منذ مطلع عام 2019، تصاعد الاهتمام الأمريكي بالصومال بصورة ملحوظة، لكنّ مؤشرات هذا الاهتمام جاءت على قدر كبير من التضارب بين الإعلان عن انسحاب أمريكي مزمع من الصومال من جانب، وتصعيد المواجهة العسكرية على الأرض من جانب آخر.
فقد استهلت الولايات المتحدة عام 2019 بالإعلان عن نيتها تخفيض حجم قواتها العسكرية في الصومال، وذلك اتساقًا مع التوجّه الأمريكي الذي أُعلن عنه في نهاية عام 2018 بتخفيض حجم الانتشار العسكري الأمريكي حول العالم. وعلى العكس من الوضع في كلٍّ من سوريا وأفغانستان، واكب الإعلان عن هذه التوجهات الأمريكية في الصومال تصاعد ملحوظ في الضربات الجوية الأمريكية لمعاقل حركة الشباب المجاهدين في الصومال، لتوقع في يناير وحده نحو 80 قتيلًا. وهو ما يضع المراقبين للأوضاع في الصومال أمام عدد من المؤشرات المتضاربة بشأن السياسة الأمريكية في واحد من أهم بلدان القرن الإفريقي وأكثرها اضطرابًا.
مؤشرات التراجع
في الرابع من يناير 2019، أكدت قتاة N.B.C. الأمريكية، نقلًا عن مسئولين عسكريين، اعتزام البنتاجون تقليص حجم الانتشار العسكري الأمريكي في الصومال، سواء بتخفيض عدد القوات الأمريكية العاملة، أو بتقليل عدد الغارات الجوية التي تشنها على معاقل حركة الشباب المجاهدين. كما أشارت المصادر ذاتها إلى أن الرئيس الأمريكي لم يعد يعتقد أن حركة الشباب لا تزال تشكل خطرًا مباشرًا على الولايات المتحدة أو على الغرب بصفة أعم، نتيجة ما تحقق من إنجازات في المواجهة العسكرية بمقتل عدد كبير من قادة الحركة، مع الاعتراف باستمرار تشكيلها تهديدًا مباشرًا لأمن الصومال ودول جواره.
وفي ظلّ ما عبّرت عنه استراتيجية الدفاع الأمريكية المعلنة لعام 2018، وما أكده مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي “جون بولتون” في إعلانه عن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في القارة الإفريقية في العام ذاته، يبدو أن الولايات المتحدة أعادت النظر في ترتيب مصادر تهديد مصالحها عالميًّا وإفريقيًّا. فقد أعلن “بولتون”، في إطار عرضه استراتيجيته تجاه إفريقيا في خطابه أمام مؤسسة هيرتدج في ديسمبر 2018، أن التهديد الأكبر لمصالح الولايات المتحدة لا يأتي من المتطرفين الإسلاميين ولا من الفقر وتبعاته، وإنما من التوجهات التوسعية لكل من الصين وروسيا.
ويأتي هذا التوجه “الانسحابي” مخالفًا لما سبق لترامب أن أعلنه في حملته الانتخابية، ثم طالب به البنتاجون عام 2018، من التشدد في مواجهة حركة الشباب، الأمر الذي أسفر عن مسار متصاعد في عدد وحجم الضربات الجوية الأمريكية في الصومال منذ وصول “ترامب” للرئاسة، والتي بدت أنها تستهدف القضاء على التنظيم بصورة نهائية من خلال تكرار عمليات استهداف معسكرات حركة الشباب التي تُسفر عادة عن وقوع عدد كبير من القتلى يتجاوز 200 قتيل في بعض الضربات الجوية، أو من خلال الاستهداف الممنهج لقادة الحركة على النحو الذي جرّف بنية القيادة بشكل متعاقب.
وفي هذا السياق، جاء إعلان القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) عن التوقف عن الإعلان عن حصيلة القتلى من مقاتلي حركة الشباب المجاهدين من جراء الضربات الجوية الأمريكية، ليزيد من الغموض بشأن الموقف العسكري الأمريكي في الصومال، قبل أن تتراجع القيادة عن القرار بعد أيام.
