أعلنت أوكرانيا بصورة رسمية بدأ الهجوم المضاد الذي طال انتظاره، بعد تجميد خطوط المواجهة لأشهر طويلة، لاعتبارات ترتبط بالطقس واختبار الجاهزية، والقدرة على شن هجوم ناجح، خاصة أن هذا الهجوم يُنظر إليها باعتباره مرحلة قد تكون فارقة في عمر الحرب.
وقد سبق الإعلان عن الهجوم المضاد حالة من التصعيد بين الطرفين، برزت ملامحها في تكثيف روسيا هجماتها ضد أوكرانيا واغراقها بالصواريخ، أو من خلال الهجمات الروسية في الداخل الأوكراني، أو عبر تدمير البنية اللوجستية كما هو الحال في سد “نوفا كاخوفكا“، ما بدا معه أن الطرفان في مرحلة تشبه التمهيد الذي يسبق الهجوم، لدرجة أن البعض اعتقد أن الهجوم قد بدأ بالفعل رغم عدم الإعلان عنه.
وفي هذا الإطار، نشر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية “CSIS”، تحليلًا بشأن الهجوم الأوكراني، والتأثير المحتمل للتحصينات التي اقامتها روسيا، وكيف يمكن أن يحقق الجيش الأوكراني التوازن بين الهجوم والدفاع ؟، وما هي العقبات التي قد يواجهها الهجوم الأوكراني؟ وصولًا للانعكاسات المحتملة للهجوم على أوكرانيا وداعميها الغربيين. ويمكننا استعراض أبرز ما جاء في هذا التحليل على النحو التالي:
اولًا) التوازن بين الهجوم والدفاع
أثار التحليل جدلًا حول من يمتلك الأفضلية في ساحة المعركة المدافع أم المهاجم؟، مؤكدًا أن الفكرة الأساسية في عملية التوازن بين الهجوم والدفاع، تدور حول وجود عوامل يمكن أن تؤثر على المزايا النسبية والتكلفة للهجوم مقابل الدفاع، وفي المجمل سواء كنت مدافعًا أو مهاجمًا، فإن التقييم يتوقف على الفوائد المحتملة والتكلفة، فالهجوم الناجح هو الذي تتجاوز مكاسبه تكلفته والعكس. وفي هذا الإطار تطرق التحليل لعدة عوامل ترتبط بالحرب الأوكرانية، والتي يمكن بدورها أن تؤثر على المهام الدفاعية والهجومية، ومن ثم قدرة كييف على تحرير أراضيها
وتخضع عملية التوازن بين الدفاع والهجوم لمدى امتلاك التكنولوجيا العسكرية، حيث تساعد الجيوش على القيام بحروب المناورة، والتقدم السريع للسيطرة على الأراضي الخاضعة للخصم، ما يعطي ميزة للمهاجم، إذ يسمح امتلاك الدبابات، والطائرات المقاتلة، والأسلحة الرئيسية للقوات باختراق خطوط الخصم وتوظيفها في تطوير قدراته الهجومية.
على العكس من ذلك، فالعوامل التي تحد من الحركة – الخنادق والألغام والاسلاك الشائكة- تعزز من النمط الدفاعي، كما تدعم القوة النارية كالمدافع ومضادات الدبابات وأنظمة الدفاع الجوي من القدرات الدفاعية، وتزيد القوة الفتاكة لهذه الأسلحة والمعدات من الحاجة للتستر والاخفاء، إذ يسمح للمدافع بالقتال في مواقع مجهزة ومعدة بينما يحتاج المهاجم للتقدم في ساحة مفتوحة نسبيًا.
كما تؤثر الجغرافيا والتضاريس بدورها على التوازن بين الدفاع والهجوم، حيث تمنح السهول والحقول المفتوحة ميزة هجومية، لسهولة الرؤية والمناورة، وإمكانية تركيز القوي على النقاط المستهدفة، بينما تعيق الغابات الكثيفة والتضاريس الجبلية والمستنقعات من حركة القوات، بما يوفر ميزة دفاعية.
