عاش قطاع الصناعة المصري عاما صعبا، في ظل تحديات دولية بسلاسل التوريد التي تفاقمت بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، وأزمات نقص العملات الأجنبية وقيود الاستيراد التي دفعت إلى تراكم الواردات بالموانئ المصرية، وتراكم الاعتمادات المستندية بالبنوك المصرية والتي وصل عددها إلى 25 ألف اعتماد مستندي بقيمة تتجاوز 4.5 مليارات دولار أمريكي، وقد كان ذلك هو التحدي الرئيسي الذي واجه قطاع الصناعة المصري في ذلك العام.
2022 – عام التحديات
كانت الحرب الروسية الأوكرانية التي نشبت في نهاية فبراير من العام الماضي سببا كافيا للضغط على سلاسل التوريد عالميا الهشة بالفعل، وهو ما ترك الشركات الصناعية حول العالم في صراع للحصول على مدخلات التصنيع، الأمر الذى تسبب في تأخر عمليات الإنتاج وتوقفها في بعض الصناعات، وارتفاع تكلفتها في الصناعات الأخرى. كانت مصر من بين تلك البلدان التي عانت أزمة مركبة في قطاع الصناعة يتمثل أولهما في أزمة سلاسل التوريد عالميا والتي تحجم قدرة الشركات الصناعية المصرية في توفير المواد الخام اللازمة للعملية التصنيعية، أما الأزمة الثانية فتتمثل في الوضع الخاص بالأسواق الناشئة والاقتصاد المصري والمتمثل في أزمة نقص العملات والتي ترتب عليها تطبيق سياسات اقتصادية لتحجيم عمليات الاستيراد لتخفيف الضغط على الدولار الأمريكي، وسياسات أخرى تنادي بإحلال المنتجات المستوردة وتشجيع توطين الصناعات، وفي ذلك السياق أطلقت الدولة المبادرة الوطنية لتطوير الصناعة المصرية “ابدأ” والتي تستهدف استثمار مبلغ 200 مليارات جنيه خلال أربعة أعوام لمساعدة المشروعات الصناعية القائمة وإنشاء صناعات جديدة، وتعد شركة ابدأ الذراع الاستثماري لمؤسسة حياة كريمة التي ترتكز أهدافها على تحقيق التنمية الاجتماعية للمواطن، وعليه فقد شملت تلك المبادرة عددا من الأهداف الاجتماعية المتمثلة في خلق 150 الف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة خلال أربع سنوات، وإطلاق عدد 64 مشروعا في قطاعات مختلفة بمشاركة 33 شركة محلية و 20 شركة أجنبية من عدد 12 دولة مختلفة، ويركز النموذج المالي لمبادرة ابدأ على مساعدة الشركات والمصانع المتعثرة من خلال الاستحواذ على حصة بحوالي 40 % من الشركة بهدف توفير السيولة لها من خلال زيادة رأس مالها، وتترك الإدارة للشريك الخاص والشريك الفني الذى يتم تعيينه من جانب شركة ابدأ بمجلس إدارة الشركة، أما عن الشركات التي يتم إنشائها فتقدم المبادرة عددا من الحوافز لتشجيع الشركات على الاستثمار بالقطاع الصناعي والتي من ضمنها إعفاءات ضريبية لمدة خمسة أعوام، وتخصيص الأراضي بنظام حق الانتفاع، والمشاركة في انهاء التراخيص والإجراءات القانونية الخاصة بالتأسيس، وقد استفاد من تلك المبادرة عدد 1500 منشأة صناعية على الأقل من خلال تمكينهم من تقنين أوضاعهم والحصول على التراخيص وتقديم المستندات اللازمة. من جانب آخر كانت وثيقة سياسة ملكية الدولة هي الخطوة الثانية التي تضع استراتيجية طويلة المدي لتخارج الحكومة بشكل كامل أو جزئي من حوالي 79 قطاعا من القطاعات الاستراتيجية، بهدف مضاعفة نصيب القطاع الخاص في الاقتصاد إلى حوالي 65 % في غضون ثلاث سنوات، وقد تمت صياغة تلك الاستراتيجية بعد عقد العديد من ورش العمل لقطاعات المنسوجات والملابس، وصناعة السيارات والصناعات الهندسية، وصناعة الطباعة والتعبئة والتغليف، والسلع الاستهلاكية، وصناعة الادوية، وصناعة الأثاث.
