في الوقت الذي تسعى فيه الدول الأفريقية للحد من تبعات الحرب الأوكرانية، والتعافي من تأثيرات كورونا، جاء الصراع في السودان ليضيف عبئًا جديدًا على اقتصادات منهكة بالفعل، وينذر بأزمة اقتصادية وشيكة، حيث لا تتوقف التأثيرات الاقتصادية للصراع في السودان عند حدوده، بل تمتد للعديد من دول الجوار، والدول الأبعد أيضًا، حيث يشترك السودان في حدوده مع سبعة بلدان أفريقية، بما في ذلك، مصر وليبيا وإثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى وتشاد، ويقع عند مفترق طرق بين مناطق مختلفة، تضم شمال أفريقيا وشرق أفريقيا، ووسط أفريقيا، والقرن الأفريقي، ويطل على أحد أهم الممرات الملاحية في العالم عبر البحر الأحمر، فضلًا عن قربه من منطقة الساحل الأفريقي، الأمر الذي زاد من تعقيدات التأثيرات الاقتصادية للصراع في السودان.
أولًا: تهديد التجارة لدول الجوار والدول الأبعد
- تراجع التجارة وتهديد إمدادات الذهب والصمغ العربي والسمسم
ترتبط الدول المحيطة بالسودان ارتباطًا اقتصاديًا، إذ يعدّ السودان مصدرًا لعدد غير قليل من المنتجات، وبالتالي يمكن للصراع الحالي أن يخلق مشاكل اقتصادية لهذه الدول في حالة تعطل الإمدادات من السودان، حيث تتمثل الصادرات الرئيسية للسودان في الذهب (بأكثر من 50% من إجمالي الصادرات)، والوقود (10%)، والبذور الزيتية (18%)، والحيوانات الحيّة (7%)، بالإضافة إلى اللحوم المجمدة والسمسم والفول السوداني والصمغ العربي. وجميعها سلع هامة قد يؤثر نقصها سلبًا على رفاهة دول الجوار، ويؤدي إلى حدوث انتكاسات اقتصادية، وعلى رأسهم جنوب السودان وأفريقيا الوسطى التي تعتمد على 70٪ من السلع الغذائية المنتجة في السودان، مثل السكر والدقيق ومعجون الطماطم وزيوت الطعام وغيرها، ومصر التي تعد من أهم الشركاء التجاريين للسودان سواء في الاستيراد أو التصدير، وبناء على معطيات الصراع الدائر ستتأثر تجارة مصر مع السودان بسبب تأثر المنافذ الحدودية والمعابر.
كما يُعد السودان بوابة لنفاذ الصادرات المصرية إلى أسواق دول حوض النيل وشرق أفريقيا، وتشير البيانات الرسمية إلى أن حجم التبادل التجاري بين مصر ودول حوض النيل في عام 2021 بلغ نحو 2.262 مليار دولار، ومع استمرار الصراع، سيتأثر حجم التبادل التجاري، وهو ما يضيف عبئًا على الصادرات المصرية للقارة الأفريقية، ويؤخر من تحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل في الوصول بالصادرات المصرية لأفريقيا إلى 100 مليار دولار.
وكذا يمثل الصراع الدائر تهديدًا لصادرات النفط من السودان وجنوب السودان للعالم، ففي عام 2021 صدّر السودان وجنوب السودان معًا حوالي 132 ألف برميل من النفط الخام يوميًا، كان الجزء الأكبر منها موجهًا نحو الإمارات التي استقبلت حوالي 45% من هذه الصادرات، وكذلك تستورد الصين نحو 5% من احتياجاتها النفطية من السودان، وقد كانت البلاد قبل انفصال الجنوب عنها سادس أكبر مُصدر نفطي لبكين.
بالإضافة لذلك، في ظل توقف حركة الطيران في سماء الخرطوم، تعطلت صادرات الذهب السوداني والذي يعتمد بشكل رئيسي على الطيران في نقله، الأمر الذي يلحق بعض الخسائر للدول المتلقية لهذا المعدن وعلى رأسهم الإمارات التي تستورده بكميات كبيرة من الخرطوم، حيث تشير التقديرات إلى أنه خلال الربع الأول من عام 2022 بلغت إجمالي صادرات السودان إلى الإمارات حوالي 760 مليون دولار، منها 720 مليون دولار صادرات الذهب.
