ترددت فى السنوات الأخيرة فكرة تحول مصر من النهر الى البحر فى خططها التنموية، بمعنى التوسع الإقتصادى بعيدا عن الشريط الضيق للنيل، والاتجاه نحو سواحل البحرين المتوسط والأحمر. هذا التوجه الداخلى المحمود يحتاج إلى أن يرتبط ببلورة استراتيجية بحرية لمصر فى المجال الخارجي، تعطى أولوية لتعزيز المصالح المصرية فى منطقتى البحرين المتوسط والأحمر، من خلال رؤية شاملة ومتجانسة، وبشكل يختلف عن الدوائر التقليدية التى تحركت فيها السياسة الخارجية المصرية منذ الستينيات. والواقع أن العديد من الدول لديها ما يسمى باستراتيجية بحرية، والتى لا تستند فقط على تطوير واستخدام قدراتها العسكرية (القوات البحرية) ، ولكن هذا البعد العسكرى يصبح جزءا من رؤية أكبر تتضمن أيضا الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية وغيرها، ويستهدف تحقيق مصالح الدولة فى البحار وفى علاقتها مع الدول المشاطئة لها.
ولكن لماذا استراتيجية بحرية لمصر؟ الأسباب كثيرة وأولها أن جانبا كبيرا من الثروة المصرية أصبح يرتبط بالبحار، مثل عائدات قناة السويس بالإضافة الى اكتشافات الغاز الجديدة فى شرق البحر الأبيض المتوسط. السبب الثانى يرتبط بزيادة درجة التكالب والتنافس فى منطقتى البحر المتوسط والأحمر، وسعى العديد من الدول الكبرى والإقليمية لتعزيز تواجدها ونفوذها فى البحرين، بالإضافة للمخاطر الأخرى المرتبطة بالإرهاب والهجرة غير الشرعية وانهيار وفشل بعض الدول المشاطئة للبحرين، وما لذلك كله من تأثير على مصر. السبب الثالث هو أن الاستراتيجية البحرية بأدواتها المختلفة يمكن ان تعزز المكانة الإقليمية لمصر وتتيح لها لعب دور أكبر فى منطقة البحرين والشرق الأوسط بشكل عام، سواء من خلال التحرك بشكل منفرد أو من خلال التعاون مع الدول التى تشترك معنا فى الرؤية والمصالح. وبالتالى فإن الهدف من هذه الاستراتيجية هو تعظيم الفرص المرتبطة بتنمية الثروة الاقتصادية والمكانة الإقليمية، وفى نفس الوقت الحد من المخاطر التى تؤثر بالسلب على المصالح المصرية.
أما بالنسبة لأدوات هذه الاستراتيجية، فمن الواضح أن هناك قدرا من التبلور فى الفكر المصرى فيما يتعلق بالأداة العسكرية، ولكن هناك حاجة لتطوير الفكر فيما يتعلق بالأدوات الأخري، وخاصة الدبلوماسية والاقتصادية، والدمج بينها فى إطار رؤية استراتيجية واحدة، تتسم بالتجانس ووضوح الأهداف، وتعدد الأدوات. ومما لاشك فيه، أن مصر قد قطعت شوطا كبيرا فى تطوير سلاحها البحري، وأصبحت تملك نظما متقدمة، وقادرة ليس فقط على تأمين الحدود البحرية المصرية، ولكن أتاحت لها أيضا المشاركة فى مسارح إقليمية بعيدا عن هذه الحدود.
ويأتى إعلان القاهرة لإنشاء منتدى غاز شرق المتوسط كخطوة مهمة فى تحقيق التعاون الإقتصادى بشأن هذا المورد الاقتصادى بين دول شرق المتوسط التى انضمت للمنتدي. وهناك أيضا الاجتماعات الدورية التى تتم بين قادة مصر واليونان وقبرص، كما أن مصر قدمت بعض الأفكار واستضافت اجتماعات بشأن التعاون فى إطار البحر الأحمر.وكل ما سبق يعد جهدا محمودا، ولكن يمكن لمصر أن تقدم المزيد من الأفكار والمشاريع، ومن المهم أن يكون ذلك فى إطار استراتيجية متكاملة لها بعدها الثنائى وبعدها الإقليمي، بما فى ذلك طرح نظام إقليمى للتعاون فى كلا البحرين، يقوم على احترام قواعد القانون الدولى المتعلقة بحرية الملاحة واستخدام الثروات الطبيعية، واقتراح آليات للتعاون المشترك ليس فقط فى مواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة فى البحرين، ولكن أيضا لتعزيز التعاون الإقتصادي، والتسوية السلمية للمنازعات الاقليمية. باختصار، فى ظل التحديات الداخلية التى تواجهها مصر، ومحدودية الموارد المتعلقة بالتحرك الخارجي، من المهم أن تعطى سياستنا الخارجية أولوية للحركة الإقليمية، ويأتى فى المقدمة بلورة استراتيجية بحرية للتعامل مع إقليمى البحرين المتوسط والأحمر، بجانب الاستراتيجية النهرية للتعامل مع دول حوض النيل.
*نقلا عن صحيفة “الأهرام”، نشر بتاريخ ٢٣ يناير ٢٠١٩.