شهدت بدايات العام الماضي مرحلة متقدمة من التعافي الاقتصادي من جائحة كورونا بعد أكثر من عامين دخلت فيهما اقتصادات الدول في أعمق ركود عالمي منذ الحرب العالمية الثانية، إلا أنه مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير أصبح الاقتصاد العالمي في خطر مرة أخرى، ليواجه تحديات كبيرة من تراجع النمو واستمرار وتيرة صعود معدلات التضخم، وصاحب ذلك نقص في سلاسل التوريد وتذبذب أسواق الطاقة والغذاء، والذي دفع البنوك المركزية الكبرى لاتخاذ سياسة تشددية، ورفع أسعار الفائدة مرات عدة خلال العام ساهمت في زيادة متلاحقة في تكاليف الاقتراض العالمية، لتترك الدول النامية ومنخفضة الدخل تواجه رياحًا معاكسة أخرى كبيرة متمثلة في ارتفاع مخاطر أزمة الديون وانعدام الأمن الغذائي، مع احتمال أن تواجه الدول ظاهرة تضخم مصحوبة بركود لم يشهده العالم منذ السبعينيات، وحتى لو تم تجنب الركود العالمي فإن آلام الركود التضخمي يمكن أن تستمر لعدة سنوات إذا لم يتم السيطرة على معدلات التضخم والتأثير على المعروض في أسواق الطاقة والغذاء العالمية.
أولًا: الاقتصاد العالمي في ظل الأزمات التي يواجهها
واجه الاقتصاد العالمي جائحة كوفيد-19 في شتاء 2019-20 وانتشر في جميع أنحاء العالم ليشهد أسوأ ركود شهدناه على الإطلاق باستثناء الحرب، وفي طريق التعافي من الوباء أدت الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير من العام الماضي إلى تفكيك القاعدة العالمية لمصادر الطاقة لتطلق العنان لتصاعد حاد في أسعاره مما أدى إلى عودة معدلات التضخم إلى ذروة السبعينيات، وحدوث اختناقات العرض في سلاسل القيمة العالمية، والسياسات الاقتصادية التيسيرية التي تهدف إلى تعزيز التعافي بعد الوباء والسيطرة على التضخم، لتجلب تلك الأحداث تحديات خطيرة أمام تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي على المدى القصير إلى المتوسط وكذلك تغييرات أعمق في طريقة هيكلة اقتصادات الدول وعملها.
وعلى الرغم من زيادة النشاط مع انخفاض إصابات جائحة كورونا في جميع أنحاء العالم إلا أن النمو العالمي ظل ضعيفًا خلال عام 2022، ويمكن متابعة تطور نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي من خلال الشكل التالي:
منذ عام 2012 وحتى عام 2018 أي قبل الجائحة كان نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي ثابتًا نسبيًا ويتراوح بين 3.5-3.7%، وفي عام 2020 أثناء جائحة كورونا تقلص الاقتصاد العالمي بالفعل، ومع استمرار الاقتصاد العالمي في التعامل مع التأثير الاقتصادي للوباء، فضلًا عن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022، وبعد أن حقق الاقتصاد العالمي نموًا عام 2021 ليصل إلى ذروته 6.02% تراجع بسبب الحرب لتأتي التوقعات بتحقيق الاقتصاد العالمي نموًا سيبلغ 3.19% عام 2022.
ثانيًا: مستقبل الاقتصاد العالمي
لا يزال المستقبل غير مؤكد، لكن التقديرات الحالية تشير إلى أن النمو السنوي للاقتصاد العالمي سيتراجع ليصل إلى 2.66% العام الحالي 2023، وسيعود إلى أرقام ثابتة تبلغ حوالي 3.18% في عام 2024، ليرتفع قليلًا مسجلًا 3.36% عام 2025، ليتراجع قليلًا ليصل إلى 3.34% عام 2026 وليصل إلى 3.25% عام 2027، كما هو موضح في الشكل السابق، ومن الممكن متابعة نمو الناتج المحلي الإجمالي لبعض الدول من خلال الشكل التالي:

من بين الدول السابقة سيحقق الاقتصاد الهندي نموًا سيبلغ 6.6% عام 2022 ليتراجع قليلًا محققًا 5.7% عام 2023 ثم يعاود الصعود مسجلًا نموًا قدره 6.9%، كما تشير التوقعات إلى أن الاقتصاد السعودي سيتجاوز معدلات نمو الدول السابقة عام 2022 متجاوزًا نمو الاقتصاد الهندي عام 2022 ليحقق نموًا بمقدار 9.8% إلا أنه سيتراجع بعد ذلك ليأتي في المرتبة الثانية بعد الهند عام 2023 ليحقق نموًا بنحو 5% ومن ثم 3.5% عام 2024.
وفي المقابل، تشير التوقعات إلى تحقيق الاقتصاد الروسي معدلات سالبة، إذ تشير الأرقام إلى تسجيل الاقتصاد الروسي انكماشًا ليصل إلى -3.9% عام 2022 ومنه إلى -5.9% عام 2023 ليتحسن قليلًا ليسجل -0.2%، أما الاقتصاد البريطاني سيشهد تراجعًا على غير المعتاد محققًا 4.4% عام 2022 ليتراجع ليسجل -0.4-% عام 2023 ليتحسن بعد ذلك ليصل النمو إلى 0.2% عام 2024. ألمانيا أيضًا سينكمش اقتصادها عام 2023 ليسجل -0.3% إلا أنه سيرتفع ليصبح 1.5% عام 2024.
