مثّلت معاهدة القوى النووية متوسطة المدى خطوة مهمة خلال فترة الحرب الباردة في اتجاه الحدّ من سباق التسلح بين القوتين العظميين آنذاك: الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي. وبموجب المعاهدة، التزم الطرفان بعدم إنتاج أو تجريب أو نشر أي صواريخ باليستية أو مُجنّحة، متوسطة المدى، وتدمير كافة الصواريخ التي تراوح مداها المتوسط بين 1000 – 5500 كم، والتي تراوح مداها القصير بين 500 – 1000 كم.
وُقِّعت المعاهدة في 8 ديسمبر عام 1987 أثناء زيارة الرئيس السوفيتي -آنذاك- “ميخائيل جورباتشوف” إلى واشنطن، وتم التصديق عليها من قبل مجلس الشيوخ الأمريكي في 27 مايو 1988، ودخلت حيز التنفيذ في الأول من يونيو من العام نفسه. وبموجب المعاهدة، قام الاتحاد السوفيتي بحلول عام 1991 بإتلاف الأنظمة الصاروخية “بيونير”، و”تيمب – إس”، و”أوكا”، وصواريخ “آر – 12″، و” آر-14″. أما الولايات المتحدة فتخلصت هي الأخرى من أنظمة “بيرشينج”، والنماذج البرية من صواريخ “توماهوك”. وقبل مايو 1991، قام الاتحاد السوفيتي بإزالة 1752 صاروخًا مجنحًّا وباليستيًّا، في حين قامت الولايات المتحدة بإزالة 859 صاروخًا.
ولا شك أن الانسحاب الأمريكي من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى ستكون له تداعياته السلبية على موازين الأمن والاستقرار العالمي. فقد أثار القرار الأمريكي وردود الفعل الروسية تساؤلات حول مصير “معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية” “ستارت الجديدة”، الموقعة في أبريل 2010، والتي سينتهي سريانها في عام 2021، عقب انتهاء مدة سريان معاهدة “ستارت” الأصلية الموقعة في عام 2009، والمعنية بضبط التسلح النووي بين الولايات المتحدة وروسيا. ولعل ما يعكس هذا القلق أنه عُندما سُئل وزير الخارجية الأمريكي “بومبيو” عما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لبحث تمديد معاهدة “ستارت الجديدة”؛ فقد تجنب “بومبيو” الإجابة بشكل مباشر، وقال فقط: “إن واشنطن مستعدة للدخول في أي اتفاقيات تصب في المصلحة العليا للولايات المتحدة”.
الاتهامات المتبادَلَة بين موسكو وواشنطن
تبادلت موسكو وواشنطن خلال الأشهر الأخيرة اتهامات كثيرة بشأن مدى التزام كل طرف بالمعاهدة. فمن ناحية، أشار البنتاجون إلى أن مدى عمل الصواريخ المجنحة الروسية “9 إم 729” يزيد عن 500 كم. وكان ملفتًا للنظر أن روسيا أنكرت في البداية وجود مثل هذه الصواريخ، لكنها اعترفت في مرحلة لاحقة بوجودها، مع التأكيد على أنها لا تنتهك معايير المعاهدة، ثم طلبت من واشنطن إجراء مفاوضات بشأنها.
أما اتهامات موسكو فتتعلق بالدرجة الأولى بنشر منظومة الدرع الصاروخية، حيث عبرت روسيا عن قناعتها بأن الأمريكيين يمكنهم استخدام منظومات الصواريخ المضادة للجو التي تم نشرها في أوروبا لإطلاق الصواريخ متوسطة المدى “BGM-109” (توماهوك). ويعتقد الخبراء في وزارة الدفاع الروسية أيضًا أن البنتاجون يستخدم ذخائر محظورة لاختبار الصواريخ المضادة.
والمعروف أن الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى تنتمي إلى فئة السلاح النووي غير الاستراتيجي (التكتيكي). وقد أعرب البنتاجون مرارًا عن قلقه من تفوق روسيا على الولايات المتحدة في هذا النوع من الصواريخ. وتتوفر في ترسانة روسيا من ألف إلى 6 آلاف ذخيرة نووية تكتيكية، فيما تمتلك الولايات المتحدة 500 قطعة فقط من السلاح النووي التكتيكي، ومن بينها 200 قطعة مخزونة في مستودعات ألمانيا وإيطاليا وتركيا وهولندا وبلجيكا.