كذلك تعتمد دول كثيرة في المنطقة والعالم على الصمغ العربي الذي يحتكر السودان 80% من إنتاجه العالمي، ويدخل في صناعات كثيرة، يما في ذلك المشروبات الغازية والشوكولاتة والحلوى ومستحضرات التجميل وغيرها، حتى إن الولايات المتحدة الأمريكية نظرًا لأهميته استثنته من العقوبات المفروضة على السودان. فضلًا عن السمسم الذي يصنف السودان الثالث عالميًا في إنتاجه بعد الهند والصين، ويدخل في صناعات غذائية عديدة، ومن شأن التأثير على إنتاج وتوريد الصمغ العربي والسمسم للسوق العالمية أن يؤثر على أسعار الكثير من المنتجات، وقد يهدد وجود بعض المنتجات من الأساس، وبالتالي سيلحق الخسائر باقتصادات الدول التي تنتج السلع التي تحتوي عليها.
- تعطل التجارة الخارجية للدول الحبيسة
يعد ميناء بورتسودان الميناء الرئيسي في السودان، ويمر عبره 90% من التجارة الخارجية للسودان، ويعتبر الميناء أيضًا بوابة بحرية تجارية مهمة للدول المجاورة غير الساحلية، تعتمد عليه في تجارتها الخارجية، ومن ثم قد يؤدي توقف الميناء إلى تفاقم النقص الحاد بالفعل في السلع الأساسية، وهو ما قد يُشكّل أزمة اقتصادية لهذه الدول باعتبارها دولًا حبيسة.
في سياق متصل، يعتمد جنوب السودان بشكل شبه كامل على السودان في تجارته الخارجية مع العالم، حيث يعتمد اقتصاد جنوب السودان على النفط الذي يتم تصديره عبر السودان، في توفير ما يزيد على 90% من النقد الأجنبي للبلاد، وفي حالة استمرار الحرب، قد تستهدف قوات الدعم السريع البنية التحتية النفطية التي تربط جنوب السودان بالخرطوم، وكذلك محطة التصدير في بورتسودان، وهو ما من شأنه أن يعطّل صادرات نفط الجنوب ويهدد بالانهيار الاقتصادي في جنوب السودان، ومن ثم المزيد من زعزعة استقرار البلاد.
بالإضافة إلى تشاد التي تسعى للتحول من موانئ المحيط الأطلسي عبر الكاميرون ونيجيريا، إلى موانئ البحر الأحمر عبر السودان، فمنذ عام 2017 أبرمت تشاد اتفاقًا مع السودان تستقبل بموجبه الأخيرة حركة الصادرات والواردات التشادية من وإلى العالم عبر الموانئ السودانية على البحر الأحمر، وكانت تنوي تحويل 70% من تجارتها الخارجية لميناء بورتسودان، خاصة وأن أكبر شركاء تشاد التجاريين هم دولة الإمارات العربية المتحدة والصين، وهي بلاد من الأفضل التبادل التجاري معها عبر الموانئ السودانية لقربها من تلك البلدان. وبالفعل، افتتحت تشاد رسميًا المنطقة المخصصة لها بمحطة الحاويات بميناء بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، وذلك قبل شهرين فقط من اندلاع الصراع، ومن شأن توقف العمل بميناء بورتسودان أن يؤثر على تجارة تشاد، ويضاعف الضغط على اقتصادها.
على صعيد موازٍ، يعد المجال الجوي السوداني من بين أكبر مناطق الطيران في القارة، وتعتبره شركات الطيران في السودان وبعض شركات الطيران في دول وسط وشرق أفريقيا، طريقًا جيدًا لرحلات الطيران من وإلى أوروبا، فضلًا عن أن معظم شركات الطيران النيجيرية تعبر الأجواء السودانية في طريقهم إلى مكة المكرمة، وقد يجبر الصراع العنيف في السودان هذه الشركات على البحث عن طرق بديلة أطول وأكثر تكلفة، أو تضطرهم إلى تعليق الرحلات الجوية المقررة.
