أظهرت الدولة المصرية اهتمامًا واضحًا بقضايا البيئة وتقييم الآثار البيئية للمشروعات، بداية من القرار رقم “631” بتاريخ 30/12/1982 بإنشاء جهاز لشئون البيئة برئاسة مجلس الوزراء يتبع الوزير المختص بشئون البيئة، بالإضافة إلى القيام بإصدار التشريعات المختلفة مثل قانون البيئة “القانون رقم “4” لسنة 1994 بإصدار قانون في شأن البيئة والمعدل بالقانون رقم “9” لسنة 2009 واللائحة التنفيذية” وإصدار الاشتراطات البيئية للمشروعات المختلفة، إلى أن تم تكليف أول وزير متفرغ لشئون البيئة بموجب قرار رئيس الجمهورية رقم “275” لسنة 1997.
ونظرًا لأهمية البيئات البحرية والمائية لمصر، حيث تطل الدولة على البحرين الأحمر والمتوسط بسواحل تفوق في طولها 2930 كم، بالإضافة إلى نهر النيل والذي يمتد مجراه على مسافة 1532 كم قاطعًا جغرافيا البلاد من الجنوب إلى الشمال، فإننا في هذا المقال سنستعرض نماذج لمشروعات كان لها أثر على البيئات المائية وكيفية تفادي هذه الآثار في مشروعاتنا الوطنية.
دراسة الأثر البيئي: الإجراءات الأساسية لمشروعات التنمية
ينص القانون المصري على أن يلتزم كل شخص طبيعي أو اعتباري عام أو خاص بتقديم دراسة تقويم التأثير البيئي للمنشأة أو المشروع إلى الجهة الإدارية المختصة أو الجهة المانحة للترخيص قبل البدء في تنفيذ المشروع، ثم تقوم الجهة الإدارية بمخاطبة جهاز شئون البيئة التابع لوزارة البيئة لتقييم ومراجعة الدراسة المقدمة من الجهة المالكة للمشروع وذلك طبقًا للاشتراطات الصادرة عن الوزارة الخاصة بكل نوع نشاط. ويجري تقسيم الأنشطة وفقًا للتصنيف البيئي إلى ثلاث فئات هي (فئة “أ” للمشروعات ذات التأثير البيئي الضئيل – فئة “ب” للمشروعات ذات التأثيرات البيئية الهامة – فئة “ج” للمشروعات ذات التأثير البيئي الشديد)، بحيث تحتوي كل فئة على عدد من النشاطات الصناعية والطبية والورش والمشروعات السياحية وخلافه من الأنشطة الأخرى.
يقوم طالب الترخيص بتقديم الدراسات المطلوبة لتقييم الأثر البيئي للمشروع واستيفاء كل المستندات الخاصة، ومن ثم يتم تقييم دراسته ومراجعتها والتأكد من صلاحية المشروع. كما ينص القانون على ضرورة الاحتفاظ بسجل بيان تأثير نشاط المنشأة على البيئة (سجل بيئي)، يتم فيه متابعة أثر المشروع على البيئة ورصد المخالفات. وفي حالة وجود مخالفات أو عدم التزام بالاشتراطات يحق لجهاز شئون البيئة وقف النشاط المخالف لحين إزالة آثار المخالفة، وفي حالة الخطر البيئي الجسيم يتعين وقف مصادره في الحال وبكافة الوسائل والإجراءات اللازمة.
الأثر البيئي لمشروعات التنمية: تجربة مصرية
تعتبر ظاهرة نحر وتآكل الشواطئ أحد أبرز التحديات البيئية التي تواجه جمهورية مصر العربية، فلقد بلغت نسبة تآكل السواحل المصرية وفقًا لتقارير البنك الدولي بين العامين 1984-2016 قرابة 0.1% لكل عام. وطبقًا للتقرير، فإن تآكل المناطق الساحلية يضر قطاعات مثل السياحة وصيد الأسماك التي تعتمد على الشواطئ التي تتسم بالسلامة والبحار النظيفة.
ولقد ظهرت أهمية تقييم الأثر البيئي عندما تفجرت قضية تآكل شواطئ بعض قرى الساحل الشمالي المصري نتيجة القيام ببعض المشروعات على شواطئ تلك المنتجعات بمنتصف عام 2022. فطبقًا لبيان وزارة البيئة، بأن الوزارة قد تابعت تعرض أحد الشواطئ للنحر بمنطقة سيدي عبدالرحمن في الساحل الشمالي، ووجود عكارة بمياه البحر بالمنطقة الشاطئية المجاورة لإحدى القرى السياحية والتي تقوم بأحد مشروعات الإنشاءات على الشاطئ.
وقد تم تشكيل لجنة وقامت بإجراء معاينات ميدانية لمدة ٣ أيام متتالية للتعرف على الأسباب واتخاذ الاجراءات اللازمة، وتبين وجود عكارة بنسب مختلفة أعلى من معدلاتها الطبيعية بالمنطقة الشاطئية للقرى المشار إليها نتيجة أعمال تكريك بالمنطقة، وبناء عليه صدرت التعليمات بإيقاف كافة أعمال التكريك وعدم استئناف أي أعمال جديدة ومغادرة الكراكة للموقع وفك المعدات المتصلة بها، إلى أن عاد الوضع البيئي تدريجيًا إلى المستويات الآمنة ولا يؤثر على الاستخدامات والأنشطة السياحية. كما صرحت وزيرة البيئة السيدة ياسمين فؤاد خلال جلسة إحاطة بالبرلمان بأن وزارة البيئة تبذل كل الجهود لحماية الشواطئ ومنع المخالفات البيئية التي قد ترتكبها الشركات العقارية بالساحل الشمالي.
