تُعتبر العقوبات الاقتصادية إحدى أهم أدوات السياسة الخارجية الأمريكية، ومن أشدها تأثيرًا؛ إذ إن فرضها يُفقد الدولة المُستهدفة اتصالها بأكبر اقتصادات العالم وأهم مركز ماليٍّ فيه، ويستتبع ذلك خسارتها جُزءًا كبيرًا من إمكاناتها ومُميزاتها الاقتصادية، وقدرتها على اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية. لهذا، دأبت الإدارات الأمريكية -باختلاف توجهاتها- على استخدام هذه الآلية عند فُقدان الأدوات الدبلوماسية قُدرتها على التغيير في النزاعات التي تؤثر على الأمن القومي الأمريكي بشكل كبير. فبدايةً من عام 1979، فرضت الولايات المُتحدة عقوبات اقتصادية على عدد من الدول، من أهمها: إيران، وكوريا الشمالية، وروسيا، وانتهاءً بتعميق العقوبات الفنزويلية في 28 يناير 2019، لتطال قطاع النفط، ولا سيما شركة PDVSA النفطية المملوكة للحكومة.
ويأتي تطبيق العقوبات الاقتصادية الأخيرة على فنزويلا بهدف إقصاء نظام الحكم الاشتراكي في البلاد، بعد أزمة سياسية مصدرها النزاع على السُلطة بين الرئيس الحالي “نيكولاس مادورو” وزعيم المُعارضة “خوان جايدو”، انحازت فيه الولايات المُتحدة للأخير.
ويُثير استخدام العقوبات الاقتصادية الأمريكية سؤالًا جديدًا قديمًا في الوقت ذاته حول مدى فاعلية هذه الأداة في فرض الإرادة وتوجيه الأزمة إلى حيثما تقتضي المصالح الأمريكية. ويحاول هذا المقال الإجابة على هذا التساؤل بخصوص الأزمة الفنزويلية، مُستعينًا بنتائج العقوبات الاقتصادية طويلة الأمد على إيران، وذلك لتشابه الهيكل الاقتصادي لكلا الدولتين من حيث اعتمادهما على النفط كمصدر أساسي للإيرادات العامة في الدولة.
إيران- أربعون عامًا من العقوبات
شهدت العلاقات الأمريكية-الإيرانية توترات مُستمرة مُنذ سبعينيات القرن الماضي حينما أنهت الثورة الإسلامية الإيرانية حُكم الشاه، واحتجزت دبلوماسيين كرهائن بعد اقتحام السفارة الأمريكية في طهران، حيث فرضت إدارة الرئيس “جيمي كارتر” على إثر ذلك أول عقوبات اقتصادية على النظام الإيراني استهدفت منع دخول السلع الإيرانية إلى الأسواق الأمريكية، وتجميد ما قيمته 12 مليار دولار أصولًا إيرانية في حوزة مؤسسات أمريكية، وفرض حظر شبه شامل على التجارة مع المؤسسات الإيرانية. وقد جاءت هذه العقوبات في إطار ما أُطلق عليه سياسة الطريقين “Dual Track Policy” التي استهدفت الضغط على النظام الإيراني سياسيًّا واقتصاديًّا حتى يُعدل من سلوكه العدواني تجاه الولايات المُتحدة والغرب بوجهٍ عامٍ.
توالت العقوبات الاقتصادية على إيران طوال الأربعين عامًا الماضية، سواء كانت أمريكية أو أوروبية أحادية الجانب، أو أُممية بقرارات مجلس الأمن، لكن النقلة النوعية حدثت عام 1996 عندما فرضت إدارة الرئيس “بيل كلينتون” حظرًا شاملًا على التجارة والاستثمار الأمريكيين في إيران، وهددت بفرض عقوبات على المستثمرين من دول أخرى في قطاع الطاقة الإيراني. ثم حدث التطور النوعي الثاني عام 2010 عندما تبنى الكونجرس قانون العقوبات الشاملة والمحاسبة والإغلاق في إيران، أو ما يُعرف اختصارًا بـ(CISADA)، الذي شدد العقوبات الأمريكية ضد الشركات التي تستثمر في قطاع الطاقة الإيراني، وفرض عقوبات جديدة على الشركات التي تبيع النفط المكرر لإيران. أعقب ذلك قانونٌ آخر مرره الكونجرس في 2011 أُطلق عليه (NDAA) أو “قانون ترخيص الدفاع الوطني” الذي سمح للإدارة الأمريكية بفرض عقوبات في 2012 لمُعاقبة البنوك الأجنبية إذا استمرت في إجراء معاملات نقدية مع البنك المركزي الإيراني.