ثانيًا: ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتهديد الأمن الغذائي
أدى الاضطراب في حركة التجارة بين السودان وجيرانه، نتيجة الصراع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، إلى إعاقة وصول صادرات الغذاء الأساسية من السودان إلى البلدان المجاورة، مما أدى إلى زيادة كبيرة في أسعار تلك السلع. على سبيل المثال؛ في بعض بلدات أفريقيا الوسطى تضاعف سعر العديد من السلع بمقدار الضعفين، فمثلًا ارتفع سعر كيس السكر الذي يزن 50 كلجم من 40 ألف فرنك (70 دولارًا)، قبل اندلاع الصراع، إلى حوالي 80 ألف فرنك (140 دولارًا)، وبالقرب من حدود تشاد مع السودان ارتفع سعر كيلو الذرة الرفيعة بنسبة 50% خلال أسبوع واحد من اندلاع الصراع. وهو ما يؤدي إلى مزيد من التدهور الاقتصادي والضغوط على معيشة المواطنين في دول الجوار السوداني، ويهدد بتفاقم انعدام الأمن الغذائي في منطقة تواجه أصلًا أسوأ أزمة إنسانية منذ عقود، حيث تشير التقديرات إلى أن شخصًا يموت من الجوع كل 36 ثانية في إثيوبيا وكينيا والصومال، في الوقت الذي يعاني فيه 48 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد في وسط وغرب أفريقيا، و37 مليون شخص في القرن الأفريقي، و18.6 مليون شخص بمنطقة الساحل الأفريقي.
وعلى صعيد موازٍ، لطالما لعبت صادرات الخرطوم دورًا حيويًا في الأمن الغذائي للعديد من دول المنطقة، حيث يعد السودان مصدرًا أساسيًا للحوم للعديد من الدول العربية والأفريقية، ويمتلك أكثر من 100 مليون رأس من الماشية، بالإضافة إلى امتلاكه مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة وغير المستغلة تقدر بنحو 170 مليون فدان، أي ما يعادل حوالي ثلثي مساحة السودان، فضلًا عن الوفرة المائية التي يتمتع بها السودان، حيث تقدر ثروته المائية بنحو 433.5 مليار متر مكعب، منها 400 مليار متر مكعب من مياه الأمطار فقط. وقد دفعت هذه الوفرة في الموارد العديد من دول المنطقة التي تعاني من درجة من درجات انعدام الأمن الغذائي نحو الاستثمار في الأمن الغذائي في السودان، سواء من خلال استيراد اللحوم الحية والمجمدة والحبوب من الخرطوم، أو عن طريق إنشاء مزارع على أرض السودان يذهب إنتاجها للدول المستثمرة، وعلى رأس هذه الدول المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر.
إلى جانب المشروعات الزراعية، يقدر حجم استيراد المملكة العربية السعودية من الحيوانات الحية بنحو 7 ملايين رأس في السنة، يأتي 65% منها من السودان، وتستورد مصر حوالي 200 ألف رأس ماشية سنويًا، ونحو 4 آلاف طن من اللحوم من السودان، وهو ما يمثل حوالي 10% من احتياجاتها من المواشي واللحوم الحية، بالإضافة لذلك، يعتمد جنوب السودان وأفريقيا الوسطى بنسبة 70% على المنتجات الغذائية القادمة من السودان، وقد أدت الأزمة إلى تراجع حجم الكميات التي تستورد من اللحوم السودانية، وتعطل الكثير من الصادرات السلعية، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار هذه السلع من ناحية، ويمثل ضغط على اقتصاد الدولة من ناحية أخرى، حيث ستضطر إلى توفير بديل عن السودان لاستيراد هذه السلع لتلبية الاحتياجات المحلية لمواطنيها وتغطية الفجوة الغذائية التي خلقتها الأزمة السودانية.
ثالثًا: توقف الاستثمارات والمشروعات المشتركة
بالرغم من شبه العُزلة التي عانت منها السودان لسنوات أثناء حكم الرئيس السابق عمر البشير، نتيجة وضع اسمها في قائمة الدول الراعية للإرهاب، إلا أنها استطاعت أن تجذب جزءًا من الاستثمارات الخارجية لها، خاصة من الصين والإمارات والسعودية ومصر.
