تعد القمم التى تُعقد بين قادة مجموعة من الدول فى إطار إقليمى أو دولى فرصة مهمة لبلورة السياسات والممارسات المستقبلية، كما تظهر فيها التوجهات والتوافقات تجاه القضايا التى تجمع بين هؤلاء القادة وبعضهم، وبين التكتل الدولى الذى يمثلونه وباقى دول العالم. وفى يوم الجمعة الماضى التأمت قمتان، الأولى قمة جدة العربية، والثانية قمة مجموعة الدول السبع الكبرى اقتصاديا. وفى كلا القمتين تبلورت اتجاهات حاكمة سوف يكون لها الدور الأكبر فى تحديد العلاقات العربية مع الدول السبع الكبرى.
وفى حين جسدت قمة جدة العربية اتجاها تصالحيا فيما بين الدول العربية وبعضها، ممزوجا بتأكيد أولوية الحوار والتسويات السياسية الملزمة للفرقاء المتناحرين فى عدد من الدول العربية، والحرص على وحدة أراضى كل دولة وسيادتها، ورفض التدخلات الخارجية التى لعبت دورا كبيرا وما زالت فى تأجيج تلك الأزمات، ورفض تلك التدخلات والدعوة لإنهائها بأسرع ما يمكن. كما أعيد تأكيد مركزية القضية الفلسطينية لكل الدول العربية، ومركزية الحق القومى الفلسطينى فى دولة مستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس.
الاتجاه التصالحى العربى عُبر عنه أيضا فى الحرص على مواجهة التنظيمات الإرهابية وتلك التى تستخدم العنف مصحوبا بأفكار متطرفة وبما يثير الفوضى والتوتر ويضعف مؤسسات الدولة الوطنية، وفى المقابل كان ضروريا تأكيد التزام العرب قيم التسامح وقبول الآخر والتمسك بقيم حُسن الجوار ومطالبة القوى العربية بسلوك مسئول يراعى الحقوق العربية فى المياه وفى السيادة.
قمة هيروشيما التى جمعت قادة الدول السبع الأكبر اقتصادا فى السياق الغربى، قدمت منهجا مختلفا، ففى البداية ثمة تقييم ذاتى لتلك المجموعة بأنها تمثل قمة النظام الدولى، وأنها المسئولة عن قيادة العالم وتحديد ما الذى يجرى فيه وكيف يتم حدوثه ووفق أى قيم، وهو تقييم ذاتى يعكس قدرا من الاستعلاء على باقى دول العالم، بما فى ذلك دول مهمة ورئيسية فى النظام الدولى،لا سيما الصين وروسيا. وامتدادا لهذا التقييم الذاتى، وتجسيدا لأولوية إفشال أى مساع تستهدف إعادة هيكلة النظام الدولى ليكون نظاما تعددي القوى، وأكثر ديمقراطية فى وسائل إدارته ومعالجة أزماته المختلفة سياسيا وأمنيا واقتصاديا، جسدت مواقف قادة مجموعة الدول السبع اتجاها صراعيا بامتياز، لا يخلو من تناقضات، ويعتمد أساليب الإكراه الاقتصادى من خلال فرض العقوبات على من يعتبرون منافسين شرسين للهيمنة الغربية عالميا.
من أبرز تناقضات مواقف قمة الدول السبع ما تعلق بإدارة علاقاتها مع الصين، فمن ناحية تم تأكيد انتفاء النية فى الدخول فى مواجهة معها، والحرص على علاقات تجارية واقتصادية معها، فى الوقت نفسه إعلان تقليل الاعتماد التجارى معها، كما تم انتقاد الصين لتطورها الاقتصادى والعسكرى ومطالبها فى تايوان وبحر الصين الجنوبى، واعتباره مصدر تهديد للدول السبع وحلفائهم فى آسيا على وجه الخصوص. وبدا التناقض واضحا فى دعوة الصين إلى ممارسة دور أكبر لإقناع روسيا لوقف الحرب فى أوكرانيا وقبول تسوية تراعى المطالب الأوكرانية فى المقام الأول، ما يعنى مطالبة الصين لتكون فاعلا تصب تحركاته السياسية وغير السياسية فى مصلحة الغرب المناهض لروسيا والمُصر على هزيمتها وسحقها عسكريا واستراتيجيا. ويتضح التناقض ما بين تهديد الصين وإدانتها من جانب، وبين مطالبتها لكى تكون أداة من أدوات تحقيق الهيمنة الغربية عبر الضغط على روسيا من جانب آخر.
المنحى الصراعى للدول السبع تجاه روسيا ليس بجديد، سواء من حيث المغالاة فى فرض عقوبات اقتصادية وعزل روسيا عن الأسواق العالمية وتهديد مصادر دخلها الرئيسية، أو من حيث المغالاة فى تقديم كل صنوف الدعم العسكرى والسياسى لأوكرانيا بغية إلحاق هزيمة عسكرية لروسيا، تبدو وفق خبرة العام المنصرم مسألة بعيدة المنال، رغم كل ما قدمته تلك الدول السبع وغيرها من أسلحة وخبرات وخطط ومعلومات وطرق إدارة الحروب والمعارك. وفى قمة هيروشيما اتخذت الدول السبع قرارات أخرى لتعزيز الصراع مع روسيا، واستنزاف كل ما يمكن استنزافه من قدراتها المختلفة.
ولعل أكثر المواقف المثيرة للتساؤل والتعجب معا، تلك الدعوة التى قدمتها الدول السبع لإسرائيل والفلسطينيين لاتخاذ خطوات عملية وصولا إلى حل الدولتين، والتى جاءت فى صورة نصيحة وليس قرارا يليق بدول تعتبر نفسها القيادة المعنية بالأمن والسلام فى العالم، وهى نصيحة جاءت فى صورة دعوة للتوقف مما وصف بالإجراءات الأحادية ودعوات التحريض على العنف، والشق الأول موجه ضمنا إلى إسرائيل، والشق الثانى موجه إلى الفلسطينيين صراحة. وفى الشقين رؤية هامشية وسطحية للصراع باعتباره نتيجة لسلوكيات غير حكيمة من طرف يقابلها دعوة للعنف من الطرف الآخر. وفى هذا تغييب تام لمبدأ المسئولية عن السلام العالمى، واعتراف بأن الدول السبع بالرغم من قناعتها الذاتية بقيادة العالم، فهى ليست معنية بالحقوق الفلسطينية، ولا تكترث بمجرد التفكير فى القيام بدور مسئول يدافع عن حقوق شعب ظُلم ويدافع عن نفسه بأبسط الأدوات.
القمتان؛ العربية فى جدة والدول السبع فى هيروشيما تفصحان عن أولويات متباعدة بين تكتل عربى إقليمى يسعى إلى تدعيم أجواء تصالحية من جانب وإعطاء الأولوية لجهود جماعية تنموية من جانب آخر، تقابلها أولويات دول متقدمة اقتصاديا ومؤثرة فى النظام الدولى ككل، لا تلتفت كثيرا لمسئولياتها تجاه الأمن والسلام الدولى، وتنظر للأمور نظرة أنانية، وتضع مصالحها الضيقة كمعيار للحكم على الآخرين. وهذا التباين بين التوجه العربى والتوجه الغربى، لا يخلو من مواجهة حضارية وثقافية، تستدعى إرادة عربية جماعية تجتهد لفرض المصالح والرؤى العربية مهما تكن التحديات المنتظرة فى الأفق.