أعتقد أنه ليس من الصعوبة بمكان التنبؤ بنتائج اجتماع الفصائل الفلسطينية المقرر عقده في روسيا، يومي الحادي عشر والثاني عشر من فبراير الجاري، بدعوةٍ من السيد وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف”. ولن أكون مبالغًا أو متشائمًا إذا قلت إن هذا الاجتماع لن يخرج بنتائج ملموسةٍ تُغيِّر من الواقع الحالي على الأرض بالنسبة للفلسطينيين. وقد يصل في أكثر جوانبه الإيجابية إلى بيانٍ يؤكد الحرص على مبادئ الوحدة الوطنية، وضرورة بذل الجهود للحفاظ على ما تبقّى منها، مع التأكيد على الثوابت المعروفة.
من المؤكد أنه لا يمكن الحجْر على أي تحرك هادف تقوم به أية دولة من أجل رأب الصدع الفلسطيني، أو البحث عن حلول تُقربنا من التسوية السياسية، وتُعيد عملية السلام إلى مسارها الطبيعي، خاصة عندما تكون هذه الدولة بحجم روسيا الصديقة المعروفة بمواقفها المؤيدة للقضية الفلسطينية. وفي الوقت نفسه لا يمكن أيضًا أن أتساءل عن لماذا قبلت الفصائل الفلسطينية هذه الدعوة، أو أوجه إليهم أي انتقاد، ولا سيّما في الوقت الذي تبذل فيه مصر كل الجهد في كل الملفات الفلسطينية. بل على العكس تمامًا، فقناعتي الكاملة بأنه من حق الفلسطينيين البحث عن مخارج لأزماتهم، واستكشاف سبل الخروج من المأزق الحالي.
وفي الوقت نفسه، من المهمِّ أن أشير إلى أربعة محدِّدات متعلقة ليس فقط بهذا الاجتماع المرتقب، ولكن بطبيعة الموقف ككل، أوجزها فيما يلي:
المحدد الأول: أن مصر على مدار تاريخها العظيم والمشرف في الملف الفلسطيني، لم تمانع أو تقف ضد أي تحرك إقليمي أو دولي، أو حتى تحرك منفرد من أية دولة، ما دام الهدف النهائي هو مساعدة الشعب الفلسطيني، وما دام الأمر يصبُّ في النهاية في المصلحة الفلسطينية، ولا يتعارض مع أمن مصر القومي.
المحدِّد الثاني: أن الجهود المصرية في ملف المصالحة الفلسطينية تحديدًا تُعد هي الجهود الرئيسية على ما عداها، وليس أدل على ذلك من أن المرجعية الأساسية لحل كافة مشاكل الانقسام استندت إلى وثيقة المصالحة التي وقّعتها القيادة الفلسطينية وكافة الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في القاهرة في الرابع من مايو عام 2011، ثم الاتفاق التنفيذي الذي تم توقيعه في القاهرة في الثاني عشر من أكتوبر 2017 من أجل البدء في اتخاذ الخطوات التنفيذية لعودة الحكومة الفلسطينية إلى السيطرة على كافة مقاليد الأمور في غزة. وللأسف لم يُكتب النجاح لهذه الجهود لأسباب متعددة.
المحدد الثالث: أن كافة الجهود المبذولة للتهدئة في قطاع غزة استندت أساسًا إلى الجهود المصرية، مع كل تقديرنا للدور الذي تبذله الأمم المتحدة من خلال مبعوثها الدولي. وليس أدلّ على ذلك أيضًا من أن مصر هي التي توصلت إلى اتفاقات التهدئة، ووقف إطلاق النار في الحروب الإسرائيلية الثلاثة على قطاع غزة أعوام: 2009، 2012، 2015.
المحدد الرابع: أن مصر نجحت في إقامة علاقات قوية ليس فقط مع التنظيمات الفلسطينية الرئيسية، ولكن أيضًا مع كافة فصائل المقاومة التي لا يتم دعوتها دائمًا إلى مثل هذه الاجتماعات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن فصائل المقاومة لم تكن غائبة عن اتفاق المصالحة عام 2011، بل أيدته وباركته بشكل كبير.