اما عن الثورة الصناعية الرابعة فقد شهد العام 2022 احتلال مصر للمرتبة الأولى كأعلى دولة من حيث إمكانات الأتمتة لتصل نسبة الأتمتة بالقطاع الصناعي إلى 48 %، خاصة في قطاع تصنيع الأجهزة المنزلية والأغذية والمشروبات والصناعات الدوائية والكيماوية، وقد تحققت تلك النسبة التي تعد الأعلى من بين 6 دول بالمنطقة وهي (الكويت والبحرين والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ومصر) بفضل انضمام مطوري المجمعات الصناعية إلى جهود تطوير المناطق الصناعية الذكية، خاصة بانضمام شركات عالمية لذلك المجال بمصر مثل شركات آي دي جي، وبولاريس بارك، وشركة السويس للتنمية الصناعية، والتي ساهمت في إنشاء بنية تحتية للمجمعات الصناعية لتحويلها إلى مجمعات ذكية تتبع منهج الاستدامة والتكامل وكفاءة الموارد وتقليل النفايات بداية من التصميم أو إنشاء مجموعات من المصانع، لكن لا يزال أمام مصر الكثير لتخطو في اتجاه الثورة الصناعية الرابعة إذ حتى الآن تظل مصر عالقة في الثورة الصناعية الثانية والتي تعتمد إلى حد كبير على الأيدي العاملة، ويمكن تفسير ذلك بسبب الميزة الديمغرافية التي تمتلكها مصر من حيث عدد السكان الكبير وتكاليف العمالة المنخفضة.
لكن الأزمة الكبيرة التي واجهت الجميع كانت أزمة الواردات، إذ كافحت الصناعات لمواصلة العمل في ظل قيود الاستيراد التي أعاقت جلب المكونات ومستلزمات الإنتاج، وقد تسببت تلك القيود في تحقيق تلك المصانع لخسائر بملايين الدولارات “وفقا لبيانات اتحاد الصناعات المصرية” وتطلب الأمر تدخلا رئاسيا لتقديم تعهدات بحل مشاكل المستثمرين قبل نهاية العام، وقد كان لتلك الأزمة إثر على ارتفاع سعر المنتجات المستوردة وتحول المستهلكين إلى المنتج المحلي خاصة في السلع التي لها منتجات محلية بديلة.
2023 عام الصناعة المصرية
كما سبق الإشارة فقد كان عام 2022 مليئا بالتحديات التي تمثلت في نقص العملات الأجنبية وارتفاع أسعار المواد الخام وارتفاع معدل التضخم، لكن تشير البوادر الأولى لعام 2023 أن سياسات الحكومة ستكون أكثر تسامحا مع القطاع الصناعي، حيث أطلقت الحكومة حزمة لتحفيز القطاعات الصناعية الرئيسية وتخفيف الاختناقات اللوجستية التي واجهتها في السنوات السابقة، وتقديم مبادرة تمويلية جديدة تساهم في سد العجز الذى يواجه القطاع في التمويل.
