استدعت فرنسا سفيرها في روما بعد أن قام نائب رئيس مجلس الوزراء الإيطالي ورئيس حركة “خمسة نجوم”، السيد “لويجي دي مايو”، يوم الثلاثاء الماضي، بزيارة لأحد رموز “السترات الصفراء” اشتهر بالدعوة إلى تولي رئيس الأركان السابق رئاسة الجمهورية لإنقاذ البلاد، وبالتهديد بحرب أهلية. لم يقابل “دي مايو” أي ممثل للسلطة أثناء زيارته لفرنسا، واعتُبر هذا التصرف استفزازًا غير مقبول، وحذرت الخارجية الفرنسية أعضاء الحكومة الإيطالية من التدخل في الشئون الداخلية الفرنسية. وحاول وزير الخارجية الإيطالي تخفيف حدة الأزمة باقتراح لقاء بين مسئولين فرنسيين وإيطاليين.
استدعاء السفير هو إجراء نادر وغير تقليدي بين الدول أعضاء المجموعة الأوروبية، ويعكس في كل الأحوال الاستقطاب المتزايد بين الحكومات الليبرالية المؤمنة بالمشروع الأوروبي، والحكومات المتهمة بالشعبوية المتحفظة تجاهه.
الهجرة وليبيا.. مفاتيح مهمة للفهم
بداية تدهور العلاقات بين فرنسا وإيطاليا سابقة على تشكيل الحكومة الإيطالية الحالية، القائمة على تحالف بين أقصى اليمين وأقصى اليسار. إيطاليا اشتكت بلهجة زادت حدتها باضطراد من موقف الدول الأوروبية، ولا سيما فرنسا، من سياساتها فيما يتعلق بالهجرة. لقد تركت تلك الدول إيطاليا تعالج الموضوع بمفردها، وتقدمت بمساعدات ضعيفة في حين أنها كثفت من انتقاداتها.
الملف الليبي، وهو مرتبط بمشكلة الهجرة، هو أحد الأسباب الأساسية لتدهور العلاقات. فقد فوجئت إيطاليا بالقرار الفرنسي بالسعي إلى إسقاط نظام العقيد “القذافي”، ورأت فيه منذ اللحظة الأولى خطأ فادحًا يُهدد المصالح الإيطالية. فمن ناحية، هو “خطر فادح” لأن روما اعتقدت أن إسقاط “القذافي” سيترك فراغًا كبيرًا وفوضى عارمة، لأن ليبيا لم تعرف في تاريخها لا دولة بالمعنى الحديث، ولا نظامًا ديمقراطيًّا بالطبع. وقدرت روما أن هذا الوضع ستنتج عنه تحديات أمنية جديدة (إرهاب وهجرة). ومن ناحية ثانية، هو خطر يهدد المصالح الإيطالية، في ظل التواجد القويّ لشركة إيني في ليبيا، واستثمارات أخرى. واعتقدت إيطاليا أن فرنسا تسعى إلى إزاحتها أو على الأقل تقليص دورها ومصالحها في ليبيا لصالح باريس. ولم تكن إيطاليا بعيدة عن الحقيقة.
وتبنّت إيطاليا في ليبيا سياسة تسعى إلى تأمين أرضها ومصالحها، ولا سيما بعد أن هدد تنظيمُ “داعش” بهجوم على الفاتيكان. في هذا الإطار، أيدت روما بقوةٍ “السراج” وميليشيات الغرب، وعلى وجه الخصوص ميليشيات مصراتة. وتبنت لفترة طويلة موقف تلك الميليشيات من المشير “خليفة حفتر”، على عكس باريس التي اهتمت بتأمين الشرق والجنوب.
وفجأة ظهر “ماكرون”!
