تشكل الحرب الروسية – الأوكرانية أكبر أزمة يواجهها النظام الدولي منذ نهاية الحرب الباردة. وفي ظل ما يبدو عليه الواقع من احتمال تحول الحرب نحو صراع طويل الأمد، وجدت دول العالم نفسها أمام مزيد من التعقيدات السياسية والاقتصادية، أضحى معها ضروريًّا البحث أولًا في طبيعة النظام الدولي الراهن، ومن ثم كيفية فك تعقيداته وتشابكاته.
وخلال العقود الثلاثة الماضية، شهد النظام الدولي عددًا من التحولات المؤثرة في بنيته وتوزيع القوة بداخله، تمثلت البداية في الانتقال من نظام ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية؛ حيث انتصار الولايات المتحدة ونموذجها الليبرالي، في مقابل فشل النموذج الاشتراكي السوفييتي، واعتبار الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة المهيمنة على الساحة الدولية، وقد ارتبط بهذا الانتصار بروز العديد من المفاهيم، لعل من أهمها “نهاية التاريخ” و”النظام العالمي الجديد”، وهي المفاهيم التي وضعت بمقتضاها الولايات المتحدة – بمشاركة الغرب الأوروبي – قواعدها للنظام الدولي الليبرالي.
وعلى الرغم من سعي الولايات المتحدة للحفاظ على دورها القيادي المتفرد، كان لتداعيات الأزمة المالية العالمية في عام 2008 تأثير معرقل لهذا المسعى، وهو ما تمثل في تراجع هيمنة الولايات المتحدة على مؤسسات النظام الدولي، ومن ثم تراجع قدرتها على التأثير في مجرياته. وظهر جليًّا أن النظام الدولي في حالة انتقال، وأن هناك قوى أخرى على خريطة النظام الدولي، أصبح لها دور فاعل ومؤثر في بنيته.
وفي ضوء الحرب الأوكرانية، وما ارتبط بها من محاولات القوى الفاعلة بالأزمة استقطاب قوى أخرى إلى صفها، تصاعد الجدل – مجددًا- بشأن دخول النظام الدولي مرحلة جديدة من تعددية الأطراف. لقد أثبتت الحرب تجاوز النظام الدولي ترتيبات الحرب الباردة، وعدم تقيد الفاعلين فيه بالرؤية الغربية لما ينبغي أن يكون عليه مسار هذه الحرب؛ حيث ارتكزت ردود الفعل على إعلاء قيمة المصلحة الوطنية لكل دولة؛ الأمر الذي أدى ببعض التحليلات إلى النظر إلى الحربباعتبارها صراعًا بين معسكرين رئيسيين، يقود المعسكر الأول الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، فيما تتولى روسيا والصين زمام المعسكر الآخر.
وسواء كان هناك اتفاق أو اختلاف حول قبول الفاعلين بالنظام الدولي للعودة مرة أخرى إلى تبني سياسة المعسكرات، فإن ما يلفت الانتباه هنا هو مدى قدرة العلاقات الروسية الصينية على إحداث تأثير على النظام الدولي، لا سيّما مع ما يردده الشريكان الروسي والصيني دومًا بشأن ضرورة الدفع نحو عالم متعدد الأقطاب، وما تقدمه بعض التحليلات حول كون الأزمة العالمية الراهنة أبعد من مسألة نزاع روسي أوكراني، وإنما تندرج في إطار محاولات موسكو وبكين لإعادة رسم خارطة النفوذ الدولي وميزان القوى العالمي، وتقليص الهيمنة الأمريكية والغربية العالمية.
تبرز العلاقات الروسية الصينية لتقدم نموذجًا لكيفية إدارة العلاقات بين الدول؛ حيث تعبر الشراكة الروسية الصينية عن علاقة بين اثنتين من القوى الكبرى في العالم؛ ففي غضون ثلاثة عقود فقط، حولت الصين نفسها من دولة منعزلة إقليميًّا في شرق آسيا إلى جهة فاعلة عالمية لا يتجاوز ثقلها سوى الولايات المتحدة. وفي حين أن تصنيف روسيا باعتبارها قوة كبرى داخل النظام الدولي لا يزال محلًا للنقاش، فإن تحركاتها وممارساتها على الصعيد الدولي تثبت ما تمتلكه موسكو من قوة تأثير عالمية.
في الواقع، فإن مدى قدرة الشريكين الروسي والصيني على إعادة تشكيل النظام الدولي، هو أمر موضع تساؤل وبحث كبير. بمعنى آخر: هل باستطاعة العلاقة التاريخية والشراكة الوثيقة بين روسيا والصين التأثير في ترتيب وإعادة هيكلة النظام الدولي؟ هذا بالنظر إلى ما تواجهه هذه العلاقة حاليًّا من اختبار مثل الحرب الروسية الأوكرانية، أو ممارسات أمريكية من شأنها تضييق واحتواء هذه الشراكة.
وبناءً على ذلك، يُقدم الكتاب المُعنون بـ “روسيا والصين والشراكة لعصر جديد.. محفزات وقيود“، الصادر في يناير 2023، عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، للكاتبة نوران عوضين، رؤية لطبيعة العلاقات الروسية الصينية، تتعدى مجرد طرح نمط وطبيعة التعاون الحالي، بل تمتد إلى مناقشة عوامل التنافس، وما قد يعرقل مسار هذا النمط التعاوني.
كما يناقش الكتاب رؤية كلتا الدولتين حيال موقعهما في بنية النظام الدولي، ويقدم توقعات بشأن مستقبل العلاقات بين البلدين، ومدى إمكانية تشكيلهما تحالف دولي مواجه للولايات المتحدة من شأنه تغيير تراتبية النظام الدولي. بمعنى آخر، يبحث الكتاب في حدود تأثير الشراكة الروسية الصينية على مستقبل النظام الدولي.