يمكن فهم الاستثمارات السعودية والإماراتية في إطار حرص تلك الدول على دعم أمنها الغذائي، حيث تتركز أغلبها في قطاع الزراعة، حيث تشير تقديرات إلى أن الاستثمارات السعودية في السودان خلال الـ10 سنوات الماضية بلغت حوالي 35 مليار دولار، يأتي معظمها في القطاع الزراعي، بنحو 250 مشروعًا زراعيًّا. بالإضافة لذلك، تجاوزت استثمارات الإمارات في السودان 7 مليارات دولار، وأيضًا يتركز غالبيتها في القطاع الزراعي، فضلًا عن إعلان الإمارات عزمها ضخ استثمارات جديدة تقدر بنحو 6 مليارات دولار لبناء ميناء جديد في السودان على البحر الأحمر، وهو استثمار في شقٍ منه مرتبط أيضًا بتأمين أمنها الغذائي، حيث تعتمد استراتيجية الأمن الغذائي للإمارات على عدد من المسارات، من بينها السيطرة على موانئ الدول التي تستورد منها الغذاء، لضمان عدم توقف الإمدادات.
بالإضافة لذلك، وصل عدد المشروعات المصرية بالسودان لحوالي 229 مشروعًا، برأس مال بلغ حوالي 10.8 مليارات دولار، وذلك خلال الفترة من عام 2000 حتى عام 2013، إلى جانب مشروعات الربط البري والبحري والكهربائي بين البلدين. فضلًا عن المشروعات والاستثمارات الصينية في السودان التي تجاوزت 5 مليارات دولار، والاستثمارات الكويتية بحوالي 6 مليارات دولار، والقطرية بنحو 4 مليارات دولار. ويهدد استمرار القتال بتوقف العمل في المشروعات المشتركة، كما حدث في مشروع قناة جونجلي في جنوب السودان الذي لم يكتمل بسبب الحرب الأهلية في الجنوب، وهروب الاستثمارات من السودان، مما تكون له انعكاسات سلبية على اقتصاد السودان من جهة واقتصاد الدولة الشريكة من جهة أخرى، حيث تشير تقديرات إلى أن النزاع العسكري المشتعل في السودان أدى إلى خروج ما يقدر بنحو مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المشارة خلال الأيام العشر الأولى من اندلاع الصراع، ومن المرجح أن يؤدي الصراع إلى خروج ما يفوق 20 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة منها. وعلى الرغم من أن الوضع في السودان لم يتحول إلى كارثة تنذر بالتوقف الكامل لتلك المشروعات، إلا أن استمرار الاشتباكات بين طرفي الصراع بالسودان يُثير مخاوف حقيقية حول مستقبل هذه الاستثمارات والمشروعات المشتركة.
في سياق متصل، تُثار مخاوف حول العاملين في تلك المشروعات الاستثمارية إذا توقفت أو تم تصفيتها، سيكون عليهم العودة إلى بلادهم، ومن ثم البحث عن عمل جديد، الأمر الذي قد يزيد من نسبة البطالة في بلادهم، وهو ما يمثل ضغطًا إضافيًا على اقتصادات الدول المستثمرة في السودان.
رابعًا: زيادة تدفقات اللاجئين والمهاجرين
أدى الصراع المحتدم في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، الذي اندلع في 15 أبريل 2023، إلى نزوح ما يزيد على 1.2 مليون شخص داخليًا، فضلًا عن عبور ما يقرب من 400 ألف الحدود إلى الدول المجاورة حتى 31 مايو 2023، بما في ذلك اللاجئون السودانيون واللاجئون من جنسيات أخرى في ضيافة السودان، فضلًا عن المهاجرين العكسيين (العائدين)، ومن المتوقع أن تصل هذه الأعداد إلى نحو 800 ألف شخص خلال الستة أشهر المقبلة.
