تُصدر مُنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المُتحدة (فاو) FAO، تقريرًا شهريًّا عن الوضع العالمي للغذاء يتضمن مؤشرها حول أسعار الغذاء FFPI الذي تَرصُد من خلاله تَغيُّرَ أسعار السلع الغذائية الأساسية في الأسواق الدولية. وقد أشارت آخر نُسخة من هذا التقرير، الصادر في ديسمبر الماضي، إلى انخفاض أسعار الغذاء في المُجمل خلال عام 2018 بنسبة 3.5٪ مقارنة بعام 2017، وبنسبة 27٪ تقريبًا مقارنةً بعام 2011 الذي بلغ فيه المؤشر أعلى مستوى في تاريخه. وجاء الانخفاض في العام الماضي نتيجة لانخفاض أسعار السكر والزيوت النباتية واللحوم والألبان عن مستوياتها في عام 2017، إلا أن المؤشر شهد ارتفاعًا في أسعار جميع الحبوب الرئيسية في عام 2018.
انخفاض ضمن موجة ارتفاعات
جاءت هذه الزيادة في أسعار الحبوب مدعومة، من ناحية، بارتفاع الطلب الناتج عن النمو في اقتصادات الدول النامية وما يُسببه ذلك من ارتفاع للقوة الشرائية لدى سكانها، بالإضافة إلى أن زيادة الاستثمارات في أسواق السلع الآجلة وسّعت سوق المُضاربات، وعززت الضغوط على جانب الطلب. ومن ناحية أخرى، فقد دعم هذه الزيادة في الأسعار انخفاض العرض الناجم عن انخفاض المحصول في مناطق الإنتاج الرئيسية بسبب الأحوال المناخية غير المواتية، وكذلك استخدام كميات كبيرة من المحاصيل (بلغت 40% من الذرة في الولايات المُتحدة الأمريكية) لإنتاج الوقود الحيوي، خاصةٍ الإيثانول، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة الشحن العالمية بسبب التذبذب في أسعار الوقود والأحوال الأمنية غير المُستقرة في بعض المسارات البحرية الرئيسية. كما ساهم في هذه الزيادة أيضًا انخفاض مخزونات الحبوب إلى مستويات ضئيلة مُقارنة بحجم الاستخدام، ما أدى إلى تقليل كمية المخزون المخصصة لتوقي صدمات العرض والطلب.
ومن الجدير بالذكر أنه رغم انخفاض
المؤشر خلال عام 2018 عن مُعدلاته في عام 2017، إلا أن هذا الانخفاض يأتي ضمن موجة
ارتفاعات تشهدها السوق العالمية بدأت في 2007 لتبلغ ذروتها في 2011، ثم عادت
للانخفاض مجددًا لمدة خمسة أعوام مُتتالية، لكن الأسعار في المجمل خلال هذه الموجة
ظلت أعلى من مستوياتها بنحو 27% على الأقل مقارنة بمستوياتها قبل 2007. ويُتوقع
لهذه الموجة من الارتفاعات أن تستمر خلال المديين المتوسط والبعيد، وذلك في ضوء استمرار
الأسباب السابقة وتوطدها، ما يدفع في اتجاه الارتفاع النسبي للطلب، وانخفاض المعروض
من المواد الغذائية في العموم. فعلى سبيل المثال، تتوقع منظمة “فاو” ومنظمة
التعاون الاقتصادي والتنمية OECD أن يزيد الاستهلاك
العالمي للقمح بنسبة 13٪ بحلول عام 2027، وسيأتي ما يقرب من نصف هذه الزيادة في
الاستهلاك من الصين (+23)، والهند (+12)، وباكستان (+6) ومصر (+4) مليون طن، ويوضح
الشكل التالي التغيُر في المؤشر مُنذ 1990 وحتى 2018.
