تشهد العلاقات المغربية البرتغالية تطورات متسارعة ارتقت فيها طبيعة العلاقة إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، في ضوء التفاهمات والاتفاقيات التي تمت خلال الدورة الرابعة عشرة للاجتماع رفيع المستوى بين المغرب والبرتغال في الثاني عشر من مايو الجاري، وتضمنت مجالات مختلفة اقتصادية وصناعية وتعليمية وثقافية وفي مجال الاستثمارات، ولعل هذا الاجتماع الذي جاء برئاسة رئيسي وزراء الدولتين يؤكد تطلعاتهما لإحداث نقلة نوعية في طبيعة التفاعل المتبادل بينهما.
ويأتي هذا التقارب في ضوء تفاعلات دبلوماسية مغربية براجماتية مع الجنوب الأوروبي كأوراق ضغط وازنة لمعادلة الصراع المفتوح بين الجزائر والمغرب وفي العمق منه قضية الصحراء الغربية، وفي ظل مساعي الرباط لتصفية وإنهاء هذا الملف عبر تبدل المواقف الدبلوماسية للعواصم الغربية، ويعقب حالة التقدم المغربية البرتغالية التي تم تعزيزها منذ نوفمبر 2021 على إثر إنشاء المجلس الاقتصادي المغربي – البرتغالي.
دوافع التقارب
في إطار الروابط التاريخية والجغرافية التي تجمع بين المغرب والبرتغال، تسعى الدولتان لتعزيز علاقتهما مستغلة تبادل الزيارات التي حدثت في الآونة الأخيرة بين الجانبين، ويأتي اجتماع اللجنة المشتركة بين الرباط ولشبونة لترسخ دوافع مختلفة لهذا التقارب يمكن توضيحها في الآتي:
- استثمار القرب الجغرافي وتشكيل حزام آمن: بات هناك تحرك دبلوماسي مغرب لتشكيل خط دفاع عن مصالحها في العمق الأوروبي وتستهدف بصورة كبيرة في استثمار القرب الجغرافي سياسيًا واقتصاديًا لتعزيز مقومات الدولة وفتح نوافذ للتفاعل الدبلوماسي والتحرك الداعم للمصالح الملكية. فعلى غرار إسبانيا التي باتت تحظى والمغرب بعلاقات استراتيجية، تتطلع الرباط لتحقيق نقلة نوعية في علاقاتها بالبرتغال، الأمر الذي يفتح معه نافذة للتفاعل الطاقوي الأوروبي عبر مشروع أنبوب الغاز النيجيري الممتد من نيجيريا إلى المغرب، وكذلك لزيادة حجم التبادلات التجارية لامتصاص الأزمات الاقتصادية المختلفة؛ إذ إن لشبونة تحتل المرتبة الثانية عشرة على مستوى الشراكة الاقتصادية مع الرباط، وترغب الأخيرة في أن تصبح البوابة الأفريقية بالنسبة للاستثمارات الأوروبية.
ليس هذا فحسب، بل امتدت مجالات التوظيف المثالي للتحولات في العلاقات المتنامية ثلاثية الأبعاد (المغرب – إسبانيا – البرتغال) بانضمام المغرب للملف البرتغالي الإسباني لاحتضان مونديال 2030؛ ولعل رمزية ذلك تكمن في تطلع المغرب إلى ترسيخ شراكة دولية متعددة الأطراف ليلعب من خلالها دورًا جيوستراتيجيًا بين أوروبا وأفريقيا قائمًا على سياسة الندية في حصول وهو ما يعكس ما شهدته العلاقات من تقدم.
- دعم الطرح المغربي وتصفية قضية الصحراء: على إثر توقف المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة بين المغرب وجبهة البوليساريو، تطلع المغرب بصورة كبيرة للدفع في تسويق مبادرته للحكم الذاتي داخل الدوائر الأوروبية، ويأتي هذا التقارب بصورة كبيرة في ضوء دعم البرتغال بصورة كبيرة للسيادة المغربية على الصحراء الغربية، وأهمية تفعيل الطرح المغربي المتعلق بالحكم الذاتي تحت السيادة المغربية للشعب الصحراوي، وهذا الأمر نوه به رئيس الوزراء المغربي “عزيز أخنوش” خلال اللقاء الذي جمعه بنظيره البرتغالي “أنطونيو كوستا”، إذ إن البرتغال قد تبنت موقفًا داعمًا للطرح المغربي وتوصيفه بالمبادرة الأكثر جدية ومصداقية لتسوية الصراع والدفع في مسار التسوية الشاملة والنهائية لذلك النزاع الإقليمي، ولعل هذا برز بشكل كبير خلال المباحثات التي أجريت في عام 2020 بين وزيري خارجية الدولتين، وبات هذا الموقف مظلة إيجابية لتفاعلات أكثر جدية بين الرباط ولشبونة.