وفي هذا السياق، استقبلت مصر النصيب الأكبر من الفارين بنحو 169 ألف شخص، بينهم 164 ألف سوداني، و5.5 آلاف غير سوداني، وجاءت في المرتبة الثانية تشاد التي استقبلت 100 ألف لاجئ أو طالب لجوء جميعهم سودانيون، وكذا استقبلت جنوب السودان 88.4 ألف شخص، بينهم 83 ألف جنوب سوداني عائدون، و2.7 ألف لاجئ/ طالب لجوء سوداني، و2.6 ألف لاجئ/ طالب لجوء غير سوداني، وكذا استقبلت أفريقيا الوسطى 13.8 ألف شخص، بينهم 10.3 آلاف لاجئ/ طالب لجوء سوداني، و3.5 آلاف شخص من أفريقيا الوسطى عائدون، كما استقبلت إثيوبيا حوالي 6.5 آلاف شخص، بينهم حوالي 5.5 آلاف لاجئ/ طالب لجوء غير سوداني، و949 ألف إثيوبي عائدون، و54 إثيوبي عائدون. فضلًا عن عدم توافر بيانات عن أرقام اللاجئين السودانيين المتجهين إلى ليبيا أو إريتريا.
وستؤدي هذه الأعداد الضخمة من اللاجئين إلى زيادة العبء الاقتصادي على الدول المستضيفة، المنهكة اقتصاديًا بالفعل نتيجة الصدمات المتتالية من كورونا والحرب الروسية الأوكرانية والتغيرات المناخية وعدم الاستقرار الذي يضرب بعض هذه الدول، فضلًا عن أن أولئك الذين عبروا الحدود نحو تشاد سيواجهون كارثة إنسانية عندما يبدأ موسم الأمطار في غضون أسابيع، ومع استمرار الصراع، قد يسعى بعض المهاجرين إلى الحصول على ملاذ دائم في أي مكان خارج السودان، سواء كان ذلك في القارة الأفريقية، أو في أماكن أبعد في أوروبا أو أمريكا.
المصدر: من إعداد الباحثة، بناء على تقديرات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين.
حتى قبل اندلاع الصراع في السودان، كان الوضع مزريًا بالفعل في البلدان المجاورة، حيث يقع السودان وسط منطقة تعاني من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي، حيث تقدر الأمم المتحدة أن ما يقرب من 72 مليون شخص في شرق أفريقيا يحتاجون إلى مساعدات إنسانية هذا العام بسبب فشل مواسم الأمطار الخمسة والصراع والفيضانات، وتستضيف المنطقة بالفعل أعدادًا كبيرة من اللاجئين مع انخفاض كبير في التمويل، فقبل النزاع الأخير في السودان، كانت تشاد تستضيف بالفعل حوالي 580 ألف لاجئ، وهو أكبر عدد من اللاجئين في وسط أفريقيا، بما في ذلك 400 ألف سوداني، كما تستضيف مصر أكثر من 9 مليون مهاجر ولاجئ بينهم حوالي 4 مليون سوداني، وكذا تستضيف إثيوبيا ما يزيد عن 823 ألف لاجئ وطالب لجوء معظمهم من جنوب السودان والصومال وإريتريا، فضلًا عن ملايين اللاجئين الذين يستضيفهم السودان نفسه.
ويأتي ذلك في وقت يتناقص فيه تمويل المساعدات الإنسانية في المنطقة، حيث تم تلبية 20٪ فقط من نداءات الأمم المتحدة حتى الآن لجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد مجتمعين، كما قام برنامج الأغذية العالمي مؤخرًا بتخفيض حصص الإعاشة للاجئين بنسبة 40٪، بينما أوشكت أموال المساعدات في تشاد على النفاذ.
علاوة على ذلك، هناك مخاوف أمنية أيضًا متعلقة بما يمكن أن توفره بيئة الصراع من فرص لتسلل بعض العناصر الإرهابية عبر الحدود وتهريب البشر والمخدرات، فضلًا عن أن إثيوبيا لم تتعافى بعد من حرب دامية دارت بين التيجراي والقوات الموالية لرئيس الوزراء أبي أحمد، وتخشى أن يؤدي الصراع في السودان إلى عودة التيجراي الفارين من الصراع الإثيوبي، وهو ما يطرح احتمالية لتجدد الاشتباكات في تيجراي.