وقد حدثت الانفراجة الأكبر في تاريخ العقوبات على إيران ككل في أكتوبر 2015 حينما توصلت مع مجموعة (1+5) إلى اتفاقية حول برنامجها النووي عُرفت باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة” (JCPOA) تتوقف إيران بموجبها عن تخصيب اليورانيوم عند مستويات مُرتفعة، وتُفكك جزءًا أساسيًّا من بنيتها النووية، وتُبقي مخزوناتها من اليورانيوم المُخصّب والماء الثقيل تحت مستويات مُعينة، في مُقابل رفع العقوبات المفروضة بسبب برنامجها النووي. وقد جددت إدارة الرئيس “دونالد ترامب” هذا الإعفاء مرة أخرى وأخيرة في مايو 2017، حيث ما لبثت هذه الانفراجة أن تبددت بسبب تصميم إدارة الرئيس “ترامب” على إعادة التفاوض حول (JCPOA) لتضمينه التزامات إيرانية حول برنامجها للصواريخ البالستية، وهو ما رفضته إيران بشكل قاطع، واستمرت في إجراء تجارب صاروخية تستهدف تطوير مداها وقُدراتها التدميرية، ما أسفر عن انسحاب الرئيس “ترامب” في مايو 2018 من الاتفاق النووي، وترافق ذلك مع إعادة فرض العقوبات الاقتصادية من جديد في أغسطس 2018، وتشديدها لتطال جميع قطاعات الاقتصاد الإيراني، بما في ذلك القطاعان المالي والنفطي في 5 نوفمبر من العام نفسه.
الانعكاسات الاقتصادية للعقوبات
طالت العقوبات مُعظم أوجه النشاط الاقتصادي الإيراني، فوضعتها تحت ضغطٍ هائل قلص نسبيًّا -في مُعظم الأحوال- قُدرتها على النمو مُقارنة بالأحوال العادية في ظل ما يتمتع به الاقتصاد الإيراني من موارد وإمكانات ضخمة تؤهله ليكون ضمن العشرين الكبار في العالم، ونعرض فيما يلي لكل وجهٍ من هذه الأوجه:
1- المؤشرات الكُلية
أ- الناتج المحلي الإجمالي
تعرّض مُعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لهزات اقتصادية عنيفة مع كُل تطبيق للعقوبات حتى السياسية منها، ففي مارس 2008 تبنى مجلس الأمن القرار رقم 1803 بشأن مطالبة إيران بالتوقف عن تخصيب اليورانيوم، وكان الاقتصاد الإيراني قد حقق نسبة نمو تقارب 10% في الرُبع الأخير من 2007، فانخفضت نسب النمو إلى 4.5% في الرُبع الأول من 2008، ثم وصلت إلى انكماشٍ بمُعدل يُقارب 4% في الرُبع الرابع من العام نفسه. وقد تكرر الأمر مع تبنّي الكونجرس مجموعة العقوبات خلال الفترة (2010 – 2012). في الوقت ذاته، كان النمو قد بلغ 12.3% في الرُبع الأول 2010، ليسفر عن انكماش بمُعدل 6.6% تقريبًا في الرُبع الأول من 2013. وعكس الحال عندما توصلت أطراف النزاع إلى (JCPOA)، إذ بلغ مُعدل النمو في الرُبع الرابع 2016 ما يُقارب 16.8% بعد أن كان قد انكمش بمُعدل 5.4% في الربع الرابع 2015. كما توقع صندوق النقد الدولي انكماش الناتج المحلي الإجمالي الإيراني بنسبة 3.61% في 2019 إثر الانسحاب الأمريكي من (JCPOA) وإعادة فرض العقوبات من جديد. ويوضح الشكل التالي تأثير العقوبات على مُعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الإيراني.
ب- التضخم:
دفعت العقوبات على إيران مُعدلات التضخم في اتجاه الارتفاع، فبلغت مُعدلات قياسية، خاصة بعد كُل تطبيق لعقوبات اقتصادية واسعة المدى. ويُمكن رصد أحد أبرز التأثيرات السلبية للعقوبات على مؤشر التضخم في عام 2006، حيث ظلت مُعدلات التضخم تتراوح في النصف الأول بين 8 و10%. وعند بدأ تكوين إجماع دولي لاستصدار قرار من مجلس الأمن بشأن البرنامج النووي، أخذت في الارتفاع لتصل إلى 14% في ديسمبر من العام نفسه بعد صدور القرار رقم 1737. وعزز هذه الموجة من الارتفاعات صدور القرار رقم 1803 في 2008، لتبلغ هذه الموجة سقفها في أكتوبر من العام نفسه بمُعدل 29%. كما شهدت مُعدلات التضخم حركة صعود أخرى مع بدء تطبيق (CSIADA) لترتفع من 12% في الربع الرابع من 2010 فتصل في يوليو 2013 إلى 47%، كما اتخذ المؤشر ذات المسلك عند انسحاب الولايات المُتحدة من (JCPOA) ليلامس مُعدلات 40% في نوفمبر 2018. ويتوقع صندوق النقد الدولي استمرار تلك الموجة خلال عام 2019 لتصل مستويات التضخم في المتوسط إلى 27%. ويوضح الشكل التالي هذه التذبذبات.