مصير التوازن الاستراتيجي
قرار الرئيس “ترامب” بانسحاب الولايات المتحدة من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، وردود الفعل الروسية، سيلقي بتداعياته على التوازن الاستراتيجي القائم، ليس فقط على مستوى العلاقات الأمريكية-الروسية، لكن على مستوى القارة الأوروبية، وربما يعمق الشقاق داخل حلف الناتو. لكن مع أهمية هذه المخاوف، فإن الانتقال إلى هذه المرحلة ليس بالبساطة المتصورة، ذلك أن روسيا والولايات المتحدة تدركان جيدًا عواقب انتقالهما إلى سباق تسلح، وتدركان أيضًا خطورة الدخول في حرب نووية ولو كانت محدودة النطاق. المسألة ببساطة تتعلق بالصراع على الهيمنة والنفوذ واستنفاد طاقة كل طرف للآخر.
في الواقع، لقد احتفظت واشنطن لنفسها بحق التراجع عن قرار انسحابها من جانب واحد من المعاهدة. فقد أعلن البيت الأبيض أن “الولايات المتحدة تحتفظ بحق سحب مذكرة الانسحاب من المعاهدة قبل نهاية فترة الستة أشهر، وسنكون مستعدين للنظر في مثل هذا الخيار إذا عادت روسيا إلى الامتثال الكامل والقابل للتحقق”. لكن السؤال المهم: هل هذا ما تريده الولايات المتحدة فعلًا من روسيا؟ وما هي دلائل وعلامات هذا “الامتثال الكامل”؟ وهل هناك ما هو أكثر خطورة وجدية وراء “شروط واشنطن”؟
لا شك أن قرار “ترامب” مبني على الخطوط العامة لشعار “أمريكا أولًا”، ويهدف إلى مراجعة مفهوم توازن القوى والردع بشروط أكثر ملاءمةً لواشنطن من جهة، والتحرر من الالتزامات التي يبدو الحفاظ عليها أمرًا مكلفًا، من جهة أخرى، وذلك لتعزيز الهيمنة العسكرية والسياسية للولايات المتحدة في العالم. البعض يرى أنه سيتم “بيع” هذه الأفكار كلها من قبل “ترامب” والجمهوريين، كجزء من حملة انتخابات 2020. وقد يكون ذلك صحيحًا بدرجة ما، غير أن الانسحاب من المعاهدة لم يُصَّمم من أجل ذلك إطلاقًا، لأنه ببساطة قرار استراتيجي نضج في أعماق الدوائر العسكرية والسياسية الأمريكية على مدى سنوات.
اللافت أيضًا أن إدارة “ترامب” لم تستبعد إعادة صياغة المعاهدة مع إمكانية ضم مشاركين آخرين إليها، والحديث -بطبيعة الحال- يدور أولًا عن الصين. وقد أبدى الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” استعداده لمناقشة كل الاحتمالات الممكنة، سواء بتمديد المعاهدة، أو إجراء تعديلات عليها، أو ضم دول جديدة لها، أو حتى صياغة معاهدة أخرى جديدة تمامًا. ومع ذلك، لا يزال من الصعب التحدث عن وثيقة جديدة وفق شروط جديدة. هذا على الرغم من أن الحاجة نضجت موضوعيًّا لإشراك الصين في الالتزامات التعاقدية في هذا الأمر. لكن روسيا لا ترى بعد وجود أي حوافز لحث الصين على مزيد من التعاون وفق الشروط الأمريكية.
والمثير هنا، أن السكرتير الأسبق لمجلس الأمن القومي الروسي، الأكاديمي “أندريه كوكوشين”، كشف عن بعض قدرات الصين في هذا المجال، مشيرًا إلى أن “الكثير يدل على أن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة في انسحابها من هذه المعاهدة هو الصين. فالصين أنتجت مجموعة من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى تضم أكثر من ألف صاروخ، وتطال مياه بحرَيِ الصين الجنوبي والشرقي. هذه القوة الصاروخية لا تسمح للولايات المتحدة بنشر مجموعاتها الضاربة من حاملات الطائرات في هذه المناطق دون عقاب. وقد تَمَكّن الجيش الصيني من تشكيل مجموعة كبيرة من الأسلحة عالية الدقة، خاصة الصواريخ الباليستية التي بإمكانها ضرب حاملات الطائرات الأمريكية والقواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة”.