خامسًا: تراجع التصنيفات الائتمانية لدول جوار السودان
أشارت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني إلى أن الصراع في السودان إذا تطور إلى حرب أهلية فمن المرجح أن يؤثر على تصنيفات بنوك التنمية متعددة الأطراف لشرق أفريقيا، بما في ذلك بنك التجارة والتنمية لشرق وجنوب أفريقيا، وبنك التصدير والاستيراد الأفريقي (Afreximbank)، حيث تقدم هذه المؤسسات قروضًا للسودان، وفي حالة استمرار الصراع فقد لا يستطيع السودان توفير الدخل الكافي للوفاء بالتزاماته، ولن يسدد القروض والفوائد المستحقة، ومن ثم لن تجد المؤسسات المُقرضة الموارد المالية اللازمة لتمويل مشروعات أخرى في دول الجوار.
فضلًا عن أن وجود صراع مسلح على حدود تلك الدول، يضعها في تصنيف الدول ذات المخاطر المرتفعة، وبالتالي يهدد بتراجع التصنيف الائتماني لها، ويجعلها تواجه صعوبات في تأمين القروض التنموية التي تحتاجها من المؤسسات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، فضلًا عن هروب الاستثمارات.
سادسًا: تهديد الملاحة في البحر الأحمر
على الرغم من أن السودان ليس سوقًا رئيسية للكثير من الدول العالمية الكبرى، ولكن يجب أن يهتموا بعدم الاستقرار في الخرطوم لسببين على الأقل؛ يتعلق السبب الأول بأن الصراع في الخرطوم قد يمتد إلى دول جوار أخرى، في قلب إقليم مضطرب أصلًا، وبالتالي يمكن أن يزعزع استقرار منطقة الساحل والقرن الأفريقي، ويعرض مصالح الدول في هذه المناطق للخطر، ويؤثر سلبًا على جهود هذه البلدان لحفظ الأمن في المنطقة، وتوسيع تجارتها التصديرية مع المنطقة ككل.
أما السبب الثاني، فيرجع إلى إمكانية عرقلة التدفقات التجارية عبر مضيق باب المندب، والخوف من عودة القرصنة في البحر الأحمر، ومن ثم تعطيل واحد من أهم الممرات الملاحية في العالم، مما يحد من قدرة هذه البلدان على التجارة مع بقية العالم، حيث يتدفق عبر البحر الأحمر حوالي 12 % من التجارة العالمية و10%من إجمالي النفط العابر للمحيطات في العالم، ومن ثم فإن إغلاق باب المندب، ولو مؤقتًا، يمكن أن يؤدي إلى خسائر هائلة، وزيادات كبيرة في أسعار الطاقة العالمية؛ حيث ستتجه السفن والناقلات إلى المسار البديل عبر جنوب أفريقيا، مما يزيد من تكلفة العبور بمقدار 45 مليون دولار يوميًّا. فضلًا عن الخسائر التي ستلحق بالدول الأخرى التي لديها موانئ مطلة على نفس الممر الملاحي، نتيجة فقدان رسوم العبور، ومنها مصر عبر قناة السويس.
فضلًا عن ذلك، نظرًا لأهمية الممر للتجارة العالمية، قد يتمثل الخطر الأكبر في حالة حدوث اضطراب في ملاحة البحر الأحمر في احتمالية تدخل بعض القوى الدولية للحفاظ على منظومة الأمن في هذا الممر الملاحي، في ظل وجود قواعد عسكرية لعدد من القوى الدولية في المنطقة، منها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا واليابان والصين في جيبوتي، وتركيا في الصومال.
ختامًا، في حين أن الشعب السوداني هو الخاسر الأكبر من الصراع الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، إلا أن الأهمية الجيوسياسية للبلاد وموقعها الاستراتيجي على البحر الأحمر، وعلى الحدود مع سبع دول، وفي ملتقى عدة مناطق أفريقية؛ جعل التأثيرات الاقتصادية للصراع كبيرة على دول الجوار بالدرجة الأولى، وعلى الدول الأبعد أيضًا التي تربطها مصالح بالسودان أو بالمنطقة، وهو ما يفرض ضرورة الإسراع في إيجاد حل للوضع في السودان، ليس فقط لصالح السودان، ولكن أيضًا لصالح الجميع.