عُقدت القمة العربية الثانية والثلاثون في مدينة جدة بالسعودية، في 19 مايو 2023، تحت شعار” التجديد والتغيير”، وقد توجت القمة بمشاركة سوريا بعد انقطاع لمدة أحد عشر عامًا منذ تجميد عضويتها في نهاية 2011، إذ كانت آخر قمة حضرها الرئيس السوري “بشار الأسد” في سرت بليبيا في مارس 2010، وكانت اللقاءات العربية الممهدة لعودة سوريا حاضرة في هذا الشأن بين اجتماع دول مجلس التعاون الخليجي والأردن والعراق ومصر في جدة في أبريل الماضي، وآخر في عمان بمشاركة وزراء خارجية الأردن والسعودية ومصر والعراق وسوريا في مايو 2023، ثم جاء قرار وزراء الخارجية العرب بعد اجتماع القاهرة في 7 مايو الجاري بالاتفاق نهائيًا على عودة سوريا. وقد شارك في القمة العربية بجدة الرؤساء، وممثلين عن السلطات في بعض الدول، ورؤساء الوزراء كرئيس وزراء لبنان “نجيب ميقاتي” ورئيس الوزراء العراقي” محمد شياع السوداني”، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي “محمد المنفي” وممثل عن رئيس مجلس السيادة السوداني “دفع الله الحاج علي”، ورئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني “رشاد محمد علي العليمي”. وعليه تناقش هذه الورقة التحولات التي يشهدها الإقليم وتأتي القمة في إطاره، وما عبرت عنه من مخرجات ومحددات للأمن القومي العربي.
أولًا- تحولات عديدة
طرحت القمة السابقة في الجزائر في الدورة الواحدة والثلاثين التي عقدت في نوفمبر 2022 شعار” لم الشمل”، بينما طرحت قمة جدة في دورتها الثانية والثلاثين شعار “التجديد والتغيير”، لكن تختلف هذه القمة نظرًا لعدة اعتبارات وواقع إقليمي مختلف هذه المرة من حيث المتغيرات الجديدة والتحولات العديدة المتمثلة في حلحلة الخلافات العربية-العربية، ونجاح الدول العربية في تحقيق استقلالية في القرار الخاص بعودة سوريا رغم العقبات في هذا الاتجاه ورفض الولايات المتحدة على سبيل المثال لعودة سوريا، ولاتجاه التطبيع العربي مع سوريا. لا شك أن انخراط سوريا في الحاضنة العربية يعزز من الأمن الإقليمي والوحدة العربية تجاه مهددات الأمن العربي، ومستقبلًا قد يكون لهذه العودة تأثير إيجابي على الأوضاع في سوريا ولبنان.
كما ترتب التهدئة مع إيران والدول العربية وسوريا مزيدًا من التعاون الإقليمي الذي يعزز العلاقات الاقتصادية مثل خط السكة الحديد المطروح ليربط بين إيران والعراق وسوريا، ويصل هذا الخط بين مدينة “الشلامجة” الإيرانية في محافظة “خوزستان” وخطوط السكك الحديدية العراقية في مدنية “البصرة” بطول 32 كيلومترا، بما يعزز العلاقات الاقتصادية بين هذه الدول ويمكن استخدام هذا الممر كطريق تجاري لتصدير المنتجات الإيرانية لدول المشرق العربي.