وعلى الرغم مما ورد أعلاه، لا يمكن أن يحدث أي تحالف عسكري بين روسيا والصين ضد الولايات المتحدة، لأسباب كثيرة يحاول الخبراء والساسة الروس تجاهلها تمامًا أو تغييبها عن المشهد.
تقديرات روسية لموازين القوى
يرى الخبراء الروس في هذا المجال أن قرار الولايات المتحدة الانسحاب من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى هو قرار استراتيجي. على سبيل المثال، يؤكد نائب مدير معهد الولايات المتحدة وكندا بأكاديمية العلوم الروسية “بافل زولوتاريوف”، أن الانسحاب من المعاهدة يمنح الولايات المتحدة ورقة بيضاء لإطلاق إنتاج الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، وتصنيع أنواع جديدة من الأسلحة النووية. أما رئيس مركز “بير” الروسي “يفجيني بوجينسك”، فيعتقد أن استئناف إنتاج الصواريخ المحظورة لا علاقة له بمهام دفاعية، إذ إن الكمية الموجودة من صواريخ “توماهوك” وصواريخ “جو – أرض” كافية للدفاع والهجوم. وأضاف أن الصواريخ الأمريكية الجديدة ستنشر في أوروبا وآسيا.
وفي الاتجاه ذاته، يرى مؤسس بوابة Military Russia “دميتري كورنيف” أن الولايات المتحدة بمقدورها أن تصنع بأسرع وقت ممكن نماذج برية من صواريخ “توماهوك”، ما سيشكل خطورة على أمن روسيا، وسيؤدي إلى تفاقم الأوضاع على حدود روسيا مع الغرب. ويعتقد “كورنيف” أن استئناف إنتاج منظومات “برشينج Pershing يمكن أن يؤدي إلى تزويدها بصواريخ فرط صوتية يبلغ مدى عملها 1.7 ألف كم. وبالتالي، ففي حال بدء الولايات المتحدة إنتاج الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى فسترد روسيا بالمثل. وستظهر لديها الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى التابعة لمنظومات “إسكندر”، ناهيك عن ظهور نسخ برية من صواريخ كاليبر “بحر – أرض” و”جو – أرض”. ويجب ألا يغيب عن البال السلاح “الفرط صوتي” الذي تتحدث القيادة الروسي عن قرب تصنيعه. إضافة إلى التصريحات الروسية الكثيرة التي تؤكد امتلاك موسكو في الوقت الراهن كمية كافية من آليات الردع النووي وغير النووي.
هناك أيضًا تقديرات قد تبدو غير دقيقة أو مبالغًا فيها تصدر على ألسنة عسكريين روس سابقين. فرئيس جامعة “القضايا الجيوسياسية” الجنرال “ليونيد إيفاشوف” يرى أن الولايات المتحدة ستعود إلى المحادثات بخصوص معاهدة نزع الصواريخ لو أحست بخطر ضربة صاروخية تطال كل أراضيها! ويقول “إيفاشوف” في مقالة نشرتها مجلة “الصناعة العسكرية”، إن “الصواريخ الروسية قادرة على إلحاق خسائر كبيرة بالولايات المتحدة، خاصة الصواريخ التي تنص عليها معاهدة نزع الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، التي يمكن إطلاقها من منطقة تشكوتكا في أقصى الشرق الروسي، والتي تبعد عن أراضي الولايات المتحدة 80 كم فقط”. بل ويؤكد أن روسيا قامت، بعد إعلان الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ريجان” عن استراتيجية حرب النجوم، بعمليات استكشافية على حدودها الشرقية ونشرت منظومات صواريخ “آر سي-10 بيونير”.
ويذهب الجنرال الروسي السابق “إيفاشوف” إلى أنه من بين الفرضيات الأخرى التي يمكن أن تتصدى بها موسكو لإعلان واشنطن الانسحاب من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى هو تعزيز التعاون مع الصين، وعقد اتفاقيات بين البلدين، تجعل أي تهديد أمريكي يتلقى ردًّا ثنائيًّا. كما يذهب أيضًا إلى أن روسيا تستطيع “التأثير” على الدول الحليفة للولايات المتحدة، التي تنشر على أراضيها صواريخ أمريكية، بتعزيز الاتصالات الدبلوماسية معها وكذلك “إشعارها” بالخطر الذي قد تتعرض له في حال كانت أراضيها منطلقًا لصواريخ أمريكية.