كذلك، من الضروريّ أن أشير أيضًا إلى أنه في الوقت الذي تجري فيه ترتيبات اجتماع الفصائل في روسيا؛ نجد أن القيادة السياسية المصرية تتواصل مع القيادة الفلسطينية والرئيس “أبو مازن” الذي كان في ضيافة السيد الرئيس “عبدالفتاح السيسي” منذ أيام. كما استضافت مصر مؤخرًا مباحثات مع قيادات فصيلين فلسطينيين رئيسيين، هما حركتا حماس والجهاد الإسلامي، حيث اجتمعوا مع السيد رئيس المخابرات العامة لمناقشة العديد من الموضوعات المتعلقة بالوضع الفلسطيني، خاصةً في قطاع غزة، وكيفية الحفاظ على التهدئة الحالية، وكيف يمكن حل العقبات التي تعترض مسار المصالحة الفلسطينية.
إذن، يتبقى لدينا سؤال مهم: لماذا يتم اجتماع موسكو في هذا التوقيت؟ وما هي الجدوى منه؟.
ولعل الإجابة على هذا التساؤل تكمن في النقاط الثلاث التالية:
النقطة الأولى: أن الموقف الروسي من القضية الفلسطينية يُعد موقفًا متقدمًا، ويطالب بضرورة تطبيق قررات الشرعية الدولية، وخاصة إقامة دولة فلسطينية على حدود 67 تعيش في سلام واستقرار بجانب دولة إسرائيل. إذ لا تزال روسيا تدعو لعقد مؤتمر دولي للسلام، رغم كافة العقبات التي لن تؤدي في النهاية إلى خروج هذا المؤتمر الدولي للنور.
النقطة الثانية: أن روسيا لديها علاقات جيدة للغاية مع السلطة الفلسطينية ومع قيادتها المتمثلة في الرئيس “أبو مازن”. كما أن لديها علاقات جيدة مع الفصائل الفلسطينية، وخاصة حركة حماس. وهناك تواصل روسي فلسطيني لا ينقطع.
النقطة الثالثة: محاولة روسيا القيام بدور تنشيطي في إحدى أهم القضايا الحالية في الشرق الأوسط، وبشكل يخدم الدور الروسي في المنطقة، والعمل على إيجاد قدر نسبي من التوازن مع الجهود الأمريكية والأوروبية في الملف الفلسطيني – الإسرائيلي.
في النهاية، لا يمكن لي إلا أن أؤيد أي جهدٍ خارجيٍّ يحقق المصلحة الفلسطينية، لكن مع التأكيد على أن أية اجتماعات فلسطينية مع أيٍّ من الأطراف والقوى الخارجية لن يُكتب لها النجاح ما دامت هناك إرادات ومصالح وبرامج وأهداف متعارضة، وما دامت المصلحة الحزبية الضيقة تتغلب على المصلحة العامة، بل أعلى منها بمراحل، وهذا هو التوصيف الدقيق لأهم جوانب الوضع الفلسطيني الداخلي الحالي.
ولعلي أرى أن مفتاح التغيير الحقيقي في الأزمة الفلسطينية الداخلية يتركز بصورة أساسية في أولوية تحقيق المصالحة، وعودة السلطة الشرعية إلى قطاع غزة، ليكون ذلك بداية لمرحلة جديدة تستند إلى انصهار الجميع في البوتقة الوطنية قدر المستطاع من خلال أسس ثابتة للمشاركة السياسية على أساس برنامج وطني يحقق أكبر قدر من التوافق، ويكون على قناعة بوجوب إسقاط كافة المصالح الحزبية، وأية أطماع ضيقة في مواجهة انتخابات إسرائيلية يتراهن منافسوها على كيفية التهام ما تبقى من الجسد الفلسطيني، و”صفقة قرن” قادمة دون رحمة. أما غير ذلك فستظل القضية الفلسطينية بمكوناتها المختلفة تراوح مكانها، بل ستتراجع أكثر مهما كانت هناك تحركات أو جهود مبذولة لا تهدف إلا “لذر” الرماد في العيون.