تعرض بنك «باركليز» فى بريطانيا لأزمة إفلاس حادة عام 2008م، ما دفعه إلى التفكير فى بعض من مخارج الهروب، التى قد تنجيه من هذا الشبح، وتمحورت الأزمة حول ما يعرف فى النشاط المصرفى بـ«زيادة رأس المال الإضافى»، وفى سياق بحث البنك عن تلك المخارج كان أمامه خياران، إما أن يلجأ إلى أموال من الحكومة البريطانية، أو تغطية احتياجاته من عملاء كبار قادرين على تعويم أزمة التمويل، اختار بنك «باركليز» الحل الثانى، هرباً من الحل الأول الذى رأى البنك حينها أن الأموال الحكومية ستعرض البنك للمراقبة الحكومية الصارمة والسيطرة التى قد تفقده استقلاليته، الرئيس التنفيذى للبنك فى ذلك الوقت «جون فارلى»، يخضع الآن لمحاكمة قضائية، تبحث فيما تم الكشف عنه من ملابسات توفير البنك للتمويل الذى كان فى الاحتياج إليه، أولى تلك الملابسات، التى أكدتها الأوراق الرسمية للبنك، أن العميل الذى اعتمد عليه البنك للعبور من أزمته، هما «جهاز قطر للاستثمار» و«شركة قطر القابضة»، وكلتا الجهتين قدمتا للبنك تمويلاً على هيئة استثمارات مباشرة سائلة بقيمة (4 مليارات جنيه إسترلينى)، وبالنظر إلى أن كلتا الجهتين من الجهات رفيعة المستوى بداخل قطر، وهما المسئولتان بشكل مباشر عن إدارة الصناديق الاستثمارية السيادية للدولة، فضلاً عن المحافظ المالية المتنوعة التابعة لكلتيهما، لذلك احتاج الأمر لتمرير قرار التمويل لصالح بنك «باركليز» من شخصية نافذة فى دائرة الحكم القطرية العليا، وهنا ظهر «حمد بن جاسم» الطفل المعجزة، الذى كان حينئذ يلعب كحصان قطرى رابح على مختلف الأصعدة السياسية والإعلامية والاستثمارية أيضاً!
بالنظر إلى إدارة صناديق الثروة السيادية القطرية، التى جاءت تلك القضية لتكشف عن بعض مما يجرى العبث به، خلال عملها وتوجهاتها التى أصبح من المتعارف عليه الآن، أن الدوحة استخدمتها لعقود فى تثبيت أقدامها، على تقاطعات طرق النفوذ الدولى، فثمة مخطط لا علاقة له بالاستثمار الخالص ظل يحكم عمل تلك الصناديق والمحافظ، فى شرق العالم وغربه وعلى مختلف محاور الاهتمام وصناعة القرار، فضلاً عما تستهدفه من الإمساك بناصية الملفات، ففى نهاية عام 2017 جاء تقرير (SWF Institute) المتخصصة فى دراسة استثمارات الحكومات والصناديق السيادية العالمية، ليضع «جهاز قطر للاستثمار» فى المرتبة العاشرة عالمياً، بإجمالى أصول بلغت (320 مليار دولار أمريكى)، حيث ذكر التقرير أن قطر عززت استثماراتها فى مختلف دول العالم عبر سنوات، من خلال الصناديق السيادية التابعة للجهاز، ما مكنها من ترسيخ وتنوع استثماراتها حول العالم، جرى ذلك بالطبع على خلفية نجاح رأس المال القطرى فى أن يجد موطئ قدم له فى أكثر من مكان جديد، من خلال صفقة هنا أو استحواذ هناك، أو مشروع استثمارى فى سوق دولية معينة.