أما التقديرات المرتبطة بتفسير تصريحات الرئيس الروسي حول إنتاج صواريخ “فرط صوتية”، فتبدو إلى حد ما مقبولة في عمومها، لأنها موجهة إلى الرأي العام الداخلي. ولكن “بوتين” في تصريحاته هذه أكد أن روسيا لن تنشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى قبل ظهور هذه الأسلحة الأمريكية الصنع في أوروبا أو في دول أخرى.
في هذا الصدد، رأى الأستاذ المشارك في قسم العلوم السياسية وعلم الاجتماع بجامعة بليخانوف الروسية للاقتصاد، عضو مجلس “ضباط روسيا”، “ألكسندر بيرنجييف”، في كلمات “بوتين” تلميحات إلى إنشاء بنية تحتية عسكرية جديدة، ودفاع مضاد للصواريخ أكثر قوة. مع العلم بأن الحماية ضد الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى من أصعب المهمات. ولهذا السبب، يتم التركيز على أسلحة تفوق سرعة الصوت، الأمر الذي سيجعل من الممكن صد الهجوم قبل أن تصل صواريخ العدو إلى الحدود الروسية. أما رئيس تحرير مجلة “الدفاع الوطني” “إيجور كوروتشينكو”، فيرى أن روسيا دخلت واقعًا سياسيًّا جديدًا، وأن “هذه حقبة جديدة، أو هي “الحرب الباردة الثانية”، إنها سنة 1983 مرة أخرى، حين كان البلدان على وشك حرب نووية. وعلينا أن ندرك أننا نعيش هذه الحالة”.
استعدادات روسيا ردًّا على الدرع الصاروخية وإلغاء المعاهدة
الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” أعلن أن قواته المسلحة اختبرت بنجاح صاروخ “أفانجارد” فرط الصوتي. وقال إن روسيا قد تنشر أول مجموعة من الصواريخ ذات القدرات النووية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت بخمس مرات أو أكثر اعتبارًا من عام 2019، موضحًا أن هذه الخطوة تعني أن بلاده أصبحت تملك الآن نوعًا جديدًا من الأسلحة الاستراتيجية.
والمعروف أن “بوتين” كان قد كشف لأول مرة عن صواريخ “أفانجارد” في رسالته السنوية للجمعية الفيدرالية في الأول من مارس 2018. وفي 7 يونيو 2018 أكد “بوتين” أن هذه الصواريخ صارت قيد الإنتاج المتسلسل، وستدخل الخدمة في عام 2019، مشددًا على أنه يمكنها المناورة بدرجة كبيرة، وإصابة أي نقطة في العالم، كما يمكنها الإفلات من الدرع الصاروخية الأمريكية.
أما المعلومات الواردة من قيادة القوات الصاروخية الاستراتيجية الروسية، فتؤكد أن النماذج الأولى من هذه الصواريخ سيتم إلحاقها بفوج صواريخ “دومباروفسكي” جنوبي البلاد عام 2019. وهناك أيضًا معلومات من مجمع الصناعات العسكرية الروسي تؤكد أن الموعد النهائي لوضع الفوج الرئيسي لصواريخ “أفانجارد” في المناوبة القتالية سيكون نهاية عام 2019. وسيضم الفوج في البداية على الأقل مجمعين من هذا النظام الصاروخي، إلا أن عددها سيزداد لاحقًا إلى ستة.
وتأخذ روسيا خطوات أخرى لتعزيز قواتها النووية الاستراتيجية، ردًّا على قيام واشنطن بتطوير “درعها” الصاروخية عبر العالم. وتؤكد التقارير الخاصة بهيئة الأركان الروسية على دخول منظومة “يارس” الصاروخية الخدمة في القوات الاستراتيجية الروسية، وبدء التصنيع المتسلسل لمنظومة “أفانجارد” المزودة برأس مجنح فرط صوتي حائم. إضافة إلى أن منظومة جديدة مزودة بصاروخ “سارمات” الباليستي الثقيل العابر للقارات (الذي جرت تجربته بنجاح في عام 2018) ستحل محل منظومة “فويفودا”، التي تعد أقوى منظومة صاروخية استراتيجية في روسيا في الوقت الحالي.
