للمرة الأولي في تاريخ تركيا تستعد لعقد جولة إعادة في الانتخابات الرئاسية، في أعقاب جولة أولي شهدت منافسة انتخابية محتدمة أسفرت عن تقدم الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان “مرشح تحالف الجمهور”، بنسبة 49.5% من الأصوات، علي منافسه كمال كليجدار أوغلو “زعيم الحزب الجمهوري ومرشح تحالف الأمة المعارضة” الذي حصد نسبة44.89 % من الأصوات، دون أن ينجح في تأمين نسبة الحسم المطلوبة للفوز في المرحلة الأولي بنسبة 50% +1، وجاءت هذه النتيجة مغايرة لأغلب استطلاعات الرأي وبعض التوقعات التي كانت ترجح تفوق كمال كليجدار أوغلو وتحالف الأمة المعارضة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لكن أردوغان علي الرغم مما واجهه من حشد من تكتل المعارضة بمختلف أيدولوجيتها، وبرغم الأزمة الاقتصادية وتداعيات زلزال فبراير المدمر، استطاع أن يحقق التفوق في الجولة الأولي، واستطاع تحالفه حصد الأغلبية البرلمانية، مما يدعو للتساؤل بشأن الحظوظ الانتخابية المحتملة لكلا المرشحين في جولة الانتخابات الرئاسية الثانية.
عوامل حاسمة في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية
انعكاسات نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية:
بعيون رجب طيب أردوغان كانت الانتخابات البرلمانية والرئاسية عرس ديمقراطي في ظل المشاركة الانتخابية الكبيرة، والتي بلغت أكثر من نحو 88% من الناخبين، وفوز تحالف الجمهور الحاكم بالأغلبية البرلمانية، حيث حصد 322 مقعدًا في البرلمان، حصد منهم حزب العدالة والتنمية 267 مقعدًا، وحزب الحركة القومية 50 مقعدًا.
وبذلك خسر حزب العدالة والتنمية نحو 28 مقعدًا بنسبة 7.1% مقارنة بالانتخابات السابقة، لكنه مازال محتفظًا بالأغلبية البرلمانية ضمن تحالفه، ومتصدرًا لعدد مقاعد البرلمان مقارنة ببقية الأحزاب، حيث جاء في المرتبة الأولي بنسبة 44.5% من إجمالي مقاعد البرلمان، تلاه حزب الشعب الجمهوري بنسبة 28.2%، فيما أتي في المرتبة الثالثة حزب اليسار الأخضر “الشعوب الديمقراطي”، بنسبة 10.2% أي 61 مقعدًا، وفي المرتبة الرابعة أتي حزب الحركة القومية بنسبة 8.3%، تلاه حزب الجيد بنسبة 7.3%، ثم حزب الرفاة من جديد بنسبة 0.8%، أي 5 مقاعد، فيما أتي حزب العمل التركي في المرتبة الأخير بنسبة 0.7% أي 4 مقاعد فقط.
وعلي الرغم من الصعود النسبي لنسب التصويت لمرشح المعارضة في المدن المركزية، إلا أن رجب طيب أردوغان تفوق في حصد الأصوات في نحو 51 محافظة، وكذلك في نسب التصويت من الخارج، بينما تفوق كليجدار أوغلو في حصد الاصوات في 30 محافظة فقط، كانت من بينها إسطنبول وأنقرة وأضنة، وذلك علي الرغم من تفوق تحالف الجمهور في هذه المدن علي تحالف الأمة المعارض في الانتخابات البرلمانية.
وعلي الجانب الأخر، يري كمال كليجدار أوغلو أن هذه الانتخابات خسارة بطعم الفوز، فعلي الرغم من أن أداء المعارضة في هذه الانتخابات كان الأفضل أمام أردوغان منذ توليه السلطة، إلا أن نتائج الانتخابات كانت محبطة للمعارضة، ومخالفة تمامًا لما ذهبت إليه أغلب استطلاعات الرأي والتي كانت ترجح تفوق المعارضة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، إذ ان تحالف المعارضة لم يحقق الأغلبية في البرلمان وحصد 213 مقعدًا، منهم 169 مقعدًا لحزب الشعب الجمهوري، و44 مقعدًا لحزب الجيد، بارتفاع نسبي بلغ 4% مقارنة بالانتخابات البرلمانية السابقة.