ومن ناحية أخرى، ينطوي قرار عودة سوريا على اتجاه نحو إنهاء التوترات وتعزيز التعاون بين هذه الدول بما يحقق التكامل الاقتصادي وربما الاتجاه إلى استثمار الدول العربية بها عبر إعادة الإعمار والتعاون في مجالات الغاز والربط الكهربائي، خاصة أن تكلفة الصراعات أكبر من السلام والاستقرار، إذ قادت الصراعات المستمرة منذ ثورات الربيع العربي إلى تأثيرات سلبية على حالة الأمن العربي، ومن ثم كان الاتجاه العربي إلى ضرورة إنهاء عزلة سوريا وعودتها إلى محيطها، وبالتبعية إعادة النظر في ملفات خلفتها الأزمة السورية على الأمن العربي مثل ملف اللاجئين؛ إذ بلغ عدد اللاجئين السوريين 5.6 ملايين لاجئ في الخارج، بالإضافة إلى ضرورة النظر في ملف الجماعات المسلحة مثل “جبهة النصرة” و”هيئة تحرير الشام” و”أحرار الشام”، وما يتعلق بتهريب المخدرات “الكبتاجون” عبر سوريا إلى الخليج.
تحول آخر ينطوي عليه الواقع الإقليمي هو الاتفاق السعودي-الإيراني الموقع في 10 مارس 2023 برعاية صينية. وما يطرح من اتجاهات حول التطبيع بين سوريا وتركيا، والتقارب بين تركيا ومصر ودول الخليج بما يوحي بإعادة تشكيل أوسع للأمن الإقليمي. كذلك توحي الترتيبات العربية الأخيرة بالاتجاه نحو التهدئة والتنمية، إذ توجد دوافع عربية للخروج من الأزمات العربية وتفعيل التعاون العربي من خلال إحياء دور الجامعة العربية لوقف التدخلات الخارجية في شئون الدول العربية، والعمل على تعزيز دور الجامعة في إدارة وحل الأزمات العربية. وربما تمثل القمة الأخيرة بداية جديدة للعمل العربي المشترك. إذ إن هناك تنسيقًا عربيًا بشكل مستمر بما قد يساعد في بلورة موقف عربي موحد تجاه القضايا العربية سواء عبر التنسيق واتباع آليات جديدة للعمل العربي وهو ما شهدها في اللقاءات العربية مثل اللقاء الخماسي بمشاركة (مصر، والعراق، والأردن، والإمارات، والبحرين) في مدينة العلمين الجديدة في أغسطس 2022 وآخر في مدينة شرم الشيخ في 19 يونيو2022 بحضور (قادة مصر والأردن والبحرين)، ولقاء بمدينة العقبة الأردنية بمشاركة (قادة مصر والأردن والعراق والإمارات) في 25 مارس 2022 في محاولة لترتيب البيت العربي وتنسيق الرؤى.
من ناحية أخيرة؛ كان للقمة طابع مختلف هذه المرة بمشاركة أحد أطراف الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا، إذ حضر الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” في القمة بما عبر عن التوازن في العلاقات بين الدول العربية والقوى المنخرطة في الحرب الروسية – الأوكرانية، والموقف العربي الذي يعبر دائمًا عن عدم الانحياز لأي من الأطراف، وتفضيل الحلول السلمية والسياسية، إذ تتفاقم التحديات الاقتصادية والإنسانية الناتجة عن هذه الحرب بما يرتب انعكاسات على الدول العربية خاصة ما يتعلق بتصدير الحبوب، وربما مثل حضور الرئيس الأوكراني اتجاهًا لأن يكون للدول العربية دور يساهم في خفض هذا الصراع، إذ طرح الرئيس الأوكراني خلال القمة العربية مبادرة للسلام لإنهاء الحرب الروسية- الأوكرانية، بما قد يقود إلى أن تتجه بعض الدول العربية إلى القيام بالوساطة بين طرفي الحرب، كما طرح ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” خلال كلمته بالقمة مبادرة لاستعداد السعودية للقيام بالوساطة بين روسيا وأوكرانيا، إذ كان لها دور سابق في الوساطة في إطلاق سراح عشرة أسرى من مواطني دول(المغرب والولايات المتحدة وبريطانيا والسويد وكرواتيا) في سبتمبر 2022 في إطار عملية لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا بوساطة سعودية.