وعلى مستوى القوات النووية البحرية، فسيتم نشر غواصات حاملة للصواريخ الاستراتيجية، بما في ذلك تحت طبقة الجليد في منطقة القطب الشمالي. وسيتم إجراء تطوير جوهري لهذا النوع من القوات الاستراتيجية يتضمن بناء غواصات من نوع “بوري – أ” تحمل صواريخ باليستية مزودة بوسائل تجنبها المنظومات المضادة للصواريخ.
وأخيرًا، وفيما يتعلق بالقوات الاستراتيجية النووية الجوية، وحسب تقارير سرية روسية، سيتم تحديث طائرتي “تو-160″ و”تو-95 إم إس” الاستراتيجيتين، وذلك عن طريق تزويدهما بمحركات أكثر قوة وإلكترونيات حديثة، إضافة إلى توسيع أنواع أسلحتهما. هذا إلى جانب تطوير منظومة الإنذار بالهجوم الصاروخي بمرحلتيها الفضائية والأرضية. كما أُعلن عن إتمام عملية إقامة مجال الرادار غير المنقطع الممتد على طول حدود روسيا، الأمر الذي “يضمن رصد الصواريخ الباليستية من كل اتجاهات الهجوم المحتمل وعلى كل أنواع مساراتها”.
أوروبا بين مطرقة واشنطن وسندان روسيا
تبع هذه التطورات تأكيد موسكو أن أي دولة تنشر على أراضيها صواريخ أمريكية متوسطة وقصيرة المدى ستصبح هدفًا محتملًا للضربات الروسية في حال انهيار المعاهدة. هذه التحذيرات والتهديدات الروسية موجهة بالدرجة الأولى إلى أوروبا، المتضرر الأول من تطوير هذه الصواريخ بالذات. لكن يبدو أن “ترامب” لا يهتم إلا بأمرين أساسيين؛ الأول: إنهاك روسيا من خلال جرها إلى سباق تسلح، كما حدث مع الاتحاد السوفيتي قبل انهياره. الثاني: السيطرة الكاملة على أوروبا، والتأكيد على أن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة في العالم. لقد أظهر مجيء الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض أن منظومة القيم والقانون الأوروبية ليس لها أي معنى بدون الولايات المتحدة.
في هذا السياق، دعا الاتحاد الأوروبي الولايات المتحدة إلى دراسة دقيقة لتبعات انسحابها المحتمل من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى مع روسيا. وأكدت مفوضية الاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية والسياسات الأمنية “أن معاهدة إتلاف الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى أسهمت في إنهاء الحرب الباردة، وتشكل أساسًا لهيكل الأمن الأوروبي منذ دخولها حيز التنفيذ قبل 30 عامًا. وبفضلها جرى إزالة حوالي 3 آلاف صاروخ حملت رؤوسًا نووية وعادية وتم إتلافها بشكل مؤكد”.
وعلى الرغم من أن المفوضية الأوروبية دعت “الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى مواصلة الحوار للحفاظ على المعاهدة وضمان تطبيقها الكامل والقابل للتدقيق والذي يلعب الدور الحيوي لأمن أوروبا والعالم برمته”، إلا أن أوروبا بدأت بالتفكير في بناء تحالف دفاعي أمني خاص بها في مواجهة كل من الولايات المتحدة وروسيا. ويقود هذا التوجه ألمانيا وفرنسا اللتان تسعيان إلى إقناع بقية الدول الأوروبية بضرورة هذه الخطوة.
وقد أعرب الباحث البريطاني “ريتشارد ساكوا”، أستاذ السياسة الروسية والأوروبية في جامعة كنت في كانتربري، عن شكوكه في أن الأوروبيين بإمكانهم إنشاء هذا التحالف الدفاعي فعلًا، رغم أنه يرى أن هذا التحالف “ضروري للغاية”، بسبب ما أبداه “ترامب” من التزامات محدودة تجاه الناتو والاتحاد الأوروبي والمنظومة الأطلسية ككل. كما أكد -في الوقت ذاته- أن “التحالف الدفاعي لا يعني حلف ناتو جديدًا، إنما يعني أن الاتحاد الأوروبي سيصبح أكثر استقلالية في مسائل الدفاع والأمن.. لأن أنظمة ما بعد الحرب بدأت تنهار”.
