ميزان مدفوعات الهند في فائض طوال العامين الماضيين، وسمح ذلك لبنك الاحتياطي الهندي بمواصلة تراكم احتياطيات النقد الأجنبي (بلغت 634 مليار دولار أمريكي في 31 ديسمبر 2021)، وهذا يعادل تغطية 13.2 شهرًا من واردات السلع وهو أعلى من الدين الخارجي للبلد، وسيوفر الجمع بين احتياطيات النقد الأجنبي المرتفعة والاستثمار الأجنبي المباشر المستدام وارتفاع عائدات الصادرات حاجزًا مناسبًا ضد التناقص المحتمل للسيولة العالمية في عام 2022/2023، ويمكن متابعة تطور تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر للهند من خلال الشكل التالي:
وأدى الدعم المالي المقدم للاقتصاد وكذلك الاستجابة الصحية إلى ارتفاع العجز المالي والدين الحكومي في 2020/2021، ومع ذلك، فإن الانتعاش القوي في الإيرادات الحكومية في عام 2021/2022 يعني أن الحكومة ستحقق أهدافها بشكل مريح لهذا العام مع الحفاظ على الدعم وزيادة الإنفاق الرأسمالي.
ثانياً: الأسباب التي عززت النمو
ركزت الهند في السنوات الأخيرة على تنمية عدد من القطاعات وعلى رأسها قطاع الزراعة والصناعة والخدمات، ويحتل التوسع في الإنفاق على البنية التحتية، مثل الطرق السريعة والسكك الحديدية، مكانة مركزية في استراتيجية الحكومة، وبالرغم من الجائحة والحرب الروسية الاوكرانية إلا أنها تمكنت من بناء جداراً عازلاً نسبياً ضد تأثير التحديات الخارجية على اقتصادها، فاستطاعت خلال العام الحالي أن تحقق نمواً ملحوظاً بفضل عملية الإصلاحات التي أدخلتها على تلك القطاعات لترتفع القيمة المضافة لتلك القطاعات.
- بالنسبة للقطاع الزراعي: فإن القطاع هو الأقل تأثراً بالاضطرابات المرتبطة بالوباء إذ تشير البيانات بأنه تراجع النمو ليسجل 3.6% عام 2020/2021 من 4.3% عام الجائحة، ومن المقدر أن ينمو القطاع الزراعي بنسبة 3.9% عام 2021/2022، ليمثل مساهمة القطاع 18.8% من إجمالي القيمة المضافة التي يحقهها الاقتصاد، وذلك مع زيادة المساحة المزروعة وارتفاع إنتاج الدولة من محصولي القمح والأرز، ومن المتوقع أن يسجل إنتاج الحبوب الغذائية مستوى قياسيًا قدره 150.5 مليون طن، ويمكن متابعة تطور القيمة الإجمالية الحقيقية للزراعة والقطاعات المرتبطة بها من خلال الشكل التالي:
ويرجع تحقيق القطاع أداءاً قوياً كما يوضحه الشكل السابق إلى بدعم من سياسات الحكومة التي وفرت إمدادات البذور والأسمدة في الوقت المناسب على الرغم من الاضطرابات المرتبطة بالوباء، كما ساعدت الأمطار الموسمية الجيدة وارتفاع مستويات الخزانات بأعلى من متوسط 10 سنوات.
- أما القطاع الصناعي: فقد شهد القطاع والقطاعات الفرعية له تقلبات كبيرة بسبب الوباء، إلا أنه تشير التقديرات إلى أن إجمالي القيمة المضافة لقطاع الصناعة (بما في ذلك التعدين والبناء) سيرتفع بنسبة كبيرة ليصل إلى 11.8% عام 2021/2022 بعد أن حقق نمواً سالباً بنسبة -7% عام 2020/2021، وتطورت نسبة مساهمة القطاع من إجمالي القيمة المضافة من 26.7% ليتراجع إلى 25.9% إلا انه عاد ليساهم بنسبة 28.2%.
وارتفع الإنتاج الصناعي في الهند بنسبة 3.1% في سبتمبر 2022 ليحقق انتعاش بنسبة 1.8% بعد التراجع الذي حققه -0.7% في أغسطس 2022، مدعوماً بزيادات في إنتاج المعادن الأساسية 5.8% والفحم والمنتجات البترولية المكررة بنسبة 9.8%، والمنتجات الغذائية 5.3%، والآلات والمعدات 5.3%، والسيارات والمقطورات وشبه المقطورات 29.9%، والمنتجات المعدنية وغير المعدنية 9.3%، بالإضافة إلى ذلك ، ارتفع الإنتاج لكل من التعدين 4.6% مقابل 3.9% في أغسطس، والكهرباء (11.6% مقابل 1.4%).