فور وصوله إلى الرئاسة، أَوْلَى “ماكرون” اهتمامًا كبيرًا لليبيا، حيث تبنى وجهة نظر الفريق المنادي باعتبارها المصدر الأكبر للتهديدات ضد الأمن القومي الفرنسي والناقد للمقاربة الإيطالية. وتسابقت كل من باريس وروما لبذل جهود دبلوماسية لحل أزمة ليبيا. وسعى كل منهما إلى عرقلة جهود الآخر. وفي الحقيقة، راجعت روما موقفها من “حفتر” في الأشهر الأخيرة تحت ضغط الأحداث وأجهزة إيطاليا السيادية.
وظهر مصدر ثالث للتوتر بعد انتخاب “ماكرون” عندما أممت فرنسا في يوليو ٢٠١٧ الترسانة البحرية لميناء سان نازير تأميمًا مؤقتًا بدلًا من الموافقة على بيعها من قبل مستثمر كوري لمستثمر إيطالي. وقال وزير الاقتصاد الفرنسيّ “برونو لومير” آنذاك، إن هذا إجراء مؤقت لمراجعة عملية البيع والحصول على شروط أفضل من منظور المصالح الاستراتيجية الفرنسية. واستاءت إيطاليا من القرار، ووصفته بالخطير وغير المفهوم، وقارنت بين معاملة فرنسا للمستثمر الإيطالي والمستثمر الكوري (الصفقة تمت لاحقًا).
تَجَذُّرُ الأزمة
يذهب المراقبون إلى الرأي القائل بأنه قبل تشكيل الحكومة الإيطالية الحالية، كانت الخلافات بين فرنسا وإيطاليا، رغم عمقها وتفاقمها التدريجي ومرارتها، عادية، ولا تُشكّل خطرًا جسيمًا على شراكتهما القائمة على أسس قوية، اقتصادية واجتماعية. فالبنوك الفرنسية دائنة للحكومة الإيطالية، والتبادل التجاري بين البلدين كبير جدًّا، وكثير من الفرنسيين أبناء لمهاجرين إيطاليين. ورغم ذلك تغير الوضع تغيرًا دراماتيكيًّا بعد تشكيل الحكومة الإيطالية الحالية المستندة إلى تحالفٍ بين أقصى اليسار وأقصى اليمين.
لكنّ هناك رأيًا مختلفًا للدكتور “بويو” (الجامعي الفرنسي المتخصص في الشئون الإيطالية بمعهد العلوم السياسية لجرونوبل) نعتقد أنه يوضح جوانب مهمة من الصورة. ومفاده أن الهوة كانت تتعمق وتتجذر. فقد قال “بويو” في حديث لصحيفة “لو فيجارو”، إن علاقات وثيقة مؤسسية وشخصية نمت وتعمقت في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات بين الأحزاب التقليدية في البلدين، بين “ميتران” و”كراكسي” الزعيمين الاشتراكيين1، وبين الأحزاب الشيوعية على الجانبين من الحدود، وبين فلول الشيوعيين الإيطاليين والاشتراكيين الفرنسيين في التسعينيات، وبين الأحزاب اليمينية حيث قدم اليمين الفرنسي مساعدات قيمة لكل من الديمقراطية المسيحية و”برلوسكوني”. ولكنّ الأحزاب المتطرفة التي نمت في إيطاليا في العقدين السابقين لم تنشئ علاقات على نفس المستوى مع أحزاب فرنسية. ولم يحاول حزب جامعة الشمال (الذي أصبح حزب الجامعة الإيطالية بعد أن تولى “ماتيو سالفيني” قيادته) التقارب مع حزب الجبهة الوطنية قبل ٢٠١٣. أما حركة “خمسة نجوم” فليس لها نظير فرنسي.