كما أن المسافة المقطوعة للوصول للهدف تؤثر بدورها على عملية الدفاع والهجوم، وغالبًا ما تميل للدفاع، حيث يحتاج المهاجم إذ اضطر لقطع مسافة كبيرة للوصول للمدافع إلى تكاليف نقل وإمداد القوة المتوقعة، فضلا عن تكاليف الدفاع عن خطوط الاتصال الطويلة.، يضاف لذلك تأثيرات الطقس، فالقتال في الشتاء وتحول الأرض إلى طين مع ذوبان الثلوج والبرد القارس يصب في صالح دعم النمط الدفاعي، في حين يسمح فصل الصيف وصلابة الأراضي بحركة أفضل للمعدات القتالية.
الهجوم الأوكراني المضاد… الطقس يعطي «شارة الانطلاق»
وأوضح التحليل أن التحدي الذي يواجه الجيش الأوكراني والغرب، هو الاستفادة من التكنولوجيا وعوامل الجغرافيا، وتوظيف القوة، والقيادة والدوافع القتالية في زيادة المكاسب، والحد من تكاليف العملية الهجومية، خاصة أن روسيا تعمل على بناء دفاعات قوية وتوظيف التضاريس في تقويض الهجمات المضادة الأوكرانية.
ثانيًا) دفاعات روسية حصينة
صممت روسيا أحد أكبر الأنظمة الدفاعية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك بهدف تحويل ميزان الدفاع والهجوم لصالحها، حيث شيدت نحو 2000 كيلوا متر من التحصينات، والتي تمتد من الحدود الروسية مع بيلاروسيا إلى نهر دنيبرو، وتركزت تلك الأنظمة الدفاعية في زابوريجيا، وخيرسون، ودونيتسك، ولوهانسك؛ بهدف إبطاء الهجوم الاوكراني.
وتفرض تلك التحصينات والأنظمة الدفاعية الروسية مقايضات وتحديات صعبة على القادة العسكريين الاوكرانيين، فيما يرتبط بخيارات وأولويات الهجوم، وما يجب التركيز عليه، سواء شبة جزيرة القرم أو المناطق الحضرية في دونيتسك، أو المناطق الأقل تحصينًا ولكنها أقل أهمية من الناحية الاستراتيجية في لوهانسك. كما يحمل الهجوم في المناطق المتاخمة لشبة جزيرة القرم مزيدًا من الخيارات الصعبة، إذ قد تجد القوات الأوكرانية نفسها مجبره على القتال في مواقع دفاعية عميقة كما في زابوريجيا أو الحاجة لعبور نهر دنيبرو.
ودشنت روسيا عدة مستويات دفاعية في زابوريجيا، الأول يبلغ طوله 150 كيلوا مترا، ويمتد من الجنوب الشرقي لــ “زابوريجيا” إلى حدود دونيتسك ويتكون من طبقات متعددة من الحواجز والتحصينات، في حين يمتد المستوى الثاني لأكثر من 130 كيلوا من مدينة أورليانسكي إلى بيلماك، ويمكن أن توظيف روسيا هذا الخط في حال نجاح الهجوم الأوكراني، كما يمكن أن يكون انسحاب القوات الروسية للخط الثاني مقدمة لهجمات مضادة روسية ضد التقدم الأوكراني. كما تفرض روسيا تحصينات على المدن التي تحتوي على مواقع حيوية كخطوط السكك الحديدة أو الطرق الرئيسية.
ومن المرجح أن تشتبك القوات الروسية مع المركبات الأوكرانية في تلك المناطق عبر الضربات الجوية والمركبات القتالية، وتعكس تلك الاستعدادات القيمة العسكرية والسياسية لمنطقة زابوريجيا بالنسبة لمخططي الحرب في روسيا، حيث أن نجاح هجوم أوكرانيا فيها يمكن أن يشكل تهديدًا للعمليات الروسية، وخطوط امدادها.
