وضعت وثائق “البنتاجون” المسربة العديد من علامات الاستفهام بشأن تداولها عبر الإنترنت منذ فترة طويلة، دون أن تكتشفها السلطات الأمريكية، وذلك على الرغم من اعتبارها -وفق بعض التحليلات- تشكل “خطرًا بالغًا” على الأمن القومي الأمريكي، نظرًا لما كشفته من معلومات حساسة متعلقة بالخصوم والحلفاء على حد سواء. إذ لم يكن المسئولون الأمريكيون على علم بالتسريب حتى 6 أبريل الماضي، وفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز”. كما أفاد موقع “بيلينجكات” Bellingcat الاستقصائي، بأن عددًا من الوثائق متداول على الإنترنت منذ يناير الماضي. الأمر الذي يثير التساؤلات بشأن محتوى ومضمون هذه الوثائق المسربة، وكذا دلالات وانعكاسات مسألة التسريب الذي جرى على يد عضو الحرس الوطني “جاك تيكسيرا”، البالغ من العمر 21 عامًا.
>> قمة جبل الجليد …. الميدان الأوكراني في مرآة وثائق البنتاجون المسربة
مضامين التسريبات
نشرت “نيويورك تايمز” مقالًا بعنوان “ظهور دفعة جديدة من المستندات السرية على مواقع التواصل الاجتماعي”، ذكرت فيه أن مسئولين أمريكيين قالوا إن حجم التسريب قد يصل إلى أكثر من 100 وثيقة. وتتجاوز الوثائق المسربة المواد السرية للغاية المتعلقة بخطط الحرب في أوكرانيا، لتكشف عن معلومات حساسة عن الصين ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ والشرق الأوسط.
وقد أقر مسئولو “البنتاجون” بأنها وثائق أصلية لوزارة الدفاع، لكن يبدو أن بعضًا منها قد تعرض للتغيير والتعديل في متنها؛ كتقدير الخسائر البشرية الأوكرانية، على سبيل المثال. فيما قال الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، في حديث للصحفيين خلال جولته بأيرلندا: “لست قلقًا من التسريب، أنا قلق لأنه حدث”. كما صرح وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” بأن تسريب الوثائق السرية “لم يؤثر في علاقة واشنطن بشركائها”.
من جانبه، أمر وزير الدفاع “لويد أوستن” مساعده لشئون الاستخبارات والأمن بإجراء مراجعة شاملة لآليات الوصول إلى المعلومات السرية والمساءلة والرقابة داخل الوزارة. وتعهد “أوستن” بمواصلة العمل مع الوكالات الاستخباراتية المختلفة من أجل وضع تقييم بشأن تأثير هذه التسريبات على الأمن القومي. فيما اعتبر “كريس ميجر”، المتحدث باسم “البنتاجون”، أن مجرد تداول هذه الوثائق على الإنترنت يمثل “خطرًا جسيمًا على الأمن القومي، ويمكن أن يغذي ويحفز المعلومات المضللة”.
>> “القبة السيبرانية” الإسرائيلية: السمات والدوافع
وقد حوت الوثائق المسربة مجموعة متنوعة من الملفات لكنها -في أغلبها- تظل ذات صلة وتأثير بالحرب الروسية الأوكرانية؛ يمكن توضيح أبرزها على النحو التالي:
- كشفت بعض الوثائق المسربة عن المشهد الميداني في ساحة الحرب الروسية الأوكرانية، بما فيها استعدادات كل طرف ونقاط الضعف لديه. كما تُظهر الوثائق الموجودة عن الجيش الأوكراني صورًا ورسومًا بيانية لتسليم الأسلحة المتوقع، وتقسيم القوات والكتائب، وخططًا أخرى. كما كشفت بعض الوثائق المسربة عن هجوم الربيع الذي كان متوقعًا شنه ضد القوات الروسية. فيما كشفت أخرى عن وجود 100 من أفراد القوات الخاصة من فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا ولاتفيا يعملون في أوكرانيا.
- ركزت الوثائق المسربة في جانب كبير منها على روسيا والتفاعلات التي تجري داخلها على خلفية الحرب الأوكرانية. فقد أشارت بعض الوثائق إلى وجود “صراع داخلي واسع” بين المسئولين الروس، بما في ذلك البعض داخل وزارة الدفاع الروسية وجهاز الأمن الفيدرالي، كما كشفت أن الحرب قد أنهكت قوات “سبيتسناز” الروسية عالية المهارة، بجانب فشل موسكو في تأمين مساعدات عسكرية أجنبية وهو ما يستتبعه نقص حاد في الإنتاج العسكري. كما كشفت بعض الوثائق عن تخطيط موسكو لاختراق شركة خطوط أنابيب غاز كندية. ناهيك عن الكشف عن خطط مجموعة “فاجنر” الروسية للسفر سرًا إلى هايتي وإبرام عقود مع الحكومة هناك.