ويقول “بويو” وغيره أيضًا، إن القادة الفرنسيين استبعدوا دائمًا خيارًا وجيهًا وهو التحالف مع إيطاليا للحد من النفوذ الألماني في الاتحاد الأوروبي، رغم تضرر البلدين من قواعد اللعبة التي تحكم الأداء الاقتصادي والمالي داخل المجموعة، وهي قواعد فرضتها برلين. وفي إيطاليا لم ينسَ الناخبون اليمينيون الدور الذي لعبه كل من “ساركوزي” و”ميركل” لإجبار السيد “برلوسكوني” على الاستقالة سنة ٢٠١١، ولم ينسَ ناخبو الوسط واليسار تباطؤ الرئيس “هولاند” في مساعدة رؤساء الوزارة المتعاقبين في إيطاليا بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٧. واستاء الرأي العام الإيطالي سنة ٢٠١٨ من تشدد المفوض الأوروبي (فرنسي الجنسية) مع حكومة روما فيما يتعلق بميزانيتها وعجزها، بينما أبدى تفهمًا كبيرًا ومريبًا للأداء الفرنسي.
الحكومة الإيطالية الجديدة و”ماكرون”
أيًّا كان الأمر، شكل رد فعل الرئيس “ماكرون” على تشكيل الحكومة الإيطالية نقلة نوعية وسلبية في العلاقات. فقد اعتبر “ماكرون” هذه الحكومة هزيمة شخصية له، وتهديدًا وجوديًّا للمشروع الأوروبي، ورمزًا لاحتمال عودة أوروبا إلى ظلمات الثلاثينيات، وقال ما يفيد بأن أوروبا أصبحت “فسطاطين” بين؛ الخير والشر، التقدميين والشعبويين، الليبراليين والمتعصبين لقوميتهم، وأن المعركة بين المعسكرين ستكون “أم القضايا” في الانتخابات المقبلة، بدءًا بالانتخابات الأوروبية الربيع المقبل. وفي مقابلات مع الكاتب في نوفمبر 2018، ربط بعض الزملاء تدهور أداء “ماكرون” السياسي بالصدمة التي أحسّ بها بعد تشكيل الحكومة الإيطالية.
وتوالت التصريحاته النارية لـ”ماكرون”، وسرعان ما بادله الوزراء الإيطاليون الاتهامات والشتائم. ولم يُخفِ وزير الداخلية الإيطالي “سالفيني” شماتته في “ماكرون” عند اندلاع أزمة “السترات الصفراء”، ودعا الفرنسيين إلى التخلص من هذا الرئيس. وندد الطرفان بموقف كلٍّ منهما من الهجرة بألفاظ جارحة، وتعقدت العلاقات بما فيها العلاقات الثقافية (تنظيم معارض فنية). ووضعت الحكومة الإيطالية العراقيل أمام مشروع القطار السريع بين مدينتي ليون وتورينو، وهو مشروع أقرته الحكومات الإيطالية السابقة، ووقّعت بشأنه على معاهدة مع فرنسا والاتحاد الأوروبي. لكنّ هذا المشروع يقتضي حفر نفق طويل (٥٧ كم) تحت جبال الألب، وهو ما يرفضه حزب “خمسة نجوم”. ولذلك قرر السيد “دي مايو” تشكيل لجنة لدراسة المشروع؛ إلا أن كل أعضائها من المعترضين عليه. ونشير إلى أن الموقف الرافض للمشروع له وجاهته، فعلى سبيل المثال، أبدى الجهاز الفرنسي للمحاسبات سنة ٢٠١٢ تحفظات قوية عليه، مشككًا في جدواه وفي جدية التوقعات حول كثافة استخدامه وتكلفته. لكن من ناحية أخرى جاء التعطيل الإيطالي متأخرًا بعد أن تم تنفيذ نصف الأعمال.
وعندما تسلمت إيطاليا من البرازيل المثقف الإرهابي الهارب “سيزاري باتيستي”، المدان في عمليات قتل تمت في السبعينيات والمحكوم عليه بالسجن المؤبد؛ أعيد فتح ملفات موقف فرنسا منه. “باتيتسي” نجح في الهروب لمدة أربعة عقود، لأن اليسار الفرنسي الحاكم سمح له بالإقامة في فرنسا. كما نُشرت له روايات بوليسية في باريس. وفي سنة ١٩٨٥، أصدر “ميتران” قانونًا سمح لمائة إرهابي إيطالي من المنتمين لأقصى اليسار باللجوء وبالإقامة في فرنسا مقابل اعتزالهم السياسة والأنشطة الإرهابية.