ومما سبق نجد أن نتائج الانتخابات تمنح مؤشرات تعزز كفة أردوغان للفوز بالانتخابات الرئاسية، ابرزها:
تفوق أردوغان في جولة الانتخابات الأولي؛ بنحو مليوني ونصف ناخب بفارق نحو 4.5 نقطة، مما قد يدفع مؤيدوه للتصويت له بكثافة في الجولة الثانية، كما أنه أكسب أردوغان وناخبيه المزيد من الثقة للفوز بهذه الانتخابات، لكن هذه الثقة الزائدة بأن الأمور محسومة قد تشكل تحدي لأدوغان ينضوي علي احتمالية انخفاض مشاركة الداعمين له في جولة الإعادة بدعوي أن الأمور محسومة لأدوغان، ولعل هذا ما دفع أردوغان في خطابه الجماهيري عقب الإعلان عن نتائج الجولة الأولي علي حث الناخبين علي استمرار حماسهم الانتخابي، والتأكيد بأن المعركة الانتخابية لم تحسم بعد ووجوب الاستمرار حتي آخر صوت.
فوز تحالف الجمهور بالأغلبية البرلمانية؛ ويعد عامل ذو تأثير كبير في تعزيز فرص وحظوظ أردوغان الانتخابية، في مقابل تضاؤل فرص منافسة كليجدار أوغلو، لما لهذا العامل من دور كبير في كسب تأييد عدد من الأصوات المترددة التي لم تحسم توجهاتها الانتخابية، أو منحت أصواتها للمعارضة طامحة في التغيير وبعد خسارة المعارضة للأغلبية البرلمانية قد يصعب تحقيق هذا الأمر في ظل الأغلبية البرلمانية للحزب العدالة والتنمية وتحالفه، هذا إلي جانب أن عامل توافق وتناغم الرئيس مع الأغلبية البرلمانية يشكل أمرًا هامًا لاستقرار السياسة التركية، لتجنب صراع بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة التشريعية من شأنه أن يحدث شلل في الحياة السياسية، وهنا سيكون الاستقرار السياسي عاملًا حاسمًا يصب بشكل أكبر في مصلحة أردوغان.
حيث ستتم مخاطبة الجماهير بأهمية فوز أردوغان لتحقيق الاستقرار السياسي وعدم حدوث تخبط وصراع بين مؤسسة الرئاسة والسلطة التشريعية، لذا قد يصوت له البعض ليس من باب الحفاظ علي أردوغان في السلطة، ولكن للحفاظ علي استقرار تركيا السياسي، وأن يكون هناك تناغم بين عمل مؤسسة الرئاسة والسلطة التشريعية.
وعلي الجانب الأخر، قد يحدث عزوفًا عن المشاركة في الانتخابات من قبل مؤيدي المعارضة بعد فقد المعارضة لورقة البرلمان المهمة، إذ لم يعد هناك مبررًا حقيقًا لإحداث تغيير جذري وتنفيذ برنامج المعارضة الهادف لعكس كافة سياسات أردوغان والعودة بالنظام التركي من النظام الرئاسي إلي النظام البرلماني، حيث لا تمتلك المعارضة مقاعد في البرلمان تؤهلها لتمرير أي قانون، أو إحالة أي مشروع قانون للاستفتاء الشعبي الذي يتطلب 360 صوتًا من مقاعد البرلمان، أو تعديل الدستور الذي يتطلب نحو 400 صوتًا من مقاعد البرلمان.
محاولات استمالة أصوات القوميين:
تأييد سنان أوغان لأردوغان، كانت مفاجأة هذه الانتخابات حصول المرشح الثالث في الانتخابات الرئاسية سنان أوغان المرشح القومي العلماني علي نسبة 5,17% من الأصوات، ويري بعض المراقبين أن سنان أوغان “صانع الملوك” لذا إعلان دعمه لأردوغان سيحسم نتائج هذه الانتخابات، إلا أن هذه الرؤية ليست بهذه الدقة، إذ إن سنان أوغان ليس له قاعدة انتخابية ولكنه مرشح تحالف الأجداد الذي أعلن انهياره مؤخرًا وأكد أن كل الأحزاب التي كانت منضوية ضمنه سوف تعلن موقفها من دعم مرشح الرئاسة منفردة.