ومن بين السلع الأساسية المستعملة، ارتفع إنتاج السلع الأولية بنسبة 9.3% في سبتمبر من هذا العام، في حين قفز إنتاج السلع الرأسمالية بنسبة 10.3%، وارتفع إنتاج السلع الوسيطة بنسبة 2.0% وارتفعت سلع البنية التحتية / البناء بنسبة 7.4%، بحسب بيانات وزارة الإحصاء وتنفيذ البرامج الهندية، ويمكن متابعة تطور الإنتاج الصناعي من خلال الشكل التالي:
ويعود سبب التحسن في القطاع إلى المبادرات الحكومية مثل سياسة التصنيع الوطنية التي تهدف إلى زيادة حصة التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي إلى 25% بحلول عام 2025، وإطلاق مخطط يسمى “نظام الحوافز المرتبط بالإنتاج” لتطوير القطاع الصناعي ليواكب معايير التصنيع العالمية بهدف تعزيز التصنيع المحلي والاستثمارات والتصدير ووضع الهند على خريطة العالم كمركز للصناعة .
ومع ذلك مازال القطاع الصناعي الهندي يواجه عدد من التحديات وعلى رأسها ضعف كفاءة البنية التحتية وهو ما دفعها مؤخراً لجذب الاستثمارات وزيادة الإنفاق على مشاريع البنية التحتية، والتحيز نحو القطاعات الصناعية والخدمية متوسطة وكبيرة الحجم على حساب قطاع المشروعات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، كما أنه لا تزال الهند تعتمد على الواردات الأجنبية لمعدات النقل والآلات (الكهربائية وغير الكهربائية) والحديد والصلب والورق والكيماويات والأسمدة والمواد البلاستيكية وما إلى ذلك.
- قطاع البناء: أدى ارتفاع الإنفاق الرأسمالي من قبل الحكومة على البنية التحتية وزيادة الإسكان إلى إنعاش قطاع البناء، وقد سمح ذلك بالتوسع في إنتاج واستهلاك الحديد والأسمنت، وتظهر الإحصاءات التي قدمها بنك الاحتياطي الهندي وشركات عقارية رائدة انتعاشًا كبيرًا في سوق العقارات السكنية الهندية في عام 2021 من حيث النمو في المبيعات والأسعار وعمليات الإطلاق الجديدة، وهناك توقعات بأن ينمو القطاع بنسبة 10.7%، ومن المتوقع أن ترتفع حصة مساهمة القطاع من إجمالي القيمة المضافة لتصل إلى 8% عام 2022 بعد أن كانت 7.2% عام 2021.
- قطاع الخدمات: يمثل القطاع أكثر من نصف الاقتصاد الهندي وهو محركًا لنمو الاقتصاد الهندي، ويساهم بنسبة 53% في إجمالي القيمة المضافة للهند في العام 2021/2022، وبقيمة 1439.5 مليار دولار أمريكي عام 2020 مقارنة 1005.3 مليار دولار أمريكي عام 2016، وبين العامين الماليين 2016-2020 ارتفعت الخدمات المالية والعقارية والمهنية بمعدل نمو سنوي مركب بلغ نحو 11.7%.
وتأثر القطاع بشدة بالقيود المرتبطة بجائحة كورونا، وعلى الرغم من أن القطاع انكمش لأول مرة بنسبة 8.4% في 2020/2021، إلا أنه من المتوقع أن ينمو بنسبة 8.2% عام 2021/2022، وارتفع صافي صادرات الخدمات أيضًا بشكل حاد، مدفوعًا بخدمات الاستشارات المهنية والإدارية، والخدمات السمعية والبصرية والخدمات ذات الصلة، وخدمات نقل البضائع، والاتصالات السلكية واللاسلكية، وخدمات الكمبيوتر والمعلومات، ومن المتوقع أن ينمو إجمالي صادرات الهند بنسبة 16.5% عام 2022.
ومع قطاع الخدمات الأسرع نموًا (9.2%) على مستوى العالم، يمثل القطاع 66% من الناتج المحلي الإجمالي للهند ويولد حوالي 28% من إجمالي العمالة في الهند.
وبالرغم من تباطؤ الطلب العالمي وقيام البنوك المركزية بتشديد السياسة النقدية لإدارة الضغوط التضخمية، جاءت التوقعات بفضل الجهود التي تبذله الدولة والتركيز على القطاعات ذات النمو الأعلى وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر والإنفاق على مشاريع البنية التحتية بأن الهند ستكون ثاني أسرع الاقتصادات نمواً في مجموعة العشرين في السنة المالية 2022/2023، وبشكل خاص بعد تفوقت الهند على المملكة المتحدة لتصبح خامس أكبر اقتصاد في العالم، بعد معاناة بريطانيا من التضخم المستمر والمتسارع وتعرض الاقتصاد البريطاني لأزمة ركود والتي من المتوقع استمرارها حتى عام 2024، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تسبق الهند بأكثر من ذلك لتصل إلى المرتبة الرابعة حتى عام 2027 مع بقاء الاقتصاد البريطاني في المرتبة السادسة.