ويلاحظ الباحث البريطاني أيضًا أنه “من الواضح أن النظام القديم قد انهار، لكن النظام الجديد لم يُبنَ بعد. وهناك حاجة إليه. وكل نظام جديد سوف يحتاج إلى روسيا. لكن الخطر هنا هو أن مبادرات الاتحاد الأوروبي بشأن التعاون مع روسيا قد تواجه فشلًا ذريعًا. أي لا ينبغي أن نقلل من قدرة القوى الأطلسية على تقويض المبادرات الأوروبية العابرة للقارات، التي تشمل روسيا”.
إن الباحث يعتبر أن الولايات المتحدة فقط هي سبب المشاكل بين روسيا وأوروبا، متجاهلًا الكثير من الأسباب الجوهرية الأخرى، سواء كانت تاريخية أو متعلقة بالمنظومات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أو بمنظومتي القيم والقانون. وفي الحقيقة، فإن روسيا تستفيد من كل تناقضات “ترامب” وأخطائه، وهو ما تفهمه أوروبا أكثر من الإدارة الأمريكية نفسها، لتضع العالم أمام معضلة جديدة على خلفية وقوع الحضارة الأوروبية بكل منجزها الإنساني والعلمي بين مطرقة الولايات المتحدة وسندان روسيا.
* * *
القرار الأمريكي بتعليق العمل بالمعاهدة يأتي اتساقًا مع النزعة الأحادية والعسكرة المتصاعدة للسياسة الخارجية الأمريكية في عهد الجمهوريين عمومًا، وفي عهد “ترامب” على وجه التحديد. هذا بالإضافة إلى تراجع تأثير مصالح الحلفاء الأوروبيين على قرارات الإدارة الأمريكية في مقابل تصاعد تأثير لوبي السلاح على توجهاتها الخارجية.
وبالنسبة لروسيا، فالأمر أكثر تعقيدًا، حيث تسعى لمد نفوذها إلى مناطق أبعد من قدراتها، انطلاقًا من بعض الحسابات غير الدقيقة بشأن التراكمات المالية التي حققتها خلال الفترة من 2004 إلى 2010. لكنها -في الوقت نفسه- لا تمتلك كل الأدوات المادية واللوجستية لتنفيذ هذه الطموحات. ولا شك أن العقوبات التي فُرضت على روسيا منذ عام 2014 تستهدف بالدرجة الأولى وأد هذه الطموحات. كما أن إعلانات موسكو المتوالية حول قدرتها على دخول سباق تسلح بتكاليف “زهيدة”، وأن العقوبات الغربية لم تؤثر عليها، تبدو كلها مجرد دعاية موجهة إلى الداخل الروسي، وإلى الحلفاء والشركاء الذين تسعى روسيا لاستقطابهم أو تحييدهم، من خلال مشروعات “طويلة الأجل” وغير مضمونة النتائج.
إن الوضع العالمي الناشئ عن انسحاب واشنطن من معاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى يخلق حالة من اختلال التحالفات العالمية الخاصة بمنطقتين مهمتين للغاية، ألا وهما القارة الأوروبية والشرق الأوسط، إضافة إلى إمكانية ظهور عملية استقطاب حادة في منطقة آسيا الوسطى التي تُعتبر تاريخيًّا حديقة خلفية لروسيا. ومن الواضح أن روسيا تجد نفسها أمام أمر واقع جديد لا تملك فيه إلا أن تستفيد من تناقضات هذا “الاختلال في التحالفات” من جهة، وإثارة الفوضى الإعلامية والمعلوماتية في بعض الدول والمناطق من جهة أخرى، والقيام بتطوير نوعي لبعض قدراتها العسكرية من جهة ثالثة، لأنها لا تملك ببساطة الموارد الاقتصادية والمالية اللازمة لإجراء تحديث شامل في بنيتها التحتية العسكرية والتسليحية. وذلك أمام تحدٍّ أمريكي أوروبي عبر فرض عقوبات اقتصادية تؤثر بقوة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الداخل الروسي. ولا يمكن هنا أن نتجاهل أن ميزانية الدفاع الأمريكية تبلغ 8 – 10 أضعاف ميزانية الدفاع الروسية.