الأثر البيئي لمشروعات التنمية: تجربة دولية
كان لغياب دراسة تقييم الأثر البيئي لمشروعات التنمية دور كبير في وقوع كارثة بيئية لا تزال تعاني من آثارها دولتا أوزباكستان وكازاخستان. ففي ستينيات القرن الماضي، قام الاتحاد السوفيتي بسلسلة من مشروعات الري في عدد من المواقع لزيادة مساحات الرقعة الزراعية. وعليه، تم البدء في مشروع لاستصلاح الأراضي داخل جمهورية أوزباكستان الاشتراكية السوفيتية لزراعة محصول القطن، والتي تحولت على إثره إلى أكبر مصدر للقطن على مستوى العالم لفترة من الزمن.
تطلب المشروع توفير مياه عذبة للري وتم ذلك عن طريق تحويل مجاري نهري (أموداريا) و(سورداريا) إلى تلك المنطقة، بدلًا من المصب الطبيعي لهم في بحر أرال )وهو بحيرة ضخمة تقع بين جمهورية أوزباكستان وجمهورية كازاخستان، وكان مصنفًا رابع أكبر حوض مائي على مستوى العالم بمسطح يبلغ حوالي 68 ألف كم2(.
نتيجة لذلك تقلصت كميات المياه الواردة إلى بحر أرال إلى أن جف بنسبة 90% بحلول عام 2009 مع زيادة كبيرة في ملوحة المياه (صورة رقم 1). إن مشروعات الري السوفيتية لم تقم بدراسة الأثر البيئي لتلك المشروعات مما أدى إلى جفاف بحر أرال تقريبًا، وتضرر أكثر من 60 مليون شخص كانوا يقطنون تلك المنطقة واندثرت صناعة الصيد والبيئة البحرية في المنطقة (صورة رقم 2).
تقييم الأثر البيئي: التغير المناخي ليس كل شيء
على الرغم من الاهتمام الكبير بقضية التغير المناخي والتي تتم مناقشتها سنويًا في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي والتي هي بالفعل من أكبر التهديدات التي يوجهها العالم لخطورة تأثيرها على العالم، إلا أنه لا يجب أن يتم اختزال قضايا البيئة في تغير المناخ أو التلوث فقط. بل إنه توجد العديد من التصرفات الخالية تمامًا من أي انبعاثات ولكن تؤثر على البيئة بصورة سلبية وأحيانًا يصل التأثير إلى حد تصنيفه ككارثة بيئية. فإذا نظرنا إلى التجربة السوفيتية، نجد أن قرار تغير مجاري الأنهار غير المدروس بيئيًا أدى إلى الجفاف والقضاء على صناعة الصيد والتأثير الكبير على الأنشطة الزراعية. أما في تجربة حماية الشواطئ، فنجد أن القيام بالإنشاءات غير المدروسة بيئيًا يؤدي إلى تزايد عمليات تآكل الشاطئ، نتيجة اختفاء الرمال بسبب توقف حركة التيارات المائية، بالإضافة إلى تراكم الأحجار الجيرية مما يزيد من عمليات تآكل الشواطئ.
الأثر البيئي لمشروعات التنمية: الإصلاح ما زال ممكنًا
إن حدوث تأثيرات سلبية بعد تنفيذ بعض مشروعات التنمية هو أمر ليس بمستبعد، وبالتالي فإنه لا بد من تواجد خطط للإصلاح في دراسات التقييم البيئي في حالة حدوث تلك التأثيرات. فعلى الرغم من فداحة كارثة بحر أرال، إلا أنه تجري جهود حثيثة للإصلاح، حيث تبذل دولتا كازاخستان وأوزباكستان الجهود لاسترجاع المياه للبحيرة وإعادة الحياة البحرية وصناعة الصيد لها مرة أخرى. وبالفعل، أدت تلك المحاولات إلى بعض النتائج المثمرة والمبشرة في المستقبل. أما في التجربة المصرية، فإن وزارتي البيئة والري تبذلان أقصى جهد للتصدي للمخالفات وحماية كافة الشواطئ البحرية من ظاهرة التآكل، والتي سيكون لها آثار سلبية كبيرة في المستقبل في حالة عدم التحرك للحد منها وتقليل الآثار السلبية الواردة الحدوث.
ختامًا، يتضح لنا أهمية عدم اختزال مصطلح حماية البيئة فقط في التغير المناخي، وأن البيئة هي مصطلح أوسع يشمل كافة أبعاد ونواحي الحياة. ومن هنا تنبع أهمية تقييم ودراسة الأثر البيئي لأي مشروع من كافة الجوانب والاتجاهات وألا تقتصر على فقط على التلوث البيئي، إضافة الى ضرورة دراسة سيناريوهات المشاكل والكوارث المحتملة الناتجة عن تلك المشروعات على كافة المستويات المختلفة.
مراجع الصور:
صورة رقم (1) – مسقط أفقي لبحر أرال عام 2009 وموضح خط كروكي يوضح حدود المياه عام 1960
صورة رقم “2”: السفن والقوارب ترسو على قاع بحر أرال بعد أن أصابها الصدأ