يشهد العالم معدلات غير مسبوقة من الاحتباس الحراري وارتفاع درجات الحرارة العالمية، الأمر الذي يستلزم معه التحرك على كافة المستويات وتقديم أدوات مالية من شانها كبح جماح التغيرات المناخية والتحول نحو تحقيق إطار اتفاق باريس المعني بتغير المناخ لعام 2015، حيث تُعَّد “ضرائب الكربون” إحدى تلك الأدوات المستحدثة لإنجاز تلك المهمة، والمساهمة في كبح انبعاثات الكربون الناتجة عن الفحم وغيره من أنواع الوقود الأحفوري الملوِّثة للبيئة.
ويحدث ذلك عبر تحفيز الأفراد والشركات على تخفيض استهلاك الطاقة والتحول إلى مصادر الطاقة النظيفة، وضرائب الكربون هي أقوى الأدوات وأكثرها كفاءة، ولكن شريطة أن يتم تطبيقها بصورة عادلة ومواتية للنمو، وبحث كيفية استغلال الإيرادات المحققة عبر تقديم دعم للأسر والمجتمعات المعرضة للتأثر، أو زيادة الاستثمار في الطاقة النظيفة.
واستكمالا لجهود المنظمات الدولية للترويج لضرائب الكربون فقد أصدر البنك الدولي تقريره السنوي الجديد حول “حالة واتجاهات تسعير الكربون” ويوفر هذا التقرير نظرة شاملة حديثة حول الآليات الحالية والناشئة لتسعير الكربون حول العالم ، بما في ذلك المبادرات الدولية والوطنية لتسعير الكربون.
لذا يأتي هذا المقال لتقديم لمحة حول ضرائب الكربون وأهميتها في ظل الظروف الحالية.
أولا: ضريبة الكربون وهل يفيد تطبيق هذه الضريبة كوكب الأرض؟
يطبَّق أحد أشكال نظم تسعير الكربون في حوالي 50 بلدا، ولكن متوسط سعر الكربون العالمي يبلغ الآن دولارين للطن فقط، وهو أقل بكثير مما نحتاجه لخفض الانبعاثات والوصول لهدف صفر انبعاثات بحلول 2050.
وجدير بالذكر أن ضرائب الكربون تتحدد بواسطة الحكومات أو الأسواق، وتغطي تلك الأسعار جزءاً محدداً من إجمالي انبعاثات الدولة، مع تركيز معظم الرسوم على المرافق التي تنتج الانبعاثات، إذ تتخذ بعض الأسعار شكل ضريبة، أو رسماً يُفرَض على كلِّ طن من ثاني أكسيد الكربون المنبعث.
هل يفيد تطبيق هذه الضريبة في تحقيق الأهداف المناخية؟
تنقسم التحليلات ما بين مؤيد لقدرة فرض ضرائب الكربون على تحقيق الهدف المناخي، وتعتبر السويد نموذجا يحتذى في هذا الخصوص. فضريبة الكربون التي تطبقها تبلغ 127 دولارا لكل طن، كما أنها تمكنت من تخفيض الانبعاثات بنسبة 25% منذ عام 1995، بينما تَوَسَّع الاقتصاد بنسبة 75% منذ ذلك الحين.
وفي المقابل يذهب البعض للتشكيك في قدرة تلك الضرائب على إحداث الفارق بالشكل المطلوب، حيث تتردد بعض البلدان في تطبيق تلك الضرائب أو رفع قيمتها لاستشعارها القلق من أثر ارتفاع تكلفة الطاقة على تنافسية صناعاتها.
فمن المرجح ألا يكون للضريبة الجديدة تأثير يذكر في الحد من انبعاثات غازات الدفيئة، إذ تقدر هيئة تابعة للأمم المتحدة بأن الانبعاثات ستنخفض بمقدار27 مليون طن فقط عندما يعدَّل حد الكربون ليبلغ 44 دولاراً للطن المتري، أي بنسبة 0.1% من إجمالي الانبعاثات. وعند 88 دولاراً ستنخفض الانبعاثات بمقدار45 مليون طن، علماً بأن سعر الكربون في الاتحاد الأوروبي يبلغ حالياً نحو 53 يورو (62 دولاراً) للطن.