وفي خيرسون، وضعت روسيا تحصينات للدفاع عن شبة جزيرة القرم، لكنها أقل مما هي عليه في زابوريجيا، حيث اقامت دفاعاتها على طول نهر دنيبرو في الناحية الثانية من خيرسون، وعليه فأي هجوم قد يتطلب هجمات برمائية، ما يفرض تعقيدات على القوات أكثر بكثير من التي تشارك في هجوم بري.
من ناحية أخرى، تتميز جبهة دونيتسك بتحصينات دفاعية شديدة، فضلًا عن تضاريسها المُعقدة، وقربها من روسيا، الأمر الذي يُصّعب أية مساعي أوكرانية لاختراق تلك الجبهة، ويعتمد النظام الدفاعي في دونيتسك على ثلاث مدن رئيسية وهما دونيتسك وماكيفكا وهورليفكا. وفي لوهانسك قسمت روسيا تحصيناتها بين مناطق الجنوب والشمال، ففي الجنوب يرتكز النظام الدفاعي حول مدينة سيفيرودونتسك، فيما تتألف الدفاعات الشمالية من خط طويل من الدفاعات يصل نحو الحدود الشمالية مع روسيا.
هل تستطيع أوكرانيا تنفيذ الهجمات المضادة بسلاسة؟
ثالثًا) امكانية اختراق التحصينات
رغم تشييد تلك الدفاعات الحصينة والمُعقدة، إلا أنها قد تكون غير كافية لمنع القوات الأوكرانية من التقدم أو اختراقها، حيث لا تضمن هذه التحصينات بالضرورة ميزة للمدافع على حساب المهاجم، بل يمكن أن تؤدي مجموعة من الإجراءات والخطوات لتحويل الميزة لصالح أوكرانيا، ما يمكن تحديده على النحو التالي:
- ضعف القوات الدفاعية الروسية
اثبتت المعارك في أوكرانيا فشل الجيش الروسي في تحقيق العديد من أهدافه في أوكرانيا، نتيجة ضعف القدرات الدفاعية، وعدم فعالية العمليات المشتركة، وسوء التخطيط والإدارة العسكرية، علاوة على المشاكل اللوجستية، وانخفاض الروح المعنوية للقوات الروسية، ما انعكس على نجاح وتقدم أوكرانيا في هجمات خاركيف 2022، وذلك بعدما تمكنت من تحقيق مفاجأة عملياتية واختراق للخطوط الروسية. من ناحية أخرى، سلط نشر واستجلاب عناصر فاجنر للخطوط الأمامية شرق أوكرانيا الضوء على ضعف القوات البرية الروسية، والمخاطر السياسية لعملية التعبئة.
ويمكن استنتاج أن الجيش الروسي رغم تلك التحصينات، إلا أنه يمكن أن يعاني من صدمات ونقاط ضعف تصب في صالح أوكرانيا. يضاف لذلك، غياب القدرات العسكرية ذات الكفاءة العالية، فقد تواجه روسيا معضلة تتعلق بتشكيل احتياطي متنقل من القوات، ما يعني أن روسيا ستتعرض لتحديات شديدة لزيادة القوات اللازمة لملء وسد الفجوات في الخطوط الامامية للمواجهة.
- اتساع خط المواجهة
يمكن أن تطوع أوكرانيا طول واتساع خط المواجهة لصالحها، في ظل وجود فرص لاختراقه، وذلك في ضوء عدد من الاعتبارات منها، احتمالية سوء بناء وعدم كفاءة الدفاعات الروسية، كما أن عمقها قد لا يكون كافيًا، حيث افتقر المقاولون الذين قاموا بحفر الخنادق وتشييد التحصينات للخبرة على أعمال الهندسة العسكرية، ما قد يجعل التحصينات أقل فعالية مما يظهر في صور الأقمار الصناعية.
كما أن اتساع وطول الجبهة وخط المواجهة، يمثل نقطة ضعف للروس، وعليه فمن منطق التوازن بين الدفاع والهجوم، فإذا واجه المهاجم مدافع يحمي جبهة ضيقة ومحدودة، فإن احتمالية نجاح الحرب الخاطفة يكون أقل بكثير مما لو كان المهاجم قادرًا على ضرب خصم في وضع دفاعي منتشر في خطة جبهة ممتد لمساحات واسعة.
