تبرز مخاوف سيناريو تكرار الحرب الأهلية في إقليم دارفور بغرب السودان، وتحديدًا بعد تجدد الاشتباكات بين قوات الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع في مدينة الفاشر عاصمة الإقليم ومدينة الجنينة. ضمن هذا الإطار، عانت دارفور بالفعل عقودًا من الاضطرابات الأمنية والأزمات الإنسانية. ويبدو الوضع يتكرر مع استمرار انتهاكات الهدن الإنسانية والخروقات المتتالية لاتفاق جدة بشأن حماية المدنيين وتسهيل الترتيبات الإنسانية حتى بعد تمديه. ومع دخول الصراع أسبوعه السابع، يبدو أن الإقليم قد دخل في حالة من السيولة الأمنية.
مسارح اشتباكات العنف القبلي
تصاعد العنف بشكل حاد في إقليم دارفور، حيث قُتل مئات المدنيين وحرق الأسواق وتفشي نهب المرافق الصحية والمساعدات الإنسانية، وانتقال تداعيات الصراع بدرجة خطيرة على حياة المدنيين، في ضوء الأهمية الاستراتيجية للإقليم لطرفي الصراع الدائر، وتحديدًا بالنسبة للدعم السريع التي ينتمي أغلبها إلى جماعات عرقية في الإقليم. كما يشترك الإقليم في الحدود مع دول ليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى. على هذا، سيتم توضيح أهم مواقع ومسارح الاشتباكات بين الجماعات والقبائل في ولايات دارفور على النحو التالي:
• غرب دارفور (مدينة الجنينة): منذ اندلاع الاشتباكات المسلحة تركز القتال في هذه المنطقة خلال الأسبوع الثاني من القتال، تضاعف العنف أكثر من ثلاثة أضعاف، واندلعت اشتباكات دامية بين قبائل المساليت والميليشيات العربية المرتبطة بالدعم السريع. هدأ الوضع مؤقتًا في المدينة بعد هدنة بواسطة زعماء القبائل في أوائل مايو 2023، ثم تصاعدت مرة أخرى في 12 مايو 2023. ضمن هذا السياق، قام مدنيين بتسليح أنفسهم لحماية الممتلكات وتجنب أعمال النهب. كما أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أنه تم إحراق جميع مواقع تجمع النازحين البالغ عددها 86 في الجنينة، مما أجبر أكثر من 85000 شخصًا على النزوح المؤقت في الأحياء الواقعة في الأجزاء الشمالية من عاصمة الولاية.
• شمال دارفور (مدينة الفاشر): سُجلت أيضًا اشتباكات بين طرفي الصراع وفي 20 أبريل 2023، توسطت قادة السلطات المحلية في اتفاق لوقف إطلاق النار بين الطرفين في الفاشر، مما أدى إلى تقسيم المدينة فعليًا بين الجانبين، وسمح الاتفاق لهما بالحفاظ على مواقعهم غرب وشرق المدينة، مع تشغيل المنطقة الوسطى كعازل بين الطرفين تحت سيطرة قوات الشرطة. وبعد أسبوع، وقعت خمس جماعات مسلحة موقعة على اتفاق جوبا للسلام (فصيل بقيادة “ميني أركو ميناوي” من حركة جيش تحرير السودان، وحركة جيش تحرير السودان-المجلس الانتقالي، وحركة العدل والمساواة، وتجمع قوات تحرير السودان، وحركة التحالف السوداني) نشروا مئات المقاتلين لتأمين المدينة في 8 مايو 2023، وسحب “ميناوي” قواته المتمركزة في شمال أم درمان إلى شمال دارفور، بعد فشل التوسط بين الأطراف المتحاربة.
• جنوب دارفور (مدينة نيالا): كانت مسرحًا لقتال عنيف بين طرفي الصراع، وتشكّلت مبادرة محلية بقيادة المجتمع المدني، لكن فشلت في الحفاظ على الهدوء بالمدينة، حيث استمر القتال بينهما، حيث تُسيطر الدعم السريع على الجزء الشرقي من المدينة، بما في ذلك مطار نيالا. أما القوات المسلحة السودانية في النصف الغربي، الذي يستضيف مقر الحكومة السودانية.
• شرق ووسط دارفور: شهدت اشتباكات بمستويات أدنى في وسط دارفور، تركز القتال في العاصمة زالنجي في المحليات الثلاث (زالنجي ووادي صالح وأم دخن) بوسط دارفور خلال الفترة من 15 إلى 25 أبريل 2023. مع ذلك، فقد انخفضت مستويات العنف منذ ذلك الحين في كلتا الولايتين، لكن هاجمت الدعم السريع قاعدة للقوات المسلحة السودانية بالقرب من عاصمة وسط دارفور ودخلوا المدينة ونهبوا البنوك والمباني الحكومية ومكاتب منظمات المجتمع المدني.
