تُعد تجارة الانبعاثات إحدى الوسائل المهمة التي تلجأ إليها العديد من الدول لتلبية الالتزامات المحددة ببروتوكول كيوتو. وهي تلك الالتزامات المعنية بتقليص الانبعاثات الضارة، في محاولة لتخفيف وخفض خطر التغير المناخي. وتنقسم هذه التجارة إلى أنواع عدة، أوسعها على الإطلاق هو تجارة الانبعاثات الكربونية التي تستهدف ثاني أكسيد الكربون. ووحدات التداول بها هي ثاني أكسيد الكربون المكافيء tCO2e والطن المتري من الكربون.
وطبقًا لمبادئ هذه التجارة، يمكن لكل دولة أو مؤسسة لها أنشطة تزيد من التلوث أن تشتري حق إنتاج انبعاثات ضارة من الكربون أكثر من الحدود المسموح بها من الدول والمؤسسات التي تنتج انبعاثات أقل من تلك الحدود. وقد نتج عن ذلك إنشاء “بورصة” للكربون تحافظ على الحدود القصوى للتلوث على مستوى العالم، تقوم بمكافأة الدول الملتزمة بواسطة عملية البيع والشراء، وتشجيع جميع المتعاملين على تغيير أنماط إنتاجهم، وتطوير تكنولوجيات جديدة لتقليص الانبعاثات.
وتُعرف طريقة التداول Cap and trade بالحد الأقصى والتجارة، حيث يتم وضع حد أو سقف شامل على كمية الانبعاثات المسموح بها من الصناعات والأنشطة المختلفة. ثم تقوم الحكومات بعد ذلك بإصدار التصاريح حتى الحد المتفق عليه، ويتم منح تلك التصاريح مجانًا أو بيعها بالمزاد العلني للشركات. وإذا تمكنت إحدى تلك الشركات من كبح انبعاثاتها إلى ما تحت هذا الحد، فيمكنها أن تبيع نصيبها الزائد عن الحد المسموح والمرخص به في سوق الكربون بمقابل. أما إذا تعدت الحد المسموح به، فعليها شراء رخص إضافية. ويتم التداول بمبدأ كميات العرض والطلب كأي بورصة.
سياسات العالم تجاه تجارة الانبعاثات
يتم العمل بالفعل بسياسات تجارة الانبعاثات في عدة دول، منها: دول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية، والصين، وغيرها، وإن كان مصير تلك السياسة لا يزال غير واضح مع انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ في 2017. لكن بالرغم من ذلك، لا تزال تلك السياسة تتطور وتكسب أرضًا في دول أكثر. ففي الصين، على سبيل المثال، تم إنشاء “سوق تيانجين”، كأول سوق محلية للكربون في الصين، قبل أن يتبعه العديد من الأسواق الصينية الأخرى. ونشأت “سوق تيانجين” بمساهمة أساسية بين شركة البترول الوطنية الصينية ومدينة تيانجين. ومن المفارقة أن سوق الكربون الصيني الآن تتفوق على معظم الأسواق التي سبقته، ومن المرجح أن تلعب هذه السوق دورًا في تحديد السعر القياسي الفعلي الذي ستدرسه الأسواق والشركات الأخرى. بل إن مقالة منشورة في دورية Foreign Affairs أشارت في عام 2016 لقدرة هذه السوق على وضع المعايير السياسية الجديدة لتجارة الانبعاثات، والتي ستتطلب تعاونًا دوليًّا كبيرًا وقدرًا عاليًا من الشفافية والثقة بين الحكومات.
هناك قصة نجاح أخرى في هذا المجال في كاليفورنيا، والتي استرعت الانتباه العالمي خلال الأعوام الأخيرة. ففي عام 2006 انتقد العديد سياسات الولاية البيئية لدعم سوق الكربون، وطالبوا بإغلاقه، محذرين من تهاوي الاقتصاد حسب توقعاتهم. لكن هذه التوقعات باءت بالفشل عندما أصبحت ولاية كاليفورنيا خلال عشرة أعوام سادس أكبر اقتصاد عالمي. وزاد عدد الوظائف بنحو 900,000 وظيفة في عامي 2013 و2014 بمعدل زيادة 5.4% متعدية المعدل المتوسط للولايات المتحدة البالغ 1.8% آنذاك. وكانت معظم تلك الوظائف نتيجة مباشرة لاستثمارات الولاية في مجال تكنولوجيا الطاقة النظيفة التي تتوافق مع سياسات سوق الكربون.
