سواء كانت «صفقة القرن» سوف تأتي بعد الانتخابات الإسرائيلية أو أنها لن تأتي على الإطلاق، فإن ما يهمنا هو أن موافقة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي هي التي تجعل لصفقة كل القرون معنى. والثابت أن كلا الطرفين يعبِّران عن حقائق معقدة من الأطياف والألوان الممتدة من اليمين إلى اليسار، ومن العلماني إلى الديني، ومن الصقور إلى الحمائم. والمعلوم أن الطرفين توصلا بالفعل إلى صفقة في عام 1993 عُرفت باتفاق أوسلو، وبعده جرت مفاوضات ومساومات عبر ربع قرن حتى وصلنا إلى الأوضاع الراهنة.
ورغم الصحوة التي تأتي من وقت لآخر حول «القضية الفلسطينية» خصوصاً عندما تتسرب أخبار عن مبادرة أميركية، فإن الاستعداد للتعامل معها يقتضي أن نعرف توجهات الشعبين إزاء جوهر الاتفاق، وهو ما يسمى «حل الدولتين»، وما هي حالة تعامل الفلسطينيين والإسرائيليين مع الواقع الذي بات أقرب إلى الدولة الواحدة أياً كانت صفاتها من الفصل العنصري إلى القهر الاستعماري، فالمهم أن التداخل بين الشعبين خلق حالة لها خياراتها الأخرى. التقرير النهائي «للنبض الفلسطيني – الإسرائيلي: الاستطلاعات المشتركة (2016 – 2018)، دور الرأي العام في استمرار- وحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي» هو نوع من العمل البحثي الجاد الذي يقرّب من حقيقة التوجهات والمشاعر. محررا التقرير هما خليل شقاقي وداليا شندلين. أما التقرير ذاته فهو نتاج عمل مشترك بين المركز الفلسطيني للسياسات والبحوث المسحية في رام الله، والمعهد الإسرائيلي للديمقراطية، ومركز «تامي ستنميتز» بجامعة تل أبيب. هو تعبير عن تعاون فلسطيني إسرائيلي بتمويل من الاتحاد الأوروبي وهولندا واليابان وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية. المراكز المشاركة أجرت خمسة استطلاعات للرأي العام على الجانبين عن طريق استبيانات وجهاً لوجه خلال الفترة من يونيو (حزيران) 2016 ويونيو 2018.
خلاصة التقرير هي أنه لو أن القادة الفلسطينيين والإسرائيليين توصلوا إلى اتفاق خلال العامين الماضيين لحصلوا على تأييد من الشعبين؛ ومع ذلك فإن هذا التأييد الآن أضعف مما كان عليه في السابق حتى ولو ظل التأييد لحل الدولتين أعلى من التأييد للحلول الأخرى، ولا يوجد ضغط شعبي من أجل التوصل إلى اتفاق، ومن ثم فإن الأمر يحتاج إلى جهد إضافي يتمثل في حزمة من المحفزات للحصول على الموافقة. فما بين العامين 2016 و2018 تراجع التأييد الفلسطيني لحل الدولتين من 71 إلى 43، وفي إسرائيل كان التراجع من 68 إلى 49. المؤشر على المستقبل يشير إلى استمرار هذا التراجع في التأييد لأن الشباب هم الأقل تأييداً لحل الدولتين، ففي إسرائيل فإن نسبة التأييد 27 فقط بينما هي 51 بين هؤلاء في سن أكبر من 55؛ وبين الفلسطينيين فإن الفجوة أضيق 41 مقابل 55. التراجع يؤيده الموقف من اتفاق يقوم على نوع من خطوط التسوية التي جاءت في «تفاهمات كلينتون (2000)، أو مبادرة جنيف (2003)، أو المفاوضات الثنائية بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي يهودا أولمرت (2008). أسباب التراجع في تأييد حل الدولتين تعود إلى تغير آيديولوجي في الموازين بين العلمانيين والمتدينين؛ وإلى وجود فقدان عميق للثقة بالطرف الآخر إما لأنه لا يريد السلام، وإما لأنه لن يحترم اتفاق السلام إذا ما وقعه؛ وحتى لو تم الاتفاق على حل الدولتين فإن الحل يواجه صعوبة التطبيق بحكم الوقائع على الأرض. هناك حالة من فقدان الأمل بين اليسار والوسط في إسرائيل من تطبيق الحل، ومن ثم جرى النزوح إلى خيارات أخرى يدخل فيها حل الفصل العنصري. ولكن أياً كانت الأسباب فإن الفجوة الكبرى بين الطرفين هي أن الإسرائيليين لا يوجد لديهم ممانعة في استمرار الأحوال القائمة، ونصفهم يرى الأحوال جيدة بينما يرى 18 أنها سيئة، بينما الفلسطينيون لا يرضون عنها، فالرضا جاء من 15، أما مَن رأوا سوء الأحوال فكانوا 61. وبغض النظر عن الأحوال الراهنة فإن الفلسطينيين والإسرائيليين يختلفون حول القضايا الخاصة بنزع سلاح الدولة الفلسطينية، ووجود ترتيبات في ظل حل الدولتين لعودة اللاجئين الفلسطينيين، وتقسيم القدس، والحدود بين الدولتين.