بدأت تلك المبادرات بتحديد الحكومة لتسعه قطاعات رئيسية تم تصنيفها على أنها قطاعات ذات أولوية ضمن برنامج إحلال الواردات، وقد شملت تلك القطاعات صناعة مواد البناء والصناعات الكيماوية والمنسوجات، والصناعات الدوائية والطبية تلك القطاعات مجتمعة تشكل حوالي 23 % من فاتورة الاستيراد، أو نحو 17 – 19 مليار دولار، حيث تعتزم “ابدأ” استثمار نحو 200 مليارات جنيه في تلك القطاعات، وتوفير حوافز أخرى مثل منح المزيد من الأراضي للمصنعين بنظام حق الانتفاع بالإضافة إلى عديد من المزايا الأخرى. أما القرار التالي في مطلع العام 2023 كان قرار إلغاء الاعتمادات المستندية والعودة لمستندات التحصيل لتمويل الواردات والذي نشر حالة من التفاؤل بين اللاعبين بالقطاع الصناعي والتي تكدست بضائعهم بالموانئ بسبب صعوبة وصول المستوردين إلى خطابات الاعتماد المستندية، الأمر الذي أثر بشكل كبير على نقص السلع الصناعية والاستهلاكية.
من جانب آخر كان لمبادرة تمويل القطاع الصناعي بقيمة 150 مليون جنيه بمعدل فائدة يبلغ 11 % في ظل معدل الفائدة الحالي الذى يبلغ 19 % تقريبا أثر إيجابي على المصنعين المصريين، حيث عالج جزئيا أحد أهم تحديات العملية الصناعية بمصر والتي تتمثل في تكاليف الاقتراض المرتفعة والتي تمثل تحدي حقيقي أمام المصنعين، أما عن تسهيل عمليات الترخيص فقد شهد المؤتمر والمعرض الدولي الأول للصناعة إعلان الرئيس بفتح الرخصة الذهبية لجميع المصنعين والمستثمرين الراغبين في الاستثمار في مصر.
ينتظر المجتمع الصناعي المصري إطلاق استراتيجية الصناعة المصرية 2022-2026 والتي سبق الإعلان عنها في سبتمبر الماضي، والتي تستهدف تنمية وتطوير الصناعة المصرية وزيادة نسبة مساهمة الناتج الصناعي في الناتج القومي الإجمالي ومن ثم توفير المزيد من فرص العمل، إذ تمثل واردات مصر من مدخلات الإنتاج الصناعية حوالي 56 % من إجمالي الواردات، الأمر الذي يحتم على صانعي السياسة المصرية تشجيع العمليات الصناعية التي تتعلق بإنتاج مدخلات الإنتاج. من المتوقع أن تحتوي تلك الاستراتيجية على عدد كبير من الحوافز الأخرى التي تشمل طرح أراضي صناعية وإجراءات أخرى بهدف تعزيز نمو تلك القطاعات التي تشهد زيادة في القيمة المضافة باستخدام مكونات محلية، لكن وحتى الآن لم يتم الإعلان عن أي مسودة لتلك الاستراتيجية على الرغم من أن يناير الماضي كان الموعد لإطلاق الحوار المجتمعي حول تلك الاستراتيجية، لكن ذلك التباطؤ في الإعلان عن تلك الاستراتيجية يأتي نتيجة للظروف الخاصة التي يمر بها السوق الصناعي في مصر والذي لا يتحمل أي مفاجآت وهو ما يستدعي مشاركة جميع الأطراف اللاعبين بالصناعة في تصميم تلك الاستراتيجية تجنبا لأي صدمات بالسوق. ولا زالت النقطة الأهم في تعزيز الصادرات المصرية تتمثل في تسريع عملية صرف حوافز دعم التصدير إذ إنها تعد أحد أهم مصادر التمويل الرئيسية بالشركات التي تجنبها الحاجة للحصول على قروض أو تمويلات مرتفعة التكلفة من البنوك، إذ إنه توجد العديد من الشركات بالسوق التي لديها مستحقات لدى وزارة المالية تتجاوز فترة العامين وتلجأ للاقتراض بمعدلات فائدة مرتفعة لتمويل عملياتها الإنتاجية على الرغم من أن تلك المستحقات تكفي الإنفاق على العمليات الإنتاجية.