ويوضح الشكل التالي تطور قيمة سوق الكربون خلال الفترة (2013-2016). ومن المتوقع أن تصل المكاسب التراكمية من السوق إلى 10,4 مليارات يورو بحلول عام 2020، وإلى 23,1 مليار دولار بحلول عام 2025.
شكل رقم (1): تطور قيمة سوق الكربون العالمية (بليون يورو)
المصدر: بوابة Statista للإحصاءات وبحوث التسويق. متاح على الرابط التالي:
https://www.statista.com/statistics/223516/global-carbon-market-value-forecast/
المحاولات المصرية السابقة للتطبيق
جاءت أولى خطوات تدشين تجارة الانبعاثات في مصر في عام 2010، وذلك حين طلبت الحكومة المصرية من الأمم المتحدة إدراج أسماء جديدة لقائمة الشركات المعتمدة والحاصلة على أرصدة ائتمان كربوينة. وكانت مصر في ذاك الوقت لاعبًا صغيرًا في آلية التنمية النظيفة لبروتوكول كيوتو بعد توقيعها على هذه الآلية في عام 1999، وهي الآلية التي تسمح بتوفير الكربون من مشاريع الطاقة النظيفة في الدول النامية ليتم بيعها للمشترين في الدول الغنية التي تسعى إلى تحقيق أهداف الانبعاثات الإلزامية.
شكل (2): تطور نصيب الفرد من الانبعاثات الكربونية في مصر (طن متري/ فرد، خلال الفترة 1960-2014)
المصدر: موقع مبادرة البيانات المفتوحة من البنك الدولي، متاح على الرابط التالي:
https://data.worldbank.org/indicator/EN.ATM.CO2E.PC?locations=EG
وأعربت “الوكالة المصرية للشئون البيئية” وقت تقديم الطلب في عام 2010، عن أن مصر يمكن أن تكون واحدة من البلدان الأكثر تضررًا من تغير المناخ. وأشارت الوكالة إلى دراسة أجرتها الأمم المتحدة ذهبت إلى أن ثمانية ملايين شخص يمكن أن يتشردوا بسبب ارتفاع متر واحد في مستوى سطح البحر، وقد تغرق مناطق في دلتا النيل على ساحل البحر المتوسط، وهو ما دفع الدولة إلى العمل على زيادة الوعي بالوضع البيئي لتشجيع المزيد من الشركات على تقديم الطلبات والقروض المدعومة من المانحين لمساعدة الشركات الملوثة على تلبية القواعد البيئية. وتلخصت خطة الحكومة حينها في التحول من سياسة إغلاق الصناعات الملوثة، إلى سياسة بها قدر أكبر من التعاون عن طريق المساعدات الفنية لتلك الصناعات وتيسير القروض. كما استهدفت هذه السياسة زيادة نسبة الطاقة المتجددة في جملة مصادر الطاقة المستخدمة وتعزيز تجارة الكربون. كما تم تسجيل 4 شركات مصرية في مخطط الأمم المتحدة لقائمة المتداولين، مع رصد ما يقرب من خمسين شركة لضمهم للقائمة مستقبلًا.
وبحلول عام 2015، أعلنت مصر في تقريرها السنوي الذي قدمته إلى الأمم المتحدة في شهر نوفمبر من ذلك العام، أنها قد تطلق برنامجًا محليًّا لتداول الانبعاثات يمكن أن يتحول إلى سوق إقليمية للكربون، وإن كانت لم تحدد هدفًا واضحًا للقدر المطلوب لتقليص الانبعاثات في المستقبل، لكنها طرحت إمكانية إنشاء سوق انبعاثات محلية للمساعدة في دفع تخفيضات الغازات الدفيئة. وأشارت اللجنة الوطنية للتنمية الصناعية المصرية إلى أن الغاية الأساسية من هذه السوق، بجانب المكاسب البيئية، هي جذب الاستثمار الأجنبي المباشر في معاملات تجارة الانبعاثات الكربونية الإقليمية، خاصة في المنطقة العربية والإفريقية، دون تحديد جدول زمني محتمل.