نقول مرة أخرى، إنه كان من الممكن أن يتم حصر الخلافات وإدارتها بهدوء، والتركيز على المشترك بين البلدين، وهو كثير. وكان من الممكن أيضًا بحث سبل التعاون بين البلدين لمواجهة نفوذ ألمانيا الطاغي في الاتحاد الأوروبي. وبتعبير آخر، نقول إن عمق الخلافات الحقيقية، وتعارض المصالح الموضوعية؛ لا يبرران ولا يفسران حدة الأزمة؛ فقد اختار الطرفان التصعيد.
من ناحية، فإن “ماكرون” شديد الإيمان بالمشروع الأوروبي وبالقيم الليبرالية وشديد القلق عليهما. ويرى أن أوروبا واجهت بصعوبة بالغة الأزمة اليونانية، وقد لا تتحمل إفلاسًا محتملًا لإيطاليا، وانهيار المشروع الأوروبي برمته بتوابعه الكارثية. ويرى “ماكرون” أن أعداء المشروع ينتهجون سلوكًا غير مسئول، وحققوا نتائج باهرة في السنوات الماضية. بمعنى آخر، يرى “ماكرون” -عن قناعة- أن أوروبا لا تستطيع تحمل تكلفة انهيار مشروع الوحدة، وأن سلوك الشعبويين (ولا سيما الرافضين لتعليمات الاتحاد بضبط الميزانية والحد من العجز) سيؤدي إن آجلًا أو عاجلًا إلى هذا الانهيار.
لكنّ الأمر لا يخلو من “انتهازية” سياسية؛ فـ”ماكرون” يحاول أن يبني ثنائية غير صحية، إما أنا وإما المتطرفون من اليمين أو اليسار، أي أنه يرى أن اختزال المشاكل في صراع بينه وبين الشعبوية مفيد جدًّا له، لكن هذه السياسة خطرة.
وجدير بالذكر أن الأكاديميين الفرنسيين المتخصصين في الشأن الداخلي الذين قابلوا كاتب هذه السطور في نوفمبر الماضي تحفظوا كلهم على هذا التكتيك، بينما أيده كل المتخصصين في السياسة الخارجية الذين يرون أن مستقبل الاتحاد يبدو فعلًا مظلمًا، وأن “ماكرون” على حق في دق جرس الإنذار.
وفيما يتعلق بإيطاليا، فيجب التمييز بين “سالفيني” و”دي مايو”. “سالفيني” مقتنع بأن “ماكرون” يمثل النخب الأوروبية القبيحة التي تجيد لغة الأرقام ولا تستمع إلى الشعوب، ولا ترى تبعات العولمة، ولا تفهم مخاوف الشعوب المشروعة على هويتها وعلى مستوى معيشتها، وترفض قرارات الشعوب ونتائج التصويت إن جاءت بعكس المرجو. أما “دي مايو” فقناعاته الحقيقية غير واضحة، وتبدلت كثيرًا، لكنه رأى في ضرب “ماكرون” مناورة انتخابية رابحة، وما هو مؤكد هو تعاطفه الصادق مع “السترات الصفراء” التي تشبه جزئيًّا حركة “خمسة نجوم”. لم تكن زيارته لهم -تلك الزيارة التي دفعت فرنسا إلى استدعاء سفيرها- مجرد حركة استفزازية، بل كانت تعبيرًا عن ميول.
1- لكاتب هذه السطور صديق كادر في الحزب الاشتراكي الفرنسي، متخصص في الشأن الإيطالي، وأذهلتني معرفته الشخصية بكل أقطاب وكوادر الأحزاب التقليدية الإيطالية. وكانت بينهم لقاءات دورية على الغداء في البلدين للتسامر وتبادل المعلومات