- حازت الصين على جانب ليس بالقليل في الوثائق المسربة؛ فقد أشارت بعض الوثائق إلى التقييم الذي تم بشأن المنطاد الصيني الذي حلق فوق الولايات المتحدة خلال فبراير الماضي. كما كشفت بعض الوثائق عن موافقة الصين على “تقديم مساعدة قاتلة” لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، إذ خططت لإخفاء المعدات العسكرية كأغراض مدنية. واعتبرت بعض الوثائق أن تايوان ليست جاهزة لمواجهة أي “هجوم جوي صيني محتمل”، فالدفاع الجوي التايواني لن يكون قادرًا على “الرصد الدقيق للصواريخ”، والرد عليها بصورة فعالة وسريعة.
- كشفت إحدى الوثائق المسربة أن قيادات من “فاجنر” قد التقوا سرًا بـ”جهات تركية” في فبراير 2023، وبحثوا تهريب أسلحة ومعدات لاستعمالها في أوكرانيا. ووفقًا للوثيقة، اقترح قادة “فاجنر” أن تلعب دولة مالي دور الوكيل من أجل الحصول على الأسلحة من تركيا نيابة عن “فاجنر”.
- لم تشهد إسرائيل تركيزًا كبيرًا من قبل الوثائق المسربة؛ فقد أفادت إحدى الوثائق المسربة، والتي حملت ختم “سري للغاية”، بأن جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) دعم الاحتجاجات المناهضة لخطط رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، لإحكام السيطرة على المحكمة العليا.
- أثارت الوثائق المسربة التي طالت كوريا الجنوبية الكثير من الجدل بشأن تنصت واشنطن على حلفائها. فقد كشفت إحدى الوثائق عن تفاصيل متعلقة بالمناقشات الخاصة التي دارت بين كبار المسئولين الكوريين الجنوبيين حول الضغط الأمريكي عليها للمساعدة في إمداد أوكرانيا بالأسلحة، وسياسة سول القائمة على تجنب ذلك.
دلالات أساسية
يبدو أن الوثائق المسربة –وإن لم يتم الكشف عن جميعها– ستترك بلا شك بصماتها على الملفات التي اتصلت بها نتيجة المعلومات التي كشف عنها. ومن ثم تجدر الإشارة إلى أن مسألة تسريب الوثائق السرية الأمريكية على نحو ما جرى يحمل عددًا من الدلالات يمكن توضيح أبرزها على النحو التالي:
- إخفاق أمريكي متكرر: لا تمثل الوثائق المسربة حاليًا استثناء على الساحة الأمريكية، لكنها تأتي ضمن سلسلة متكررة من الإخفاقات. فقبل 13 عامًا، كشف موقع “ويكيليكس” الذي أنشأه “جوليان أسانج” مجموعة كبيرة من البرقيات الحساسة لوزارة الخارجية الأمريكية. بعدها بسنوات، كشف المتعاقد السابق بوكالة الأمن القومي الأمريكية “إدوارد سنودن” عن أسرار تخص الوكالة، واتهمته واشنطن بالتجسس لصالح روسيا التي منحته حق الإقامة لديها.
- اهتمام بالحرب الأوكرانية: عكست الوثائق المسربة اهتمامًا أمريكيًا كبيرًا بساحة الحرب الروسية الأوكرانية، بل ورغبة أمريكية كبيرة في تحفيز الحلفاء والشركاء حول العالم لتقديم المزيد من الدعم لأوكرانيا، وكذا ممارسة المزيد من الضغوط على الخصوم الداعمين لروسيا.
- ريبة حلفاء واشنطن: ستساهم الوثائق المسربة في تعميق ريبة الحلفاء تجاه واشنطن بالاستناد إلى ما تقوم به واشنطن من تنصت على مسئوليها ومحاولة تعديل سياستهم بما يتناسب مع مصالحها، وهو ما انعكس في ردود الفعل الأولية لكوريا الجنوبية. فضلًا عن كونها ليست المرة الأولى التي تكشف فيها التسريبات عن هذه المسألة، فقد أوضحت التسريبات السابقة ما هو أكثر تدخلًا وعمقًا في هذا الصدد.
- انعكاسات ميدانية: يُعد تسريب الوثائق الجاري أصغر مقارنة بالتجارب السابقة لــ”أسانج” و”سنودن”، لكن تكمن خطورتها في طابعها العسكري لا الدبلوماسي، كونها تتحدث عن حرب جارية، وتكشف عن بعض المواد الأكثر حساسية، مثل: خرائط الدفاعات الجوية الأوكرانية، ووجود أفراد من القوات الخاصة من فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا ولاتفيا يعملون في أوكرانيا، وهو ما ستكون له ارتدادات ميدانية في ساحة المعركة ومحيطها.
- مزج الحقيقة بالتضليل: أقر مسئولو “البنتاجون” بأن الوثائق المسربة أصلية، لكنهم اعتبروا أن هناك تلاعبًا في بعض أجزاء منها. ومن ثم فإن ما يجري من معلومات يقال إنها “سرية وسرية للغاية” يحمل مزيجًا من الحقيقي والمضلل بطريقة ستلقي بظلالها على الحسابات السياسية والتحركات للحلفاء والخصوم على السواء.
- البعد السيبراني: على الرغم من أن الحصول على الوثائق وتسريبها لم يتم عبر هجوم سيبراني كما كان متوقعًا، إلا أنه يظل من الصعب استبعاد البعد السيبراني للتسريبات، والمتمثل في استغلال منصات التواصل الاجتماعي لنشر الوثائق والترويج لها.