كتبت منذ أسبوعين في هذه الصفحة حول الحاجة لتطوير إستراتيجية بحرية لمصر، و لكن المساحة لم تتح لي الدخول في تفاصيل فكرة أخري مرتبطة بتلك الإستراتيجية، وهي إنشاء نظام إقليمي بحري. والواقع أن حديثنا في مصر عن النظام الإقليمي ارتبط دائما باليابسة أو الامتداد الجغرافي الأراضي، مثل النظام الإقليمي العربي، أو الشرق أوسطي، ولكن العالم يشهد اليوم تطورا في هذا المفهوم يتعلق بطرح رؤي ومبادرات لنظم إقليمية ترتكز علي البحار والمحيطات و الدول المشاطئة لها، مثل المبادرة التي تبنتها العديد من الدول لإنشاء منطقة تجارة حرة في المحيط الهادي، والإستراتيجية التي تتبناها الآن كل من الولايات المتحدة والهند واليابان بشأن التعاون الاقليمي في المحيطين الهادي والهندي.
وفي هذا الإطار أتيحت لي المشاركة في ندوة للحوار المصري الياباني يوم الثلاثاء الماضي، نظمها معهد اليابان للعلاقات الدولية بطوكيو وكلية العلاقات الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وضمت خبراء وباحثين من البلدين، وكان دوري هو الحديث عن رؤية مصرية حول الإستراتيجية اليابانية المعروفة بالهادي والهندي مفتوح وحر.
وقمت بطرح فكرتين، الأولي تتعلق بالتواصل وعدم إمكانية الفصل بين ما يحدث في المحيطين الهادي و الهندي و ما يحدث في البحرين المتوسط والأحمر، فجانب كبير من خطوط الملاحة في المحيطين ترتبطان بالبحرين في طريقهما من آسيا الي أوروبا وإلي المحيط الاطلنطي، وهنا تأتي أهمية مصر و قناة السويس كنقطة محورية في هذا التواصل. ويبرز هنا أهمية ما أشار اليه المفكر الإستراتيجي نيكولاس سبيكمان من أن البحار الداخلية مثل الأحمر والمتوسط و بحر الصين الجنوبي لاتقل أهمية عن المحيطات، و ترتبط بها.
أما الفكرة الثانية التي طرحتها في الندوة فتعلقت بأهمية إنشاء نظم إقليمية تعاونية في منطقتي البحر الأحمر و شرق المتوسط، علي شاكلة النظم البحرية في مناطق أخري مثل المحيطين الهادي و الهندي، وأن مصر يمكن أن تلعب الدور القيادي في هذا الشأن. وأشرت لظاهرة تزايد التنافس الدولي في البحر الأحمر و شرق المتوسط بين قوي إقليمية و دولية، والي المحاولات الأولية لبناء أطر تعاونية في الإقليمين، مثل استضافة مصر اجتماعا رفيع المستوي من الخبراء لمناقشة السلام والأمن والازدهار في منطقة البحر الأحمر في ديسمبر 2017، بمشاركة سبع دول مشاطئة للبحر الأحمر، ونوقشت فيه ورقة مفاهيمية مهمة حول الموضوع. وحضور مصر اجتماعا وزراء الخارجية الذي عقد بالسعودية في ديسمبر 2018 لمناقشة أمن البحر الأحمر. وأشرت أيضا الي المبادرة المصرية التي أدت لإنشاء منتدي غاز شرق المتوسط (في 14 يناير 2019) و بمشاركة سبع دول، وبهدف دعم جهودهم في الاستفادة من احتياطياتهم واستخدام البنية التحتية وبناء بنية جديدة من أجل تأمين احتياجاتهم من الطاقة لمصلحة رفاهة شعوبهم (وفقا للبيان المنشئ).
هذه الجهود الحميدة تتطلب البناء عليها، و تحتاج المزيد من القيادة المصرية لإنشاء نظام إقليمي متكامل في البحر الأحمر وشرق المتوسط. واستنادا للفكر والتجارب الدولية، طرحت مجموعة من المبادئ التي يمكن الاسترشاد بها لضمان نجاح نظام إقليمي تعاوني في البحر الأحمر وشرق المتوسط، وأهمها أن يقوم علي التوافق بين الدول المنضمة له حول عدد من القواعد الدولية تصبح محل التزام الجميع و علي رأسها قواعد القانون الدولي واحترام حرية الملاحة، واحترام السيادة والسلامة الإقليمية للدول الأعضاء، والتسوية السلمية للمنازعات. ومن المهم أن يسعي هذا النظام الإقليمي لأن يكون شاملا من حيث العضوية، بمعني أن يضم جميع الدول في النطاق الجغرافي، بل و يمكن ضم غيرها من خارج هذا النطاق و التي لديها مصلحة فيه، وألا يكون هذا النظام موجها ضد أي دول. ومن الضروري أن يكون هذا النظام الإقليمي شاملا أيضا في مجالات التعاون بين أعضائه، وألا يركز فقط علي مجال واحد، ولكن يستهدف بناء ثلاثة أعمدة للتعاون في الاقتصاد والأمن و الدبلوماسية، تحتل درجة الاهتمام نفسها وتسير بذات الوتيرة.
الخلاصة أنه في ظل الظروف الحالية، قد يكون من المناسب إعطاء اهتمام أكبر للنظام الإقليمي البحري، ولدور قيادي مصري في إنشائه.
*نقلا عن صحيفة “الأهرام”، نشر بتاريخ ٨ يناير ٢٠١٩.