شكل رقم (1): التغير في مؤشر FAO لأسعار الغذاء مُقارنة بالتغير في أسعار الحبوب
حدود التأثير على الاقتصاد المصري
جدير بالذكر أن مصر تعد من أهم مستوردي الحبوب، وخاصة القمح، حيث تحتل -في الغالب- المركز الأول عالميًّا، إذ بلغت وارداتها منه 12.5 مليون طن في عام 2018 بزيادة قدرها 0.75% عن عام 2017، ومن المتوقع استمرار ارتفاع مُعدل الواردات سنويًّا.
وتأتي هذه الأرقام في وقت يُعاني فيه الاقتصاد المصري من مُعدلات تضخم وعجز في الموازنة العامة للدولة، وهو ما يدفع إلى تقصي تأثير مثل هذه الزيادات المُتوقعة في أسعار الحبوب على الاقتصاد المصري.
ويُعاني الاقتصاد المصري من مُعدلات تضخم بلغت في عام 2016/2017 أعلى مُعدل لها في 20 عامًا بنسبة 23.5%، ثم انخفضت خلال العام المالي 2017/2018 إلى 21.2%. وقد جاءت الزيادة في معدل التضخم في الأساس نتيجة لتحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار في عام 2017، وتخفيض مُخصصات دعم المواد النفطية خلال العامين الماضيين، إضافة إلى زيادة معدلات ضريبة القيمة المضافة.
ويُعد قسم الطعام أعلى الأقسام وزنًا
ضمن مؤشر أسعار المُستهلكين المصري CPI (مقياس التضخم)
بمجموع 4281.33 نقطة من عشرة آلاف هي إجمالي وزن المؤشر، أي إن الغذاء وحده يستحوذ
على نسبة 42.8% من معدل التضخم الإجمالي. وعلى وجه الخصوص، تُشكل سلع الحبوب
والخُبز 7%، والزيوت والدهون 3.85%، والسكر والأغذية السكرية 2% من وزن المؤشر، ودائمًا
ما يُشكل ارتفاع أسعار هذه المجموعة قاطرة لدفع مُعدلات التضخم، إذ تميل مُعدلات
هذه المجموعة في العموم إلى الارتفاع بنسب أعلى من مُعدل التضخم العام. ويوضح
الشكل التالي تطور معدل التضخم العام مقارنة بنسبة التضخم في مجموعة سلع الطعام.
شكل رقم (2): تطور معدل التضخم خلال الفترة من 2006 حتى 2018، مُقارنة بالتضخم في أسعار الغذاء
من ناحية أخرى، شهدت مصر نموًّا مُتسارعًا في عدد السُكان نتيجة للارتفاع الكبير في مُعدل المواليد وانخفاض مُعدل الوفيات، مُتزامنًا مع تراجع في المساحة المزروعة من الأراضي الزراعية، وانخفاض كميات المياه المُخصصة للزراعة، وهو ما أدى في النهاية لزيادة الاعتماد على الخارج، وانخفاض نسبة الاكتفاء الذاتي في عدد كبير من السلع الزراعية. فقد بلغت نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح 47.7%، و56.3% في الذرة، وهو ما خلق فجوة غذائية في هذين المحصولين قُدرت في عام 2016 بنحو 10.8 ملايين طن قمح، و6.06 ملايين طن ذرة، ما اضطر الحكومة للاعتماد على الأسواق الدولية لسد هذه الفجوة وتلبية الطلب.
وبهذا المعنى، وبعيدًا عن الاتجاه العام الذي سيأخذه المعدل العام للتضخم، ستظل هناك عوامل أخرى تدفع معدل التضخم الخاص بسلع الطعام، خاصة في ضوء التوقعات بارتفاع الطلب على الحبوب في العالم بشكلٍ عام وبشكل خاص في مصر. إذ توقعت كُل من مُنظمتي FAO وOECD ارتفاع الطلب المصري على مجموعة الحبوب الأساسية (قمح، ذرة، أرز، فول صويا) في عام 2019 بنسبة 5% مقارنة بعام 2018، ويُمثل الوزن النسبي لهذه المجموعة 7% من وزن مؤشر أسعار المُستهلكين المصري. ويوضح الجدول التالي توقعات أسعار المواد الغذائية خلال عام 2019 ومُعدلات ارتفاعها مقارنة بأسعار عام 2018.