أبعاد وانعكاسات التقارب
بعيدًا عن المخرجات المباشرة لنتائج الاجتماع الثنائي والتي تمخض عنها توقيع 13 اتفاقية تعاون تهدف إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، والتي وصفت بأنها اتفاقيات جيل جديد تتركز بشكل خاص على المجالات الاقتصادية والطاقة والثقافة، وكذلك التعاون في مجال التعليم العالي والصناعة التقليدية والتضامن الاجتماعي، والعدل، وثم هناك أبعاد وانعكاسات مختلفة غير مباشرة يمكن توضيحها في النقاط التالية:
- تحول المغرب لمعبر لوجيستي ونقطة تلاقٍ أوروبي أفريقي: واحد من بين المكاسب الاستراتيجية للمغرب وأيضًا للبرتغال في ضوء ذلك التقارب، هو حالة التطلع والرغبة في إعادة إحياء فكرة الربط البحري بين ميناء بورتيماو جنوب البرتغال وميناء طنجة المتوسطي الذي يقع شمال المغرب، هذا الربط البحري من شأنه أن يزيد بصورة كبيرة من حجم التبادلات التجارية وحركة التنقلات للأفراد والبضائع، ولعل هذا الخط بدأ التفاوض بشأنه في عام 2021 على إثر تناقض المواقف المغربية الإسبانية لاستضافة الأخيرة أمين عام الجبهة.
- تحقيق معادلة الربح للجميع win -win approach: أحد أبعاد التقارب هو التطويق المستمر من جانب المغرب للجنوب الأوروبي، وذلك بغرض تطويق أو عرقلة أي مساعٍ جزائرية لإحداث اختراق في دوائر صنع القرار داخل تلك الدول، ومنعًا لتكرار مسار التقدم الذي شهدته الجزائر وإيطاليا مؤخرًا مع دول أوروبية مماثلة، حيث تعتبر المملكة المغربية أول شريك للبرتغال في العالم العربي وأفريقيا والثانية خارج الاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة، لذا تسعى لهندسة التفاعلات الجنوب أوروبية مع الدائرة المغاربية، في ضوء فتور علاقات الرباط مع روما، وكذلك افتقادها في الوقت ذاته لعلاقات مستقرة مع فرنسا، إلى جانب تضاد المواقف مع تونس وموريتانيا، لذا تعيد توظيف الجوار الجغرافي كبديل وظهير داعم لها بما يحقق توازنًا في التحركات الجزائرية أوروبيًا وإقليميًا.
- دفع فرنسا لإجراء حسابات إقليمية أكثر توازنًا: على خلفيات الاضطراب المستمر في العلاقات الجزائرية الفرنسية، وفي ظل المبدأ الذي تتبناه فرنسا وهو سياسة التوازن في تعاطيها مع ملف الصحراء الغربية، وعلى إثر التفاهمات المغربية (الإسبانية والألمانية في العام الماضي) والبرتغالية في العام الراهن، ومع تقزم الدور الفرنسي في المنطق بصورة عامة بعد حالة الانسحاب التدريجي من الساحل والصحراء، تفتقد فرنسا قواعد تواجدها داخل الدائرة الأفريقية بصورة عامة، وتجد نفسها محاصرة بموجة أوروبية وعالمية تعتبر مخطط الحكم الذاتي هو الحل البراجماتي للقضية الصحراوية، كما تؤدي سياساتها لخسارة شريك استراتيجي على واقع تبني الدبلوماسية المغربية سياسة صارمة مع باريس لتحديد موقف الإليزيه من قضية الصحراء، وباتت سياسة التوازن التي تتبناها غير مجدية في التعاطي مع ذلك الملف، وربما هذا الأمر يعيد حساباتها مرة أخرى نحو إعادة النظر في الطرح المغربي لقضية الصحراء.
وفي التقدير، تتطلع المغرب إلى إعادة هندسة علاقاتها مع جوارها الأوروبي بصورة براجماتية تفضي بصورة كبيرة إلى تحقيق أمرين متبادلين: التطلعات الأوروبية للحصول على الطاقة، وفتح أسواق تجارية جديدة عبر خطوط الربط المزمع تدشينها، في مقابل حصول المغرب على كارت التأييد والدعم لمبادرة الحكم الذاتي في مسألة الصحراء بما يحقق لها تصفية نهائية لتلك المرحلة وحسمها دبلوماسيًا، ومن ثم حصولها على شرعية دولية لتحويلها إلى سياسة فعلية بالوسائل التي تحقق لها ذلك الهدف.