ثانيًا- محددات الأمن القومي العربي
بالنظر إلى إعلان جدة الصادر عن القمة العربية الثانية والثلاثين، نجد أنه انطوى على مجموعة من المحددات السياسية والاقتصادية نذكرها على النحو التالي:
• مركزية القضية الفلسطينية: أكد إعلان جدة على مركزية القضية الفلسطينية باعتبارها أحد العوامل الرئيسية للاستقرار في المنطقة، وأهمية التسوية الشاملة والعادلة للقضية من خلال إيجاد أفق حقيقي لتحقيق السلام على أساس حل الدولتين وفقًا للمرجعيات الدولية ومنها “مبادرة السلام العربية” التي طرحتها المملكة العربية السعودية في قمة بيروت 2002 والتي تقوم على “الأرض مقابل السلام”، إضافة إلى استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وخاصة في العودة وتقرير المصير، وتجسيد استقلال دولة فسطين ذات السيادة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، إضافةً إلى التأكيد على ضرورة قيام المجتمع الدولي بمسئوليته لإنهاء الاحتلال ووقف الاعتداءات، والانتهاكات الإسرائيلية التي تعرقل من مسار الحل السياسي.
• الأزمة في السودان: اتّجهت مخرجات القمة إلى التأكيد على ضرورة التهدئة وتغليب لغة الحوار، وتوحيد الصف ورفع المعاناة عن الشعب السوداني، والحفاظ على مؤسسات الدولة الوطنية ومنع انهيارها والحيلولة دون أي تدخل خارجي يؤجج الصراع ويهدد السلم والأمن الإقليمين، والبناء على اجتماعات جدة في 6 مايو الماضي، والتي شملت محادثات بين طرفي الصراع وبرعاية أمريكية – سعودية كخطوة مهمة نحو إنهاء الأزمة وعودة الأمن والاستقرار إلى السودان.
• عودة سوريا: عبرت مخرجات القمة عن الترحيب بعودة سوريا ومشاركتها في اجتماعات مجلس الجامعة والمنظمات والأجهزة التابعة لها بما يسهم في دعم استقرار سوريا، والحفاظ على وحدة أراضيها وعودة دورها ومكانتها الطبيعية في الوطن العربي، مع استمرار الجهود العربية الهادفة إلى مساعدة سوريا على تجاوز أزمتها اتساقًا مع المصلحة العربية المشتركة، والعلاقات الأخوية التي تجمع الشعوب العربية.
• الأزمة اليمنية: عبر إعلان جدة عن دعم كل ما يضمن أمن واستقرار اليمن ودعم الجهود الأممية والإقليمية للتوصل إلى حل سياسي شامل للأزمة اليمينة، استنادًا إلى المرجعيات الثلاث المتمثلة في المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية، ومخرجات الحوار الوطني اليمني، وقرار مجلس الأمن رقم 2216، بالإضافة إلى دعم مجلس القيادة الرئاسي في اليمن لتحقيق الأمن والاستقرار والسلام بها.
• لبنان: حث إعلان جدة الأطراف اللبنانية للتحاور لانتخاب رئيس للجمهورية يلبي طموحات اللبنانيين، وانتظام عمل المؤسسات الدستورية وإقرار الإصلاحات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته.
• رفض التدخلات الخارجية: عبر إعلان جدة عن الموقف العربي الرافض للتدخلات الخارجية في الشئون الداخلية للدول العربية، والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة، والتأكيد على أن الصراعات العسكرية لن تؤدي إلى انتصار طرف على حساب آخر لكنها تفاقم من معاناة الشعوب وتثخن في تدمير منجزاتها، وتحول دون تحقيق تطلعات المواطنين. مع التأكيد على وحدة واستقرار ليبيا واليمن. كما فصلت القرارات من (11-14) ملف تدخلات القوى غير العربية، وتمت الموافقة على القرارات التي قدمتها الدول العربية بهذا الشأن.
• الأمن المائي: عبر القرار الخامس عشر ضمن القرارات التفصيلية للقمة ولم يرد ذكره في إعلان جدة عن الموقف المؤيد والدعم لمصر والسودان في قضية سد النهضة الإثيوبي.