مؤشرات التصعيد
على العكس من كل المؤشرات الواردة من واشنطن، تشير الأوضاع على الأرض إلى تصعيد غير مسبوق في العمليات العسكرية ضد حركة الشباب في الصومال. فمنذ بداية يناير 2019، تصاعد الانخراط العسكري الأمريكي في الصومال على نحو كشف عن عدد من الملاحظات المهمة، نوجزها فيما يلي:
1- التطور الملحوظ في الضربات الجوية من حيث المعدل والفاعلية والانتشار الجغرافي: فمن حيث معدل الضربات الجوية، شن الطيران الأمريكي سبع ضربات خلال الشهر، منها ضربتان مزدوجتان للموقع نفسه في اليوم ذاته. ويعكس هذا العدد الإجمالي للضربات استمرارًا للمعدل المرتفع الذي يقوم به الطيران الأمريكي منذ أكتوبر 2018 والذي يتجاوز خمس ضربات شهريًّا. وبافتراض استمرار هذا المعدل الشهري لعدد الضربات على امتداد العام الجاري، يتوقع أن ترتفع هذه المؤشرات لتبلغ ثلاثة أمثال أكبر قيمها السنوية المتحققة عام 2018 بأكثر من 45 ضربة، وبما يرتفع عن معدل عام 2017 الذي شهد 35 ضربة، وعام 2016 الذي شهد 15 ضربة جوية أمريكية.
ومن حيث فاعلية الضربات الجوية، اتسمت الضربات الأمريكية في عام 2019 بفاعلية كبيرة، إذ مثلت الهجمات خلال يناير 2019 عودة للضربات ذات الحصيلة المرتفعة نسبيًّا من الضحايا، خاصة الغارة على مدينة جيليب في التاسع عشر من يناير التي خلّفت اثنين وخمسين قتيلًا، بالإضافة إلى 21 قتيلًا سقطوا بين الثاني والثالث والعشرين من الشهر نفسه. وتأتي هذه الضربة استمرارًا للعمليات “الكبيرة” التي تستهدف معسكرات حركة الشباب بعد عمليات الثاني عشر من أكتوبر التي أوقعت 60 قتيلًا، والتاسع عشر من نوفمبر التي أوقعت 37 قتيلًا، والخامس عشر من ديسمبر التي أوقعت 34 قتيلًا.
أما من حيث النطاق الجغرافي للضربات، فقد تركزت في مناطق الجنوب الأقصى للصومال، وهي المعاقل التقليدية لحركة الشباب المجاهدين، حيث لا تكتفي الحركة بارتكاب عملياتها، بل تمارس نوعًا من “السيادة” في ظل تمتعها بحاضنة اجتماعية قوية تستند لاعتبارات قبلية. ومنذ بدء عام 2019، استهدفت الضربات الأمريكية عدة مواقع في مناطق شبيلي السفلى، وجوبا السفلى، وباي، وجوبا الوسطى. ويعد هذا التركيز للضربات في معاقل الحركة مؤشرًا على وجود فرصة في المستقبل لانحسار نطاق سيطرة الجماعة وتطويقها في مجال جغرافي محدود، بعد أن سبق للجماعة أن سيطرت على مساحة كبيرة امتدت حتى وسط الصومال وشماله الشرقي (بونتلاند)، ما استدعى توجيه ضربات جوية أمريكية لتلك المناطق بين عامي 2016 و2018.