ومن العوامل الرئيسية التي أدت إلى توقع تباطؤ النمو العالمي التشديد العام للسياسة النقدية، مدفوعًا بتجاوز أكبر من المتوقع لأهداف التضخم، ويمكن متابعة تطور معدلات التضخم العالمية في السنوات القادمة من خلال الشكل التالي:
ومع اشتداد الضغوط التضخمية من المتوقع أن يؤدي تشديد السياسة النقدية وارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية، واستمرار ارتفاع أسعار الطاقة، وضعف نمو الدخل الحقيقي للأسر وتراجع الثقة، إلى إضعاف النمو، فضلًا عن تأثر اقتصادات الدول النامية، إذ شهدت 90 دولة نامية ضعف عملاتها مقابل الدولار هذا العام، أكثر من ثلثها بأكثر من 10%، كما ارتفع سعر الواردات في الدول النامية. فعلى سبيل المثال، قد تؤدي زيادة أسعار الفائدة عام 2022 في الولايات المتحدة إلى خفض 360 مليار دولار من الدخل المستقبلي للبلدان النامية.
كما أثرت عمليات الإغلاق الصارمة المرتبطة بسياسة الصين الصفرية لجائحة كورونا على الاقتصاد الصيني والعالمي، وجاءت التوقعات بشأن الاقتصاد الصيني تحقيقه نموًا بنحو 3.3% عام 2022 ليزيد بحوالي 4.6% عام 2023 ليتراجع النمو بشكل طفيف ليصل إلى 4.1% عام 2024.
وتشهد الولايات المتحدة وأوروبا تباطؤًا حادًا، فمن المتوقع أن تسجل الولايات المتحدة الأمريكية نموًا يصل إلى 1.8% عام 2022 ليتراجع محققًا نموًا بمقدار 0.5% عام 2023 ليتحسن بنحو 1% عام 2024، أما منطقة اليورو فستحقق نموًا بـ 3.3% عام 2022، إلا أنه سينخفض ليصل إلى 0.5% عام 2023 ليرتفع بعد ذلك ليصل إلى 1.4% عام 2024.
ومن هنا، يمكن القول إنه بالرغم من أن الساحة الدولية تبين حالة من التنافس بين دول الحرب واتجاههم نحو محاولة استقطاب الدول مما يضعف الأمل، على الأقل في الوقت الحالي، في نظام عالمي أكثر تعاونًا يسعى لتحقيق معدلات نمو اقتصادي واستقرار اقتصادات الدول؛ إلا أنه لا يزال الطريق متاحًا للتغلب على النكسات الاقتصادية الحالية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ويتطلب ذلك تضافر الجهود خاصة مع إلحاح أزمة تكلفة المعيشة وتعزيز الاستثمار المنتج، وتوسيع تدابير إعادة التوزيع لتعزيز الأسواق المحلية وتعزيز ثقة الشركات والأسر.
ويجب التأكيد على أنه لا تستطيع السياسة النقدية وحدها خفض التضخم ورفع معدلات النمو الاقتصادي، فلا بد من معالجة قضايا جانب العرض في أسواق التجارة والطاقة والغذاء لحل أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة والتي قد يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة بالفعل إلى تفاقمها، وبالتالي على الدول -وبشكل خاص الدول النامية- أن تقوم بضبط الأسعار ومنع الممارسات الاحتكارية وتنظيم الأسواق، لتحقيق توزيع أكثر إنصافًا للدخل.
أيضًا لا بد من تعزيز القطاع الصناعي والحفاظ على خلق فرص عمل مستدامة وتوفير السيولة للمشاريع التنموية، كما أن هناك حاجة إلى زيادة الاستثمار العام في البنية التحتية لتعزيز العمالة وزيادة الإنتاجية والتحول السريع نحو بدائل للوقود الأحفوري وتحسين كفاءة الطاقة وتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
كما أنه لا بد من القضاء على المضاربات التي تساهم بالفعل في تقلب هائل في أسعار الطاقة، إذ تساهم الأرباح الطائلة التي تتلقاها الشركات العاملة في القطاع إلى المزيد من الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها الأسر في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء، بالإضافة إلى ذلك لا بد من تحقيق الاستقرار في أسواق الغذاء العالمية وتوفير سلاسل التوريد لتقليل التقلبات في أسعار السلع الاستراتيجية، خاصة أن الحرب أدت إلى ضعف الإمدادات وزيادات كبيرة في أسعار العديد من المنتجات والمدخلات الزراعية وبالتالي لا بد من تحسين الأمن الغذائي لعودة استقرار الأسعار، وحتى تنفيذ تلك السياسات يبدو أن العالم سيواجه حالة من استمرار معدلات التضخم وتباطؤ معدلات النمو، وهذا من شأنه أن يدفع بالعديد من اقتصادات الدول إلى الركود في عام 2023.