ارتدادات وخيمة وتباين المواقف
تُزيد الاشتباكات المسلحة من تعدد الفاعلين وتقاطع المصالح والتحالفات الجهوية، والتعبئة القبلية في البلاد، وتفاقم الأوضاع الأمنية والإنسانية. ويظهر ذلك جليًا في دارفور، بما في ذلك تفاقم التوترات الأثنية وتجدد الصراعات القبلية، وتفجير صراعات جديدة، وتعبئة الحركات المسلحة بحسب الانتماءات المجتمعية، وتشابك صراعات داخل الأخرى، ومخاوف تنامي ظاهرة تهريب الأسلحة غير المشروعة، ومشكلات تأمين الحدود. يمكن تفصيل ذلك كما يلي:
• تجدد الصراعات القبلية وتفجير صراعات جديدة: دخلت مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور في دائرة الاشتباكات، وفجرت الوضع من جديد للصراعات القبلية، حيث تعتبر الصراعات بين القبائل العربية والأفريقية (المساليت) واحدة من أكبر المخاطر التي تُواجه إقليم دارفور، ووجدت الفرصة لإشعال المساحة بعد اشتداد الخلاف بين الحركات المسلحة في الإقليم والدعم السريع، وللمرة الثانية خلال ثلاثة أسابيع من اندلاع الاشتباكات، كانت الجنينة في قلب تصاعد لأعمال العنف بعد ساعات فقط من إعلان اتفاق جدة.
• تفاقم عمليات النهب والسرقة الممنهجة: تعرضت قرى بأكملها في مدينة الجنينة بغرب دارفور للحرق على يد مليشيات الدعم السريع في 19 مايو 2023، كما تم حرق قرية (أبو آدم) بالقرب من نيالا في جنوب دارفور، في ظل تحذير وكالات الإغاثة من اندلاع كارثة إنسانية، حيث لقد أدى انتشار أعمال النهب وتدمير البنية التحتية الحيوية إلى حرمان الكثيرين من الوصول إلى الغذاء والمياه النظيفة والأدوية من خلال اقتحام الدعم السريع لمدينة الجنينة بعشرات الشاحنات الصغيرة المحملة بالبنادق وعدد كبير من الدراجات النارية.
• انخراط الحركات المسلحة في الصراع: أعلن “مني أركو مناوي”، حاكم إقليم دارفور ورئيس حركة تحرير السودان (إحدى أكبر الحركات المسلحة في إقليم دارفور) في 28 مايو 2023، عن دعمه للجيش الوطني بحسب قوله “إنني أدعو كل مواطنينا الشرفاء، أهل دارفور، كبارًا وصغارًا، رجالاً ونساء، إلى حمل السلاح لحماية ممتلكاتهم”. في حين رفض واستنكار بعض المواطنين في دارفور لتصريحاته. هكذا فإن “مناوي”، الذي كان في الجانب الآخر في صراع دارفور، يرفع النبرة ضد العدو السابق من جديد. لذلك، تغير موقف “مناوي” بعد أن كان على الحياد في بداية الاشتباكات. كما دعت وزارة الدفاع السودانية المتقاعدين من الجيش والاحتياطيين للتوجه إلى وحدات القيادة.
• تنامي مخاوف تهريب الأسلحة غير المشروعة: تسود مخاوف بشأن تكرار مثل ما حدث في ليبيا، في ظل انتشار ظاهرة التسلح الفردي بدارفور نتيجة النزاعات والصراعات بين الجماعات الرعوية والزراعية على الموارد وتحديدًا على الأراضي الزراعية ومساحات المراعي، وما فاقمته ظاهرة التغير المناخي من تداعيات على تأجيج هذه الصراعات. كما فشلت الحكومات السابقة في الحصول على نتائج من مشاريعها لجمع الأسلحة من القبائل المحلية. حسب مشروع مسح الأسلحة الصغيرة بجنيف (Small Arms Survey)، كان هناك 6.6 بندقية لكل 100 شخصًا في السودان عام 2017. كما بدأت بالفعل مشكلة الأسلحة غير القانونية في جميع أنحاء منطقة القرن الأفريقي بسبب سهولة اختراق الحدود واستمرار العنف في أماكن مثل الصومال وجنوب السودان.
إلحاقًا بالسابق، تُمثل دارفور بيئة خصبة لتنامي هذه الظاهرة، في ضوء بدء حركات مسلحة عديدة في محاربة الحكومة السودانية السابقة، وتداعيات خسائر من قوات حفظ السلام المنتشرة في دارفور أيضًا كمصدر رئيسي للأسلحة غير المشروعة للحركات المسلحة. في عام 2020، كشف مسح أجرته العمليات المختلطة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور أن نزع سلاح المدنيين أمر صعب، خاصة إذا كان سكان دارفور يفتقرون إلى الثقة في قدرة الحكومة ومؤسسات أمن الدولة على حمايتهم، مع استمرار النزاعات في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وجبال النوبة وآبيي، لم تتح الفرصة للسودان مطلقًا لإجراء نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج.
حاصل القول، تظل الأولوية بعد التوصل إلى وقف مستدام لإطلاق النار وإنهاء الأعمال العدائية، منع تصعيد الصراع أو إضفاء الطابع العرقي عليه، لتجنب تجدد التوترات العرقية في البلاد بشكل عام وإقليم دارفور بشكل خاص؛ إذ يُهدد فشل وقف إطلاق النار والانقسامات العرقية باستدامة الصراع في البلاد، والدخول في مرحلة جديدة من النضال للحركات المسلحة، مما يُفاقم التحديات الإنسانية المعقدة، والارتدادات السلبية على استقرار دول الجوار المباشر والمنطقة الإقليمية ككل.