لذا لا يجب التعويل كثيرًا علي تأثير دعم سنان أوغان لأردغان لأنه لا يمتلك القدرة والفاعلية التي يصورها البعض في التأثير في نسبة 5.17% من الاصوات التي حصل عليها لتوجيهها للتصويت لصالح أردوغان، ومع ذلك يظل عامل دعم سنان أوغان لأدورغان له وزن مؤثر بشكل أو بأخر في هذه الانتخابات التي يشكل الصوت الواحد بها فارقًا كبيرًا، لاسيما وأن عددًا ممن صوتوا لأردوغان في انتخابات عام 2018، ذهبت أصواتهم لسنان أوغان وليس لكيجدار أوغلو في هذه الانتخابات بسبب تأثر سلوكهم التصويتي بالوضع الاقتصادي، لذا من المرجح أن تذهب هذه الكتلة التصويتية لصالح أدوغان في جولة الإعادة.
وتجدر الإشارة هنا لبروز دور القوميين في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية؛ الذين يمثلون نحو 20% من كتلة الناخبين، مما يعزز دورهم في ترجيح كفة مرشح علي الأخر في جولة الإعادة، ونظرًا لتقارب كليجدار أغلو وتحالفه من حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، حظي أردوغان علي دعم تصويتي كبير من القوميين في الجولة الأولي من الانتخابات الرئاسية، وهو الأمر المرجح حدوثه في جولة الإعادة، مما يعزز فرص أدوغان علي حساب منافسه.
محاولات كليجدار أغلو لكسب تأييد القوميين: يحاول كليجدار أوغلو استمالة القوميين الذين صوتوا لسنان أوغان في الجولة الأولي من الانتخابات الرئاسية، وذلك من خلال تصدير خطاب عدائي تجاه اللاجئين تبناه كليجدار اوغلو في أعقاب انتهاء الجولة الأولي من الانتخابات الرئاسية، حيث شدد علي ترحيل اللاجئين في دعايته الانتخابية الأخيرة، كما يحاول كليجدار كسب تأييد زعيم “حزب النصر” أوميت أوزداغ، للحصول علي دعم أصوات القوميين، ولكن هذا الأمر قد ينطوي علي مخاطرة كبيرة قد تجلب لكيجدار اوغلو الخسارة بفارق كبير عن الجولة الأولي، لاحتمالية فقدانه لعدد كبير من أصوات المحافظين التي اقتطعها من أردوغان في الجولة الأولي نظرًا لخطابه القومي العلماني الذي يتودد به للقوميين، والذي قد يثير مخاوف المحافظين.
ومن جانب آخر ليس من السهل علي كليجدار أوغلو الحصول علي تأييد الكتلة القومية له، في ظل رفض القوميين لعلاقاته بحزب الشعوب الديمقراطي الكردي، وهنا يواجه كليجدار أوغلو صعوبة في الموازنة بين علاقاته مع كتلة الأكراد الداعمة له والتي تقدر بنحو 10% من الأصوات، وبين استمالة أصوات القوميين.
تصويت الأتراك من الخارج:
بدأ تصويت الأتراك من الخارج يوم 20 مايو الجاري ويستمر علي مدار أربعة أيام، وعلي الرغم من أن نسبة أصوات الأتراك من الخارج نسبة قليلة من مجموع أصوات الناخبين، لكنها قادرة علي إحداث فارق ولها تأثير مهم في هذه الجولة، نظرًا لضراوة السباق الانتخابي والمنافسة الشرسة بين المرشحين، مما يجعل الصوت الواحد يحدث فارق كبير في نتائج هذه الانتخابات، لذا يعول كلا المرشحين علي الأصوات من الخارج لإحداث فارق وتغليب حظوظهما في هذه الانتخابات، وتجدر الاشارة هنا لتفوق أردوغان في عدد الأصوات من الخارج التي حصل عليها في الجولة الأولي من الانتخابات حيث حصل علي نسبة 57.7% من الأصوات، مما قد يرجح حصده لأصوات الاتراك من الخارج في جولة الإعادة، لاسيما مع دعوته للأتراك في الخارج علي المشاركة بكثافة في الجولة الثانية مع بدء التصويت.