إلا أن حل الدولتين رغم كل هذه الخلافات يظل هو الخيار المفضل لدى الرأي العام، وفي فلسطين وإسرائيل فإن نسبة التأييد 43، بينما حل الدولة الواحدة الديمقراطية يلقى 9 من التأييد في فلسطين، و19 في إسرائيل، وبين الفلسطينيين فإن هناك 8 من الرأي العام يريد دولة فلسطينية خالصة من دون حقوق لليهود، أما النسبة في إسرائيل دون حقوق للفلسطينيين فهي 15.
كلا الطرفين يحتاج إلى محفزات تجعل نسبة التأييد لحل الدولتين أعلى مما هي عليه الآن. وبالنسبة إلى الفلسطينيين فإن الإفراج عن المسجونين يرفع نسبة التأييد إلى 56، واستمرار العمل في إسرائيل إلى 44، والاعتراف الإسرائيلي بالجذور التاريخية للفلسطينيين في فلسطين التاريخية إلى 44، وعلى هذا النحو يقدّم الاعتراف الإسرائيلي بالشخصية العربية والإسلامية للدولة الفلسطينية، وعودة اللاجئين الفلسطينيين المقيمين حالياً في مخيمات إلى الدولة الفلسطينية، وحرية الحركة بين الدولتين، واعتراف إسرائيل بدورها في «النكبة» الفلسطينية، وقيام الديمقراطية في فلسطين، والإفراج عن مروان البرغوثي، واعترف إسرائيل بدورها في مشكلة اللاجئين.
على الجانب الآخر، فإن المحفزات لإسرائيل هي حق زيارة منطقة الحرم الشريف، وأن تلتزم فلسطين باستمرار التعاون الأمني كما هو الحال حالياً، واعتراف فلسطين بالطبيعة اليهودية للدولة الإسرائيلية، وتعويض اليهود الذين خرجوا من بلدان عربية، وأن تكون الدولة الفلسطينية ديمقراطية، وأن تضمن اتفاقية السلام الولايات المتحدة ومصر والسعودية، وأن يكون السلام إقليمياً وعلى أساس من مبادرة السلام العربية، ونزع التحريض ضد إسرائيل في الكتب المدرسية الفلسطينية.
هذه المحفزات تشير إلى أنه رغم بُعد المسافة بين الطرفين فإن هناك ثلاث نقاط من الاتفاق: أن تكون الدولة الفلسطينية ديمقراطية، وأن تكون هناك ضمانات للاتفاق من الولايات المتحدة والدول العربية، وأن تكون هناك حالة من التطبيع الشامل بين الدول العربية وإسرائيل يدمج إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط حسب مبادرة السلام العربية. وجود هذه النقاط شجعت القائمين على الاستطلاعات على الجمع بين المحفزات على الجانبين فيكون هناك اعتراف متبادل بالجذور التاريخية في الأرض، والاعتراف بالهوية اليهودية لإسرائيل مع الاعتراف بالهوية العربية والإسلامية لفلسطين، والقبول بوجود مستوطنين يهود باعتبارهم «مقيمين» في فلسطين مقابل عودة لاجئين لكي يكونوا «مقيمين» في إسرائيل، واستمرار التعاون الأمني بين الطرفين، وحقوق زيارة الأماكن المقدسة للطرفين، وتعويض اليهود في الدول العربية، ونزع التحريض في الكتب المدرسية مع اعترف إسرائيل واعتذارها عن دورها في حدوث «النكبة»، ووقف حملات المقاطعة الفلسطينية لإسرائيل، مع توقف المعارضة الإسرائيلية لدخول فلسطين في المنظمات الدولية. هذه العناصر انعكست في رفع درجة التأييد لحل الدولتين لدى الإسرائيليين؛ أما الحالة لدى الفلسطينيين فكانت أقل تأييداً. هناك مزيد من التفاصيل في التقرير لمن يريد الاستزادة بأنه رغم التعقيدات الكثيرة، فإن هناك مخارج أيضاً من المأزق الفلسطيني الإسرائيلي.
*نقلا عن صحيفة “الشرق الأوسط”، نشر بتاريخ ٦ فبراير ٢٠١٩.