جدول رقم (1): توقعات أسعار المواد الغذائية خلال عام 2019 ومُعدلات ارتفاعها مقارنة بأسعار عام 2018
وتحاول الدولة تخفيف الأعباء الاقتصادية عن المواطنين، حيث تتحمل الموازنة العامة بعض أعباء بعض السلع الغذائية الأساسية، وذلك من خلال تحمل الدولة الفارق بين الأسعار العالمية وتلك التي تُباع بها هذه السلع للمواطنين في السوق المحلية، فيما يُسمى بدعم السلع التموينية، والذي تُدرج مُخصصاته ضمن الباب الرابع (باب الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية) من الموازنة العامة للدولة. وقد بلغت مُخصصات هذا البند 404.9 مليار جنيه خلال الفترة من (2006/2007) إلى (2017/2018)، أي ما نسبته 19.4% من إجمالي مُخصصات الباب. وعادة ما تتجه هذه المُخصصات إلى الزيادة في كُل عام عن العام السابق، مدفوعة بالزيادة أحيانًا في أسعار المواد الغذائية، والزيادة المستمرة في عدد المواطنين المُستفيدين من الدعم. وقد بلغت هذه المُخصصات أقصاها خلال الفترة المُشار إليها في العام المالي (2017/2018) حيثُ وصلت إلى 80.5 مليار جنيه، وبنسبة 24.4% من إجمالي مُخصصات الباب بزيادة قدرها 41% عن إجمالي مُخصصات العام السابق، ويُقارن الشكل التالي بين إجمالي مُخصصات الباب الرابع من الموازنة العامة للدولة ومُخصصات دعم السلع التموينية ونسب الأخيرة من الأولى.
شكل (3): إجمالي مُخصصات الباب الرابع من الموازنة العامة للدولة ومُخصصات دعم السلع التموينية ونسب الأخيرة من الأولى
من جانب آخر، تميل تكلفة هذا الدعم إلى الارتفاع في حالة زيادة الأسعار العالمية عما قدّرته وزارة المالية عند إعداد الموازنة العامة للدولة، إذ تضطر الموازنة حينئذ لرصد مزيدٍ من المُخصصات المالية لتغطية الفارق بين الأسعار المُتوقعة والفعلية، حيث كانت تقديرات الموازنة العامة قد بلغت خلال الفترة المذكورة 316.3 مليار جنيه، بينما وصل ما تكلّفته الموازنة العامة فعلًا 404.9 مليار جنيه بزيادة قدرها 88.6 مليار، وبنسبة 28% من المُخصصات المتوقعة، ويُقارن الشكل التالي بين المُخصصات المُتوقعة والفعلية لدعم السلع التموينية.
شكل (4): المُخصصات المُتوقعة والفعلية لدعم السلع التموينية
هذه الزيادات (سواء في المُخصصات المتوقعة أو الفعلية) رفعت النفقات العامة؛ فكلفت الموازنة العامة أعباء إضافية في ظل ما واجهته من تباطؤ في نمو الإيرادات، فأدى الضغط في كلا الجانبين إلى دفع العجز في اتجاه الزيادة. وما يُشدد من وطأة هذه الزيادات وجود توقعات مُتواترة باستمرارها في المدى المتوسط لأسباب خارجية تتعلق بقوى العرض والطلب، وأخرى داخلية تتعلق بنمو عدد السُكان وارتفاع القوة الشرائية. وقد يُخفف من هذه الوطأة نسبيًّا تعزيز الدولة لتوجهها نحو تحسين صوامع التخزين تقنيًّا وزيادتها عدديًّا وذلك لزيادة المخزونات، بالإضافة إلى التوسع الأفقي في المساحات المزروعة عن طريق زيادة كفاءة نُظم الري المُتبعة، والتوسع الرأسي باستخدام سُلالات من الحبوب ترفع من إنتاجية المساحة المزروعة فعلًا.