2- السعي لتطوير التواجد العسكري الأمريكي على الأرض: أعلنت الولايات المتحدة في نهاية يناير 2019 عن إرسال 150 جنديًّا إضافيًّا للصومال، لينضموا إلى 500 جندي أعلنت القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) عن تواجدهم في الصومال في عام 2018 بعد أن كان آخر عدد أعلنته القيادة هو 50 جنديًّا فقط في عام 2016. ولم تكن هذه الزيادة المطردة في أعداد الجنود الأمريكيين على الأرض الصومالية ممكنة لولا الجهود التي بدأت في عام 2017 لتطوير القاعدة الأمريكية في بلي دوجلي الواقعة في منطقة شبيلي السفلى بين العاصمة مقديشيو ومدينة بيداوا، والتي كانت في الأصل مطارًا عسكريًّا أسسه الاتحاد السوفيتي في فترة تقاربه مع الصومال، قبل أن يصبح مؤخرًا قاعدة الانطلاق الرئيسية للضربات الجوية الأمريكية على معاقل حركة الشباب. ومنذ عام 2017 أصبحت القاعدة محلًّا لأعمال تطوير مكثفة، حيث شهدت القاعدة العديد من عمليات توسيع الطاقة الاستيعابية لتصبح منذ منتصف عام 2018 قادرة على استيعاب نحو 600 عسكري إضافي، وأكثر من 200 مدني من القائمين على توفير الدعم اللوجيستي للقوات الأمريكية.
3- الربط بين مراكز التواجد العسكري الأمريكي في القرن الإفريقي: تَمَثّل ذلك في الشروع في تطوير طريق بري للإمداد يمتد من القاعدة الأمريكية الرئيسية في إفريقيا في كامب ليمونييه في جيبوتي إلى القاعدة الأمريكية الرئيسية في الصومال في بلي دوجلي، وهو الطريق الذي سيخترق معاقل حركة الشباب. وتبلغ تكلفة الجزء الممتد من الطريق في الصومال وحدها أكثر من 75 مليون دولار، والذي ستتولى تنفيذه شركة أمريكية هي “باسيفك للعمارة والهندسة”، أحد الشركاء المدنيين لأفريكوم. ويُعد الإعلان عن هذا المشروع في يناير من عام 2019 جزءًا من المحاولات الأمريكية للتغلب على مشكلات ضعف الإمداد والحاجة الدائمة لنقل القوات الأمريكية جوًّا. كما يعد المشروع نقطة تحول رئيسية للأوضاع الأمنية في الصومال، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى أن يغير هذا المشروع من التصورات العالمية بشأن الأوضاع الأمنية في الصومال. ويأتي المشروع تنفيذًا لأحد بنود الاتفاقية الأمنية التي وقعتها الصومال مع الدول والهيئات المانحة في لندن في مايو 2017، والتي تنص على الانتهاء من تطوير خطوط الإمداد من أجل توفير التأمين الملائم قبل عقد انتخابات 2021.
بالجمع بين كل المؤشرات السابقة، يتضح السعي الأمريكي لإعادة ترتيب وجودها العسكري في القرن الإفريقي مستقبلًا على نحو يعظم من العوائد ويحد من التكاليف، من دون أن يعني ذلك خروجًا نهائيًّا من القرن الإفريقي عمومًا أو الصومال خصوصًا. ويرجع هذا إلى الحالة الفريدة للقرن الإفريقي التي لا تتعارض فيها الأهداف الأمريكية “التقليدية” بشأن المواجهة العسكرية للحركات الإرهابية مع الأهداف “الجديدة” المتعلقة بمواجهة التمدد الصيني والروسي.
فقد نتج عن تأسيس الصين أول قواعدها العسكرية في إفريقيا في جيبوتي عام 2017، أَنْ وجدت الولايات المتحدة نفسها في حاجة لمواجهة هذا النمط الجديد من التمدد الصيني باستجابة مكافئة، وهو ما عبّر عنه الجنرال “توماس وولدهاوزر” (قائد القيادة الأمركية العسكرية في إفريقيا – أفريكوم) في جلسة استماع أمام الكونجرس عام 2018 حين اعتبر أن القاعدة العسكرية الصينية سيكون لها “تأثير جوهري” على المصالح الأمريكية في القرن الإفريقي، الأمر الذي استدعى أفريكوم لأن تعلن مراقبتها للتمدد العسكري الصيني، ولو تضمن ذلك تعزيز الانتشار العسكري الأمريكي، أو تصعيد العمليات العسكرية على الأرض.