• التنمية المستدامة: اختلف بيان القمة هذه المرة من حيث التأكيد على أبعاد أخرى غير تقليدية للأمن العربي من حيث تحقيق التنمية المستدامة ومكافحة الجريمة والفساد، وحشد الطاقات والقدرات لمستقبل قائم على الإبداع والابتكار، واستثمار الموارد والفرص، ومعالجة التحديات بما يحقق التنمية، وتفعيل الإمكانيات المتوفرة، واستثمار التقنية من أجل نهضة عربية صناعية وزراعية شاملة. وعبر البيان عما قامت به السعودية من جهود خلال رئاستها للقمة الثانية والثلاثين وعملها على عدد من المبادرات التي من شأنها تدفع العمل العربي المشترك في المجالات الثقافية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ومنها؛ “مبادرة تعليم اللغة العربية” لغير الناطقين بها وتستهدف أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب بما يسهم في تعزيز التواصل الحضاري بين الدول العربية والعالم. كذلك “مبادرة الثقافة والمستقبل الأخضر” وتهدف إلى رفع مستوى التزام القطاع الثقافي في الدول العربية تجاه أهداف التنمية المستدامة وتطوير السياسات الثقافية المرتبطة بالاستدامة والمساهمة في دعم الممارسات الثقافية الصديقة للبيئة وتوظيفها في دعم الاقتصاد الإبداعي في الدول العربية.
بالإضافة إلى “مبادرة استدامة سلاسل إمداد السلع الغذائية الأساسية للدول العربية” وتتمثل في مجموعة من الأنشطة وتوفير الفرص الاستثمارية ذات الجدوى الاقتصادية والمالية بما يسهم في تحقيق الأمن الغذائي للدول العربية وتلبية احتياجاتها من السلع الغذائية.
وأخرى “مبادرة البحث والتميز في صناعة وتحلية المياه” بهدف تحفيز البحث العلمي والتطبيقي والابتكار في صناعة انتاج المياه المحلاة وحلول لمياه الدول المهتمة والمحتاجة، بالإضافة إلى التركيز على نشر ومشاركة المعرفة والتجارب والمساهمة في تحسين اقتصاديات هذه الصناعة لخفض التكلفة، ورفع كفاءة العمليات واستدامتها بيئيًا، والمساهمة في اصدار المواصفات والمقاييس المعيارية والهيكلة المؤسسية لقطاعات المياه لتكون صناعة استراتيجية للدول العربية. وأخيرًا؛ “مبادرة انشاء حاوية فكرية للبحوث والدراسات في الاستدامة والتنمية الاقتصادية” والتي من شأنها احتضان التوجهات والأفكار الجديدة في مجال التنمية المستدامة، مع تعزيز الاهتمام المشترك ومتعدد الأطراف بالتعاون البحثي وابرام شراكات استراتيجية.
• تعزيز الهوية العربية: عبر إعلان جدة عن الالتزام بالقيم والثقافة القائمة على الحوار والتسامح والانفتاح وعدم التدخل في شئون الآخرين واحترام قيم وثقافات الآخرين وسيادة واستقلال الدول وسلامة أراضيها، واعتبار التنوع الثقافي إثراء لقيم التفاهم والعيش المشترك، مع رفض هيمنة ثقافات دون سواها واستخدامها كذريعة للتدخل في الشئون الداخلية للدول العربية.
ختاما؛ تمثل المحددات الرئيسية التي تمخضت عن القمة العربية في جدة، عوامل حاكمة للرؤية والمنظومة العربية تجاه قضايا المنطقة والتي تمثلها الجامعة العربية ككيان جامع لهذه الدول، لكن يظل التنفيذ الفعلي للقرارات ومخرجات القمة رهنًا بإرادة الدول والقادة العرب واستمرار التنسيق المشترك، مع الأخذ في الاعتبار المتغيرات الإقليمية والدولية بين حين وآخر.