شخصية أردوغان:
استطاع أردوغان قلب الطاولة علي المعارضة وأغلب استطلاعات الرأي بسماته الشخصية وكاريزمته المعهودة في إدارة حملاته الانتخابية بمهارة لاسيما خبراته في الفوز بكافة الاستحقاقات الانتخابات التي خاضها علي مدار عقدين من الزمان، والحزم الاقتصادية التي اتخذها قبل اجراء الانتخابات، وإظهار نفسه بأنه رجل تركيا القوي الذي استطاعت تركيا في عهد تنمية الصناعات العسكرية وإحداث التنمية في مختلف المجالات، وتفعيل الدور التركي بالخارج، وأنه القادر علي تحقيق الاستقرار في تركيا، هذا إلي جانب تسخيره لكل مقومات الدولة لإدارة حملته الانتخابية، وتركيزه علي تأثير العامل الخارجي والدول التي ترغب في سلب تركيا استقلالها السياسي والاقتصادي بدعمها للمعارضة، مما أدي لكسب أردوغان المزيد من التأييد وتحقيقه التفوق علي المعارضة في جولة الانتخابات الأولي.
ويستمر أردوغان في اتباع نفس نهج، ويحاول جاهدًا منذ نهاية جولة الانتخابات الأولي حشد الجماهير وإعادة تجميع صفوفه للتصويت له في جولة الإعادة، فمثلًا ظهر مؤخرًا يفتتح مستشفى “دفنه” الحكومي في ولاية هاطاي، وهي احدي الولايات التي ضربها زلزال فبراير المدمر، وهي ولاية في أٌقصي جنوب تركيا وأغلبية سكانها علويين ونحو 90% من سكانها صوتوا لكليجدار أوغلو في الانتخابات الماضية، وهو تأكيد من أردوغان أنه يدير مؤسسات دولة لا تفرق بين ناخبيها وتحقق التنمية للجميع مما قد يصب في صالح أردوغان في جولة الإعادة.
كما يحاول أردوغان جذب الشباب ومخاطبهم والتواصل معهم بوسائل مختلفة لاسيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومقابلة الشباب في المكتبات العامة، وهو ما قد يجذب تصويت نسبة من الشباب له.
فيما يبدو خطاب كليجدار أوغلو شديد العجز يرفع ورقة عودة اللاجئين لاستمالة أصوات القوميين، لفقده كل أوراق التأثير، كما ظهر بعد يومين من الانتخابات يضرب بقوة علي الطاولة في مشهد فسره البعض بأنه يعكس التوتر الذي ألم به لاسيما بشأن قدرته علي مواصلة حشد التعبئة للتصويت له كما كان في المرحلة الأولي من الانتخابات، كما تظل شخصية كليجدار اوغلو لا تتمتع بالكاريزما والخبرات التي تتمتع بها شخصية أردوغان مما يعزز من فرص فوز أردوغان.
وختامًا: شهدت تركيا انتخابات برلمانية ورئاسية تنافسية شرسة، جاءت نتائجها مغايرة لكافة التوقعات واستطلاعات الرأي حيث أسفرت عن حصد تحالف الجمهور لأغلبية مقاعد البرلمان، وتفوق رجب طيب أردوغان في نتائج الانتخابات الرئاسية بفارق نحو أربعة نقاط عن منافسه كمال كليجدار أوغلو، لتنتقل الانتخابات الرئاسية لجولة إعادة، يتنافس فيها المرشحان اللذان حصلا علي أكبر عدد من الأصوات، ويكون الفوز من نصيب الأعلى امتلاكًا لأصوات الناخبين، دون التقيد بنسبة 50+1 شرط الفوز بالجولة الأولي في الانتخابات الرئاسية.
وتشير معظم المؤشرات إلي تصاعد حظوظ أردوغان في جولة الإعادة، وأنه المرشح الأوفر حظًا القادر علي حسم الانتخابات لصالحه وحصد أصوات الناخبين في الداخل والخارج، لكن يجب علي أردوغان التأكيد علي الناخبين بأهمية فاعلية المشاركة في الانتخابات لأن كل صوت مهم ويشكل فارقًا في ظل ضراوة السباق الانتخابي، ومع ذلك تبقي كافة الاحتمالات مفتوحة في هذه المعركة الانتخابية الحامية الوطيس بين المرشحين المتنافسين، وتظل نتائج هذه الانتخابات بيد الناخب التركي الذي يشكل صوت واحد له فارقًا في هذه الانتخابات.