وأشار التحليل لإن الاشتباكات التي وقعت في مايو 2023، بين القوات الروسية والمقاتلين في بيلغورود، أدت لتفاقم مشاكل الانتشار للقوات الروسية، من خلال اجبارها على نقل قواتها لحدودها مع أوكرانيا، ويمكن لهذه الأنواع من الهجمات أن تضاعف من مشاكل الانتشار لروسيا، ومن ثم تضعف مواقعها الدفاعية في بعض مناطق انتشارها.
- الابتكار العسكري في إدارة الحرب
يتضمن الابتكار العسكري تغييرًا في إدارة الحرب؛ بهدف تحسين قدرة الجيش على توليد القوة القتالية، هذا التغيير لا يعني تغييرًا في العقيدة العسكرية، بل في المستوى العملياتي للحرب، ولعل استخدام أنظمة الطائرات بدون طيار من قبل أوكرانيا يُعتبر أحد توظيفات الابتكار الاوكراني العسكري، سواء في المهام الهجومية أو تقييم اضرار المعركة، والعمليات المعلوماتية، واستكشاف الفجوات في الخطوط الروسية، وتحديد مواقع الاحتياطات الروسية وأنظمة المدفعية.
وتواجه عملية الابتكار الأوكراني في ساحة الحرب عدد من التحديات منها، استخدام التكنولوجيا بشكل مبتكر، وتكييف سلوكها الحربي بطرق تزيد من قدرتها على استغلال نقاط الضعف الروسية، كما تحتاج أوكرانيا لوقت وموارد كبيرة لتعظيم فوائدها من الابتكار العسكري، بهدف إرباك الدفاعات الروسية، يضاف لذلك قدرات الحرب الالكترونية الروسية، وقدرتها على توظيفها بفعالية ضد أوكرانيا، وعليه سيكون نجاح الهجوم مرهونًا في جزء منه على القدرة على تحييد وشل قدرات الحرب الالكترونية الروسية.
- التوظيف الفعال للقوة
يمكن للمهاجم أن يعوض الدفاعات الصارمة والتحصينات من خلال إرادة قتالية وروح معنوية عالية، وبالنسبة لأوكرانيا تتطلب مناورة الحرب قيادة مرنة، بجانب جنود لديهم المبادرة في الموقف القتالية، بحيث لا تستند لخطة صارمة يحتاج القادة لمتابعتها فحسب، خاصة أن القوات الأوكرانية أظهرت ميلًا للمبادرة في عدد من المرات في ميدان الحرب، وعليه يمكن للاستراتيجية الأوكرانية الذكية والمرنة أن تحقق اختراقات، تقوض المجهود العسكري لروسيا، إذ يمكن أن يُهدد اختراق كبير في زابوروجيا إمكانية بقاء الجسر البري الروسي، الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم. كما أن تحقيق اختراق في لوهانسك أوبلاست يمكن أن يوفر فوائد كبيرة من خلال إثبات أن الدعم الغربي لأوكرانيا لا يزال يؤتي ثماره، علاوة على أن ذلك من شأنه أن يزيد من حجم ومستوى المعارضة داخل روسيا.
في الأخير، سيتوقف مسار الحرب على قدرة أوكرانيا على استعادة أراضيها عبر الانتقال من حرب الاستنزاف إلى حرب المناورة وتحويل ميزان الهجوم والدفاع لصالحها، فرغم التحصينات الهائلة التي اقامتها روسيا، إلا أنها تواجه تحديات بما في ذلك ضعف القوات البرية، وتراجع أداؤها والحاجة للدفاع عن مساحات كبيرة من الأراضي. كما سيكون الدعم والمساعدات الغربية فارقًا في استعادة الأراضي ومنع روسيا من الاقدام على عمل عسكري مماثل في المستقبل.
المصدر:Seth G. Jones, Alexander Palmer, and Joseph S. Bermudez Jr, “Ukraine’s Offensive Operations: Shifting the Offense-Defense Balance”, The Center for Strategic and International Studies (CSIS), June 2023, available at https://cutt.us/OYAXa