2- قطاع النفط
تُعتبر إيران أحد أهم اللاعبين في سوق الطاقة العالمي، إذ تمتلك رابع أكبر احتياطي عالمي من النفط الخام، وثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم. وعلى الرغم من هذه الاحتياطات الوفيرة من النفط الخام، فقد تأثر إنتاجها بسبب نقص الاستثمار وتأثير العقوبات الدولية. فمُقارنة بالمملكة العربية السعودية التي تمتلك إيران حوالي 60% من احتياطاتها من النفط، تُنتج إيران 40% فقط مما تُنتجه المملكة. ويُشكل هذا القطاع عصب الاقتصاد الإيراني، لذا فإن الضغط عليه يضع الاقتصاد بالكامل في وضع الأزمة، لذلك كانت الولايات المُتحدة وحلفاؤها يستهدفون دائمًا هذا القطاع والقطاعات التي تخدمه كقطاع الشحن البحري والقطاع المصرفي لتوليد أكبر قدر من الضغط على النظام السياسي الإيراني. ففي نوفمبر 2011 عندما أصدر الكونجرس (NDAA) مستهدفًا في الأساس البنك المركزي الإيراني ليحد من قُدرته على جمع إيرادات بيع النفط، كان الإنتاج الإيراني قد بلغ 3.6 ملايين برميل يوميًّا، لينخفض مُتأثرًا بهذه العقوبات إلى 3.13 ملايين برميل بحلول مايو 2012، ثم تأتي عقوبات أمريكية جديدة مفروضة على قطاع التأمين على الشحن البحري مقرونةُ بحظر أوروبي على استيراد النفط الإيراني في يوليو، لتقلص الإنتاج إلى 2.7 مليون في أكتوبر من العام ذاته.
وعند تجميد العقوبات بفعل تطبيق (JCPOA) في ديسمبر 2015، ارتفع الإنتاج الإيراني من 2.8 مليون برميل ليصل إلى 3.83 ملايين برميل في مايو 2018، ويتجه للانخفاض مرة أخرى مع انسحاب الولايات المُتحدة منها في مايو من العام نفسه فيصل إلى مستوى 3.4 ملايين برميل بحلول سبتمبر 2018. ويوضح الشكل التالي تأثير العقوبات على إنتاج النفط الخام الإيراني.
ضجيجٌ بلا طحينٍ
على إثر الاستعراض السابق لتطور وتيرة العقوبات وأثرها على الاقتصاد الإيراني، يُمكننا الخروج بعددٍ من الاستنتاجات:
1- كانت العقوبات شديدة التأثير على جميع أوجه النشاط الاقتصادي الإيراني، وخاصةً قطاع النفط، إذ أسفرت عن تردٍّ في أوضاعه، وكبحت قُدرته على النمو، وهو ما أدى -بمُصاحبة تأثيرها على القطاعات الأخرى- إلى تباطؤ مُعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، وفي مُناسبات عديدة إلى انكماشه. وقد صاحب ذلك موجات تضخم شديدة ضربت الاقتصاد، تجاوزت في فترات طويلة مُعدلات 20%. وأدت هذه الضغوط الاقتصادية إلى دفع النظام الإيراني للتخلي تكتيكيًّا عن طموحاته النووية، فتوصل مع القوى الكبرى إلى (JCPOA) في عام 2015، ولكن ليس هناك دليل يُذكر على أن هذه العقوبات أدت إلى تباطؤ البرنامج النووي أو البرنامج الصاروخي الإيرانيين.
2- كذلك لم تَحُدَّ العقوباتُ من تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، بل على العكس تمدد ذلك النفوذ، وأصبحت إيران لاعبًا أساسيًّا في الملفات (العراقي، والسوري، واللبناني، واليمني). كما استمرت في توريد الأسلحة -بما في ذلك الصواريخ- إلى ميليشيات محلية تابعة لها في هذه البلدان. وأخيرًا فإنها لم تُفلح في تدجين النظام السياسي الإيراني، أو تدفعه إلى التخلي عن مُعتقداته في تصدير الثورة إلى جيرانه، وإن كانت قد أسفرت أخيرًا عن ضغوط شعبية ظهرت في شكل تظاهرات مدفوعة بالظروف الاقتصادية القاسية وانعدام أفق الحل السياسي.
3- لذلك فإنه من المتصور أن تتصاعد الضغوط الاقتصادية على نظام “مادورو” في فنزويلا، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من القلاقل الشعبية الناتجة عن تفاقم الأزمة الاقتصادية التي كانت قد بلغت بالفعل مُعدلات غير مسبوقة في تاريخ البلاد قبل تعميق العقوبات لتطال قطاع النفط. وربما وكما حدث في إيران لن تُسفر تلك العقوبات عن إزاحة النظام في ظل انحياز قوى الدولة من جيش وشرطة وقضاء له، بالإضافة إلى المُساندة التي يحظى بها من حلفائه الدوليين كروسيا والصين.