وتزامنت هذه الخطوة مع صدور بيان للبنك الأوروبي للإعمار والتنمية (EBRD) في شهر أكتوبر 2015، أشار فيه إلى أنه يسعى لتطوير آلية متقدمة للتنمية النظيفة في بلدان جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط، ومواصلة دعم تطوير سوق الكربون في المنطقة، بما في ذلك في مصر، خاصة أن مصر كانت قد أنفقت 295 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في عام 2012، معظمها من محطات الوقود الأحفوري القديمة.
مستقبل سوق الانبعاثات الكربونية في مصر
في فبراير 2018، أعلنت وزارة البيئة المصرية استعدادها لإطلاق أول سوق وبورصة لتجارة الانبعاثات وشراء الأرصدة الائتمانية الكربونية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وعقدت الوزارة ورشة عمل لشرح مشروع بناء القدرات لخفض الانبعاثات التابع للإدارة المركزية للتغيرات المناخية وآليات تمويل فرص الخفض الوطني للكربون. وُوجهت الدعوة للعديد من الشركات الصناعية، وشركات توليد الطاقة المتجددة والكهرباء، لبحث تفعيل تلك السوق وتفعيل دورها في مجال تشجيع الصناعات المختلفة على رصد انبعاثاتها وتقليلها، مع العمل على تطوير التكنولوجيات الحديثة في هذا المجال. كما تم التأكيد على دور السوق في تنظيم المراجعة الدورية من قبل وزارة البيئة لكل الأنشطة الصناعية لضمان التزامها بتعهدات خفض الانبعاثات الضارة، في مقابل الاستثمارات والمنح المالية. وطلبت وزارة البيئة من الشركات المدعوة وبعض الجهات الدولية وضع إطار عام لمقترحاتهم وتصورهم لشكل التعامل داخل السوق، مع موافاة الوزارة بكل البيانات ذات الصلة خلال الربع الثاني من عام 2018. كما أوضحت الوزارة أن تمويل شهادات التداول سيتم من خلال البرامج البيئية للأمم المتحدة، خاصة المتعلقة بالتغير المناخي وآثاره السلبية.
وحتى موعد الإطلاق الفعلي للسوق الوطنية للكربون، بدأت العديد من الشركات المصرية بالفعل في تقييم حجم انبعاثاتها وفرص المكاسب الاقتصادية والبيئية من تبني نهج الوزارة وسوق تجارة الانبعاثات. على سبيل المثال، قامت إحدى الشركات المصرية، المعنية بالزراعة العضوية، بإنشاء “مركز البصمة الكربونية” في عام 2014، ليكون قائمًا على تقدير حجم الانبعاثات المنتجة من نشاط الشركة، وتحليل السيناريوهات المستقبلية المتوقعة له بعد تطبيق الحلول المختلفة. وقد شارك المركز في إعداد دراسة مهمة في عام 2016 بعنوان “مستقبل الزراعة في مصر”، قارن فيها تكلفة إنتاج الأغذية العضوية والتقليدية من خلال تطبيق منهجية محاسبة التكاليف الكاملة. وخلصت الدراسة إلى أن الزراعة العضوية أرخص في الواقع، وأفضل بيئيًّا في نواحٍ عدة، وبصفة خاصة في حجم الانبعاثات الضارة.
***
مما سبق يمكن القول إن مصر على أعتاب حراك بيئي اقتصادي كبير مع بداية إطلاق بورصة الكربون، خاصةً مع التوسع المتوازي في تغيير السياسات البيئية وإنشاء محطات الطاقة المتجددة، ودعم وسائل النقل الكهربائية، العامة منها والخاصة، وتشجيع الشركات العاملة في هذه المجالات، وتزايد عدد شركات ريادة الأعمال والناشئة في قطاعات الطاقة النظيفة والزراعة العضوية وتكنولوجيا حماية البيئة، وهو ما سيفتح بابًا لاستثمارات جديدة لم تكن مطروحة بنفس الكثافة سابقًا.