الأمثلة المعلنة لخطط التوغل القطرية عبر «جهاز قطر للاستثمار» متخمة بالتنوع والمفاجآت، التى يكشف البعض منها ما وراء الستار من حصاد سياسى تجنيه الدولة القطرية، جراء تلك الشراكات والأنصبة وعمليات الإنشاء والاستحواذ، فالصندوق القطرى بلغت استثماراته فى بريطانيا محل قضية الفساد الأخيرة وحدها أكثر من (40 مليار دولار)، من خلال امتلاكه حصصاً مهمة فى فندق «سافوى» بالعاصمة لندن، و«إنتركونتيننتال» فى منطقة بارك لين، وناطحة السحاب «شارد»، بالإضافة إلى متجر «هارودز» وبرج بنك «إتش إس بى سى»، فضلاً عن عشرات المحافظ العقارية التى تعمل بنشاط، كذا يعد الصندوق أكبر مساهم فى مجموعة «جيه سينسبيرى» ثالث أكبر متاجر التجزئة البريطانية، كما يمتلك حصة تساوى (20%) من مطار «هيثرو» البريطانى. الأربعاء الماضى؛ استمعت المحكمة البريطانية «ساوثوارك كراون» للمدعى «إدوارد براون»، ولإفادات مكتب «مكافحة جرائم الاحتيال الخطيرة» فى دعواه، المرفوعة ضد أربعة مسئولين تنفيذيين سابقين فى بنك «باركليز» على خلفية كفالة الإنقاذ المالى البالغة قيمتها 11.8 مليار إسترلينى، كشفت القضية أن البنك دفع رسوماً لقطر فى مقابل تلقى استثمارات بقيمة (4 مليارات جنيه إسترلينى) خلال عام 2008، بعضها كانت عمولات إضافية مخبأة فى صورة اتفاقيتين وصفت بأنها اتفاقيات خدمات استشارية، فى الوقت الذى كشفت فيه القضية أن هذه الرسوم تساوى أكثر من ضعف الرسوم المدفوعة للمستثمرين الآخرين فى البنك، لم يتمكن المسئولون الأربعة بالبنك أيضاً من إثبات ما هى طبيعة تلك الخدمات الاستشارية، وهل جرت فعلياً من عدمه.
ربما هذه هى المرة الأولى التى تتخذ فيها إجراءات جنائية بهذا المستوى ضد مسئولين تنفيذيين كبار، بحجم «جون فارلى» الرئيس التنفيذى السابق للبنك، و«روجر جنكينز» الرئيس التنفيذى لقطاع الاستثمار، و«توماس كلاريس» رئيس قطاع الثروات، و«ريتشارد بوث» رئيس قطاع المؤسسات المالية الأوروبية، من المتوقع أن تستمر المحاكمة من أربعة إلى ستة أشهر، وفق المصادر القضائية البريطانية، وقد تشهد العديد من المفاجآت غير مجرد كشفها عن تلك الحصص السرية، التى تم سدادها من قبل البنك إلى شخصيات نافذه بحجم «حمد بن جاسم» الذى كان يشغل حينها منصب رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها فى آن واحد، فأمام المحكمة وبأوراق القضية ذكر أن «رئيس الوزراء القطرى السابق طلب العمولة لتأمين استثمار قطرى بالبنك»، وثبت فعلياً سداد البنك لما قيمته (322 مليون جنيه إسترلينى)، مقابل توفير استثمارات مالية لإنقاذ البنك من الإفلاس، أمام هيئة المحلفين فى اليوم الثالث من المحاكمة المنعقدة فى لندن الأسبوع الماضى، اعترف كبار التنفيذيين فى «بنك باركليز» أن حصول «حمد بن جاسم» على «رسوم» يعد «خطأ ونوعاً من التحايل»، فماذا يمكن أن يحدث بعد هذه الخطوة، هل يجر هذا الاعتراف كشف النقاب عن مزيد من الوقائع تتجاوز «العمولة» غير القانونية، أم يمكن انتظار طلب لمثول «بن جاسم» للمحاكمة من أجل الإدلاء بإفادته؟ حينها قد تنكشف مساحات أعمق من التعاون جرت ما بين قطر «السيادية» وأذرع أخرى نافذة بحجم «باركليز» فى العاصمة البريطانية.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ٢٩ يناير ٢٠١٩.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية