تتابعت سلسلة من التفاعلات الأمريكية التي كشفت عن اهتمام أمريكي متزايد بتعزيز النفوذ في القارة الأفريقية على نحو ما عكسته استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في أكتوبر 2022 التي أكدت أن الحكومات والمؤسسات والشعوب في أفريقيا تعد قوة جيوسياسية رئيسية، وهي قوة ستلعب دورًا حاسمًا في مواجهة التحديات العالمية في العقد القادم. فقد أصبحت أفريقيا أكثر ديناميكية وتعليمًا وتواصلًا من أي وقت مضى. وتشكل الدول الأفريقية إحدى أكبر مجموعات التصويت الإقليمية في الأمم المتحدة، ويقود بعض مواطنيها المؤسسات الدولية الكبرى، ويجب أن تتكيف العلاقات بين الولايات المتحدة وأفريقيا لتعكس الدور الجيوسياسي المهم الذي تلعبه الدول الأفريقية على مستوى العالم.
وقد كشفت القمة الأمريكية الأفريقية التي عقدت بواشنطن في الفترة من 13 إلى 15 ديسمبر، عن محورية الدور المصري في قضايا القارة وتشابكها مع المصالح الأمريكية المعقدة والتي تواجه تحديات متباينة في ظل تراجع الدور الأمريكي بالقارة مقابل تصاعد قوى إقليمية ودولية أخرى للسيطرة على مناطق النفوذ، وهو ما أضاف للقارة بُعدًا استراتيجيًا جعلها منفتحة على جميع الفاعلين من الدول، والتعامل مع القوى الدولية المختلفة لتحقيق مصالحها والنهوض باقتصاداتها وبنيتها التحتية المتدنية. ومع حرص الولايات المتحدة على تأكيد أهمية الشراكة مع مصر كإحدى دعائم حضورها في القارة الأفريقية، تستكشف الورقة مساحات التلاقي والتباين بين الرؤيتين المصرية والأمريكية لقضايا القارة الأفريقية الأكثر إلحاحًا.
قضية سد النهضة الإثيوبي
التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على هامش فعاليات القمة الأمريكية الأفريقي، وأكد بلينكن التزام الإدارة الأمريكية بتعزيز أطر التعاون المشترك مع مصر في مختلف المجالات، ودعم جهود مصر الحثيثة في السعي نحو تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية في المنطقة. وتم تباحث قضية سد النهضة الإثيوبي، حيث أكد الرئيس السيسي تمسك مصر بتطبيق مبادئ القانون الدولي ذات الصلة ومن ثم ضرورة إبرام اتفاق قانون ملزم بشأن قواعد ملء تشغيل السد للحفاظ على الأمن المائي لمصر وعدم المساس بتدفق المياه في نهر النيل، ومن جانبه أكد وزير الخارجية الأمريكي دعم بلاده لجهود حل تلك القضية على نحو يحقق مصالح جميع الأطراف ويراعي الأهمية البالغة التي تمثلها مياه النيل لمصر.
كما جدد الرئيس بايدن دعم بلاده لأمن مصر المائي وحقوقها في نهر النيل خلال لقائه الرئيس السيسي على هامش قمة المناخ COP27 بشرم الشيخ، وتمثل القمة الأفريقية الأمريكية فرصة كونها قمة دولية تجمع الدول التي لديها تشابكات في أزمة السد. وجدد الرئيس السيسي خلال القمة العربية الصينية بالرياض مطالبه بإيجاد حل لتلك الأزمة، مشددًا على ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بين جميع الأطراف من أجل مياه نهر النيل. وأكد الرئيس السيسي خلال لقائه بايدن في قمة المناخ COP27 تمسك مصر بالحفاظ على أمنها المائي للأجيال الحالية والقادمة من خلال التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم لملء وتشغيل السد يضمن الأمن المائي لمصر، وذلك وفقًا لمبادئ القانون الدولي لتحقيق المصالح المشتركة لجميع الأطراف، ومن ثم أهمية الدور الأمريكي للاضطلاع بدور مؤثر لحلحلة تلك الأزمة.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تتعامل مع عدد من القضايا المختلفة في القارة الأفريقية، إلا أن تعقد الخلاف بشأن السد الإثيوبي وما قد يجلبه من تداعيات خطيرة محتملة يُحتم على الإدارة الأمريكية أن تفعل كل ما في وسعها لدعم التوصل إلى حل دبلوماسي. ومن ثم فإن حدوث تصعيد إضافي إلى جانب التوترات القائمة في القرن الأفريقي من شأنه أن يهدد المصالح الأمريكية ويهدد الملاحة الدولية في أحد أهم الممرات الملاحية الدولية في البحر الأحمر وقناة السويس، ويهدد الإمدادات النفطية للاقتصاد العالمي، ويخلق بؤرة جديدة لنمو الإرهاب. وستؤهل الوساطة الأمريكية في مفاوضات سد النهضة واشنطن للعب دور أكبر في منطقة القرن الأفريقي، وستعمل على تعزيز دورها لحفظ الأمن والاستقرار في تلك المنطقة الحيوية للمصالح الأمريكية، فضلًا عن أنه سيتيح لها على المدى البعيد تقويض التحركات الروسية والصينية التي تهدف إلى تهديد المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة.
أمن البحر الأحمر
تعد منطقة البحر الأحمر نظامًا بيئيًا وسياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا مشتركًا يتألف من دول القرن الأفريقي الثمانية (جيبوتي، وإثيوبيا، وإريتريا، وكينيا، والصومال، وجنوب السودان، والسودان، وأوغندا) ودول الشرق الأوسط ذات الثقل الاستراتيجي والتي تؤثر على المنطقة (مصر، إسرائيل، ودول الخليج، وتركيا). هذا إلى جانب أن المنطقة تشكل ترسًا مهمًا في عجلة مبادرة الحزام والطريق الصينية. وبالتالي فإن التدافع الإقليمي والدولي في البحر الأحمر هو تذكير بأهمية المنطقة المستمرة للعالم، وليس فقط للتجارة.
أصبحت الديناميات الجيوسياسية والجيواقتصادية لمنطقة البحر الأحمر تتقاطع مع القرن الأفريقي ومع شرق أفريقيا بصفة عامة، لتستطيع من خلاله أن تلعب دورًا في العديد من قضايا الشرق الأوسط بما يؤثر على الأمن والاستقرار فيه. ومع ذلك، كافحت الاستراتيجية المصرية في هذه البيئة المتطورة لمواكبة هذه الديناميكيات المترابطة والمعقدة والعابرة للأقاليم ومراعاة أهمية المنطقة المتزايدة للمصالح المصرية. فقد باتت منطقة البحر الأحمر، وبشكل متزايد، مسرحًا للأنشطة غير المشروعة وأعمال القرصنة المهددة للملاحة الدولية، ولتدخلات القوى الإقليمية والدولية التي تزايد تنافسها في هذه المنطقة. وهو ما يفسر تنفيذ مصر مناورات عسكرية مع السودان وجيبوتي بهدف رفع مستوى التنسيق العملياتي بينهم.
وبالتالي، كان لتولي واختيار مصر والقوات البحرية المصرية لقيادة قوة المهام المشتركة (CTF-153) والتي تتمثل مهامها في مكافحة أعمال التهريب والتصدي للأنشطة غير المشروعة، خاصة الأنشطة الإرهابية، في مناطق البحر الأحمر، وباب المندب وخليج عدن، يؤكد أن مصر الشريك الأكبر في البحر الأحمر، والقوة الأكبر بعد الولايات المتحدة الأمريكية، في قوة المهام البحرية المشتركة (CMF)، وهي تحالف دائم لقوات متعددة الجنسيات مكون من 34 دولة تأسس عام 2002، ويعمل على مكافحة أنشطة الجهات غير المشروعة والإرهاب الدولي في أعالي البحار، ويضم ثلاث قوى أخرى (150، و151، و152) وجميعها معنية بحماية الأمن البحري.
ويأتي إعلان تشكيل هذه القوة، في سياقات أمنية تجمع بين التهديدات التقليدية وغير التقليدية، ولمواكبة تطورات سياسية وأزمات إقليمية ودولية تستوجب تحرك مصر والولايات المتحدة لمواجهة تداعياتها. كما أن القاعدة الأمريكية في جيبوتي والعلاقة الاستراتيجية الوثيقة مع مصر والجهود متعددة الجنسيات مثل القوات البحرية المشتركة CMF تعزز الدور المصري في الجغرافيا السياسية الإقليمية. خاصة في ظل تنوع التهديدات التي تمثلها هذه المنطقة للأمن القومي المصري، والتي من بينها تحول المناطق المتاخمة للجزء الجنوبي للبحر الأحمر لبيئة حاضنة للتجارة غير المشروعة في السلاح وتهريب البشر وتجارة المخدرات.
وعلى ذلك، يظل التعاطي المصري مع منطقة البحر الأحمر أولوية في ظل الوضع الأمني المضطرب وغير المستقر على ضفتيه (اليمن والسودان). وهو ما عبر عنه وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن عندما التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي في مقر وزارة الدفاع (البنتاجون)، في إطار مشاركة الرئيس في القمة الأمريكية الأفريقية. وشكر أوستن السيسي لتولي مصر قيادة قوة المهام المشتركة 153، التي تضمن أمن خطوط المواصلات البحرية في البحر الأحمر، وشدد على أنه مواصلة العمل مع مصر لتعزيز التعاون المشترك.
الاستقرار الإقليمي في القرن الأفريقي
تتمتع دول القرن الأفريقي ومنطقة الساحل والصحراء بأهمية استراتيجية كبيرة نظرًا لموقعها الاستراتيجي، وما تتمتع به من موارد وإمكانات، بالإضافة إلى أهميتها الجيوستراتيجية بالنسبة للأمن الدولي والتجارة العالمية. وبقدر هذه المزايا فهي واحدة من أكثر مناطق العالم اضطرابا وتعقيدا وتواجهها تحديات هائلة من مكافحة القرصنة والإرهاب وانتشار جميع أشكال الجريمة والعنف، إلى خلافات الحدود، وصراعات المياه، والصراعات الإثنية والقومية والدينية، وتعاقب الانقلابات في معظم الدول، وضغوط التنمية، التي تتصاعد بقوة في ظل زيادة الكوارث البيئية، وتسارع معدل النمو السكاني.
على الرغم، من البيئة الأمنية والسياسية المعقدة التي يعيشها القرن الأفريقي، إلا أنها تعد إحدى دوائر اهتمام السياسة الخارجية المصرية، لبناء خريطة توازنات جديدة تقوم فيها مصر بدور رئيسي، كانت تفتقد إليه منذ فترة طويلة، من خلال العمل على إحياء روابطها التاريخية وفق معطيات وأساليب وشراكات جديدة وشاملة. فالمنافسة الجيوسياسية وعدم الاستقرار الأمني على طول القرن الأفريقي مع تمادي نشاط الجماعات الإرهابية سواء القاعدة وداعش أو حركة الشباب المجاهدين في الصومال، تمثل تهديدات تتناقض مع المصالح المصرية في المنطقة. وهو ما أسهم في بناء رؤية استراتيجية للتعامل مع الواقع المعقد، أتضح منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي رئاسة البلاد في 2014، حيث قاد عمليات متوازنة لدفع الدور المصري في القرن الأفريقي بما يحافظ على مكانة مصر المركزية في سياق إقليمها الاستراتيجي وما تمثله تلك المنطقة في معادلة سد النهضة بين مصر وإثيوبيا.
وقد كثفت مصر أدواتها الدبلوماسية وأقامت علاقات سياسية رفيعة المستوى من خلال زيارة الرئيس السيسي لعدد من دول الإقليم كان بعضها لأول مرة لرئيس مصري أو الأولى منذ عقود، وشملت هذه الزيارات: السودان، وجنوب السودان، وإثيوبيا، وجيبوتي، وكينيا، وأوغندا، وتنزانيا. كما تركز الدور المصري في تعزيز وجوده العسكري، وتوقيع سلسلة من اتفاقيات التعاون الدفاعي والأمني مع عدد من دول المنطقة شملت أوغندا، وبورندي، وكينيا، والسودان، وجيبوتي.
في مقابل تنامي الدور المصري، شهد الدور الأمريكي في منطقة القرن الأفريقي تراجعًا كبيرًا خلال فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترمب، من خلال تخفيض الانخراط العسكري الأمريكي في القارة بما في ذلك “الأفريكوم” و”الانخراط الأمريكي في الصومال”، للتفرغ لمواجهة الخصوم الاستراتيجيين، وهو ما أسهم في خلق مزيد من فرص التقدم للقوى الدولية. ثم جاء اهتمام إدارة بايدن بالقرن الأفريقي وتعيين مبعوث خاص للمنطقة، في إطار مواجهة أوسع وصراع على النفوذ الدولي، إضافة إلى المخاطر التقليدية المرتبطة بالإرهاب وعمليات القرصنة.
وأجرى وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” جولة أفريقية ضمت كلًا من جنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية ورواندا في الفترة من 7 إلى 12 أغسطس. وهذه الجولة تعد الثانية لوزير الخارجية الأمريكي إلى أفريقيا بعد الأولى التي أجراها في نوفمبر 2021، وشملت كلًا من: كينيا، نيجيريا، السنغال. كما أجرت مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية “سامانثا باور” في يوليو الماضي زيارة لدولتي كينيا والصومال. وتوجهت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة “ليندا توماس جرينفيلد” إلى أوغندا وغانا والرأس الأخضر، في الفترة من 4 إلى 8 أغسطس الماضي.
ومع ذلك، كشفت الأزمات المتطورة في منطقة القرن الأفريقي عن افتقار واشنطن إلى سياسة واضحة ومتماسكة للمنطقة. ويبرهن الموقف في السودان وإثيوبيا على أن الولايات المتحدة أدركت انها لن تستطيع أن تمارس دورا في هذه المنطقة. وتؤكد مصر على أهمية تعزيز الدور الأمريكي في المنطقة، وتنطلق تلك الواقعية من الإقرار بأهمية أفريقيا كشريك يمكن إقامة شراكات معه على قدم المساواة وليس فقط تقديم المنح والمساعدات، انطلاقًا من الاعتراف بالأهمية التجارية والاقتصادية لأفريقيا، وليس فقط لمنافسة الخصوم.
أمن إقليم الساحل الأفريقي
يصف المراقبون منطقة الساحل والصحراء، بأنها مركب أمني بالغ التعقيد والتشابك، تعج بالعديد من التهديدات وأنماط العنف والجرائم تكاد تستعصي على الاستراتيجيات والمقاربات الأمنية المعتادة. فالمنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي غربًا إلى البحر الأحمر شرقًا تشكل مكانًا للإرهابيين الفارين من الدول الأخرى. ووفقًا لمركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية، شهدت منطقة الساحل زيادة متسارعة في نشاط الجماعات المسلحة مقارنة بأي منطقة أخرى في أفريقيا. بالإضافة إلى وجود العديد من المنظمات المتطرفة التابعة لتنظيمي القاعدة وداعش. وهو ما جعل المنطقة تتحول إلى مجال جيوسياسي يستقطب اهتمام الفواعل من الدول في مقدمتهم مصر والولايات المتحدة.
في ظل تراجع الدور العسكري الفرنسي في مالي، ومنطقة الساحل والصحراء عمومًا، والصعوبات التي تواجهها قوة “تاكوبا” المنتشرة في مالي. بحث الرئيس عبد الفتاح السيسي، مع نظيره السنغالي ماكي سال، خلال شهر يناير 2022 مسألة “تدخل مصر بفاعلية” في منطقة الساحل الأفريقي لمحاربة الإرهاب، لتوسيع الدور الذي تلعبه مصر في أفريقيا، بعد فشل المحاولات الفرنسية، التي أعاقت الجهود المصرية السابقة في هذا المجال.
ويعول الرئيس الفرنسي على دور أفريقي أوسع، بقيادة مصرية، لمحاربة الإرهاب في الساحل الأفريقي. كما يسعى تجمع دول الساحل والصحراء للحصول على تدريبات عسكرية متقدمة في مصر، باعتبار أن التجربة المصرية هي الأنسب للحرب على الإرهاب. وتركزت الاستراتيجية المصرية أيضًا على عدم ترك الساحة خالية أمام الدول التي لديها أجندات متعارضة مع المصالح المصرية، ودعم التعاون الاقتصادي والزراعي مع دول المنطقة.
وعن الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الساحل الأفريقي، فهي لا تبدو ذو أولوية قصوى للسياسة الخارجية الأمريكية ولكنها ليست غائبة. حيث تواصل الإدارة الأمريكية دعم شركائها في المنطقة، ولكن على نطاق ضيق مقارنة بالمناطق الأفريقية الأخرى. على سبيل المثال، أجرت “فرقة عمل أمريكية” صغيرة مناورة مشتركة لمكافحة الإرهاب مع القوات الفرنسية في تمبكتو، بمالي، في أبريل 2021. وقبل ذلك بشهر، أجرت تدريبات مماثلة في جاو وتمبكتو. وفي الوقت نفسه، تواصل الولايات المتحدة مراقبة الوضع الأمني في شمال مالي. وبخلاف جهودها في مكافحة الإرهاب والأمن، لا تزال الولايات المتحدة مانح رئيسي للمساعدات وأكبر مساهم في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، بما في ذلك بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (MINUSMA).
لقد بذلت مصر والولايات المتحدة جهودًا كبيرة لتحقيق الاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، لا يزال التهديد الذي تشكله الجماعات الإرهابية مرتفع، خاصة وأن دول الساحل غارقة في وضع أمني سريع التطور يتجاوز الإرهاب، ليشمل الفقر والفساد ونقص التنمية الاقتصادية والاتجار بالمخدرات والجريمة وعدم الاستقرار السياسي. لذلك، بالإضافة إلى جهود مكافحة الإرهاب، يجب على مصر والولايات المتحدة والأطراف الدولية الأخرى اتباع نهج أوسع وأكثر شمولًا من الناحية السياسية من شأنه أن يساعد دول الساحل في معالجة الأسباب الجذرية للنزاعات. فعلى سبيل المثال، ستستفيد المنطقة أكثر من المبادرات والأدوات التي تستجيب للتحديات غير الأمنية. كما ينبغي العمل على تعزيز التعاون والتنسيق بين دول الساحل G5 في جهودها الإنمائية. إن انتشار العنف في الدول الساحلية في غرب أفريقيا هو مصدر قلق مشروع، وينبغي أن تهدف جهود التنمية والوقاية التي تبذلها مصر والولايات المتحدة، بالتعاون مع المبادرات الإقليمية، إلى خلق بيئة لا تسمح لتنظيم داعش والقاعدة بالانتشار وتأسيس أنفسهم.
العملية الانتقالية في السودان
يعيش السودان على وقع أزمة سياسية حادة، بدأت فصولها بثورة شعبية عارمة أدت إلى الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل 2019، وتم تعيين حكومة انتقالية مؤلفة من ممثلين عسكريين ومدنيين في أغسطس 2019، كان من المفترض أن تدير البلاد لمدة 39 شهرا، وتعد دستورا جديدا وتنظم انتخابات. لكنها لم تنجح في العبور بالمرحلة الانتقالية خلال السنوات الثلاث الماضية. وشهد مسار العملية السياسة أحداثا كثيرة، لكن نقطة التحول الأبرز كانت في 25 أكتوبر 2021، عندما حل رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان المجلس والحكومة وأوقف رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لفترة قبل وضعه قيد الإقامة الجبرية مع إعلان حال الطوارئ.
وتصاعدت فصول الأزمة السياسية، إثر توقيع البرهان وعبد الله حمدوك، في 21 نوفمبر 2021، اتفاقًا تضمن عودة الأخير إلى رئاسة الحكومة الانتقالية، وتشكيل حكومة كفاءات، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، قبل أن يستقيل حمدوك في 2 يناير 2022، في ظل احتجاجات رافضة لهذا الاتفاق مطالبة بحكم مدني كامل. وبعد بضعة أشهر من إعلان البرهان أن الجيش سوف يبتعد عن السياسة ويترك المجال للاتفاق على حكومة مدنية. تم التوقيع على اتفاق “إطاري” بين قوى معارضة رئيسية وقادة الجيش في 5 ديسمبر الجاري، لبدء مرحلة يقودها مدنيون تنتهي بإجراء انتخابات.
هذه التطورات شهدت حضور المكون المصري فيها وبقوة، إذ وازنت مصر مواقفها تجاه طرفي الأزمة وكانت على علاقات جيدة مع المكونين المدني والعسكري، لتستطيع لعب دور الوسيط وهو ما انعكس على اتصالاتهم واجتماعاتهم. وأعلنت دعمها لمبادرة الأمم المتحدة لحل الأزمة السياسية وسرعة تشكيل الحكومة. وأبدت مصر استعدادها لدعم الحكومة الانتقالية المقبلة بكل السبل الممكنة، وشددت على أن أمن السودان واستقراره جزء لا يتجزأ من أمن واستقرار مصر والمنطقة.
واعتمد الموقف المصري على عدم الدفع باتجاه تشكيل حكومة بصيغة معينة، بل إن أهدافها ترتكز على أهمية عودة الاستقرار والأمن والوصول لحلول توافقية تشمل جميع الأطراف في السودان، وهو ما اتسق مع حذر القاهرة من خروج الأوضاع في السودان عن السيطرة أو الرهان على طرف ما قد يأتي بنتائج عكسية بالنسبة إلى مصر في ظل حالة السيولة التي يشهدها المشهد السوداني، كما دعمت مصر الاتفاق السياسي الإطاري الذي تم توقيعه.
وفي ضوء تعاطي القاهرة مع تطورات الوضع في السودان، أعادت السياسي السوداني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، محمد عثمان الميرغني، مرشد “الطريقة الختمية”، إلى الخرطوم بعد نحو 10 سنوات قضاها في مصر. ويرى المراقبون أن عودة الميرغني قد تحقق توازنًا في المشهد السوداني وأن تعجل بالتوافق الوطني، ويبني المراقبون مواقفهم تلك على ما يتمتع به حزب الميرغني من نفوذ وسط الأحزاب الاتحادية وطائفة الختمية، كما أن حزبه جزء من تحالف الحرية والتغيير الذي يضم الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام ومجموعات أهلية أخرى.
على الجانب الأمريكي، فمنذ اندلاع الثورة السودانية في 2019، شهدت العلاقات السودانية الأمريكية تحسنًا ملحوظًا بعد الإطاحة بحكم عمر البشير، وتم رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب في ديسمبر 2020. وجاء الموقف الأمريكي منذ تصاعد التوترات في السودان داعمًا للحوار، وأجرى المبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي، جيفري فيلتمان عدة لقاءات مع حمدوك والبرهان في محاولة لتقريب وجهات النظر، لكن بعد قرارات البرهان في 25 أكتوبر، أدانت الإدارة الأمريكية هذا الإجراء، وجمدت واشنطن تسليم 700 مليون دولار من صناديق الدعم الاقتصادي الطارئة إلى السودان، كانت تهدف إلى دعم التحول الديمقراطي في البلاد، وسحبت دعمها لتخفيف عبء الديون البالغ 50 مليار دولار الذي كانت الخرطوم تسعى إليه من الدائنين الدوليين. وأجرى المبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي اتصالات هاتفية مع وزير الخارجية سامح شكري مؤكدًا ضرورة الحفاظ على أمن واستقرار السودان.
وعلى الرغم من أن السودان لا تجمعه علاقات عسكرية قوية بالبنتاجون، ولا يوجد تبادل تجارى ذات شأن بينه وبين والولايات المتحدة، ولا ترتبط النخبة العسكرية أو المدنية السودانية بواشنطن. ولا تتمتع الجالية السودانية داخل الولايات المتحدة بثقل انتخابي أو وزن اقتصادي ومالي كبير. إلا أن استقرار الوضع في السودان له أولوية كبيرة لمصر وللولايات المتحدة على حد سواء، فوجود سودان أكثر استقرارًا وديمقراطية من شأنه أن يرسل موجات تهدئة عبر القرن الأفريقي ويؤثر على الصراعات في ليبيا واليمن. وبالتالي، من مصلحة القاهرة وواشنطن أن تنجح عملية الانتقال في السودان ولكي يحدث ذلك، يجب أن يعزز البلدين أكثر من أي وقت مضى تعاونهما، والتأكيد على تشكيل حكومة سودانية تدعم تطلعات الشعب السوداني وتعزيز السلام الداخلي والاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي في السودان.
آفاق التعاون المصري الأمريكي في القارة الأفريقية
أكدت الإدارة الأمريكية خلال انعقاد القمة الأمريكية الأفريقية أن الاهتمام بالقارة واحدة من أهم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في الفترة المقبلة. فهي الفرصة الأولى لإدارته لإظهار رؤية بايدن لمستقبل العلاقات الأمريكية الأفريقية، وسط التوتر الجيوسياسي المتزايد مع روسيا والصين والجهود المبذولة لإعادة العلاقات الأمريكية الأفريقية، بعد التوتر الذي شهدته في عهد الرئيس الأمريكي ترامب. وهي كذلك، تتويج لاستراتيجية بايدن نحو القارة الأفريقية والتي أطلقها وزير الخارجية أنتوني بلينكن في أغسطس الماضي.
عكست القمة الأمريكية الأفريقية، دور مصر الرائد في القارة الأفريقية والتوجهات الأمريكية تجاه الشركاء الأفارقة لمواجهة التحديات العالمية، وتعزيز المشاركة الاقتصادية والسلام والأمن الغذائي. عملت مصر على تعزيز دورها الرائد في أفريقيا في إطار استراتيجية الانخراط الكامل والتعاون مع الدول الأفريقية، وذلك لما تمثله العلاقات المصرية الأفريقية من أهمية للأمن القومي المصري. حيث ركزت على تعزيز العلاقات الثنائية مع كافة الدول الأفريقية، خاصة دول حوض النيل ومنطقة القرن الأفريقي، وتعزيز التبادل التجاري مع الدول الأفريقية. وقدمت مصر رؤية مشتركة لدعم وتمويل القارة الأفريقية خلال جائحة كورونا، ودعت الشركاء الدوليين إلى توفير التمويل المستدام لسد الاحتياجات الصحية للدول الأفريقية.
كما اتضح دور مصر الرائد في القارة الأفريقية أيضًا خلال قمة المناخ COP27 بشرم الشيخ، وسعي الولايات المتحدة إلى مواصلة تعاونها الوثيق مع مصر بشأن المبادرات التي تم إطلاقها في المؤتمر والتي لها تأثير في مختلف أنحاء القارة الأفريقية. ويشمل ذلك مساهمة الولايات المتحدة بـ25 مليون دولار في مبادرة الاتحاد الأفريقي الرائدة لتسريع التكيف في أفريقيا والتي تستضيفها مصر لإطلاق برنامج تسريع الأمن الغذائي الخاص بالمبادرة، والذي سيعمل بشكل كبير على تسريع استثمارات القطاع الخاص في تكيف الأمن الغذائي مع المناخ في أفريقيا وتوسيع نطاقها.
بالإضافة إلى إطلاق مصر مركز القاهرة للتعلم والتميز حول التكيف والصمود، والذي سيبني القدرة على التكيف في مختلف أنحاء القارة الأفريقية، وساهمت الولايات المتحدة بـ10 ملايين دولار في هذه المبادرة التي تقودها مصر والتي تهدف إلى دعم القارة بأكملها لزيادة قدرتها على معالجة آثار تغير المناخ، ومواصلة العمل مع مصر لتعزيز المصالح المشتركة وتحسين أوضاع السكان الأفارقة.
من كل ما سبق، يكن الخلوص إلى نتيجة مفادها اتساع مساحة التلاقي بين الرؤيتين المصرية والأمريكية بشأن العديد من القضايا الأفريقية، الأمر الذي يمكن معه الحديث عن شراكة فعالة بين الجانبين تعود على كل منهما بالنفع، بالإضافة لما تحمله من فوائد على المستوى القاري لكل الدول الأفريقية.