وجدير بالإشارة أن وكالة الطاقة الدولية تقدّر أنه للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، سيتعين على الاقتصادات المتقدمة أن تدفع سعراً للكربون يبلغ نحو 75 دولاراً لكل طن من الانبعاثات بحلول عام 2025، وما يصل إلى 250 دولاراً للطن بحلول منتصف القرن. أما بالنسبة إلى بعض الأسواق الناشئة، فترجح الوكالة أن تبدأ الأسعار من 3 دولارات للطن، وترتفع إلى 55 دولاراً بحلول عام 2050. ويتوقع أن تستخدم نحو نصف الدول التي وقَّعت على اتفاقية المناخ بباريس، والبالغ عددها 200 دولة تقريباً، شكلاً من أشكال تسعير الكربون للوصول إلى أهدافها.
ثانيا: تطور أسواق الكربون:
لقد تطورت الأسواق والآليات الكربونية بشكل مطرد خلال العشر سنوات الأخيرة، حيث تم النظر إلى التسعير المباشر للكربون من خلال عدسة أوسع، ليس فقط كسياسة رئيسية للحد من التغير المناخي، ولكن كأداة لزيادة الإيرادات، ودفع الابتكار، والمساعدة في تحقيق أهداف الاستدامة والتنمية الشاملة.
وقد ارتفعت حصة الانبعاثات العالمية التي تغطيها ضرائب الكربون ونظم التداول في الانبعاثات من 7٪ إلى حوالي 23٪ تغطيها في الآونة الحالية حوالي 73 أداة من أدوات تسعير الكربون. وتشير الخريطة التالية إجمالي مبادرات تسعير الكربون المطبقة حول العالم حتى عام 2023.
شكل: مبادرات تطبيق (ضريبة الكربون، 2023)
المصدر: البنك الدولي.
لا تزال البلدان مرتفعة الدخل والاقتصادات المتقدمة تستحوذ على النصيب الأكبر من ضرائب الكربون المفروض، وذلك على الرغم من محاولات الاقتصادات الصاعدة الاقبال على نظام تداول تراخيص إطلاق الانبعاثات وضرائب الكربون، فقد تم تبني عدة أدوات جديدة في كل من إندونيسيا والنمسا، وكذلك في الولايات المتحدة والمكسيك.
ومن المقرر أن تستأنف أستراليا تسعير الكربون باستخدام نظام تداول تراخيص إطلاق الانبعاثات القائم على معدلات الأسعار على أن يبدأ تطبيقه في يوليو2023، وتواصل بلدان من بينها شيلي وماليزيا وفيتنام وتايلند وتركيا العمل على تنفيذ التسعير المباشر للكربون.
وقد ارتفعت إيرادات الحكومات من الضرائب الكربونية ونظم التداول في الانبعاثات بمقدار خمسة أضعاف تقريبًا، حيث وصلت إيرادات ضرائب الكربون وأنظمة تداول تراخيص إطلاق الانبعاثات إلى مستوى قياسي بلغ نحو 95 مليار دولار.
وتُستخدم الإيرادات المجمعة من الضرائب على الكربون ونظم التداول بالانبعاثات (ETSs) بشكل متكرر لأغراض محددة مسبقًا. وبناءً على بيانات معهد اقتصاديات التغير المناخي، تم توجيه نحو 40٪ من عائدات الضرائب على الكربون إلى أغراض محددة وبخاصة الإنفاق الأخضر، وتوجيه نحو 10٪ إضافية للتحويلات المباشرة إلى الأسر والشركات الضعيفة. تم استخدام الباقي للموازنة العامة (20٪) ، وتوجيه نحو 9% لخفض الضرائب ، وأغراض أخرى (6٪) (هذا ما يوضحه الشكل التالي).
على سبيل المثال، في كولومبيا البريطانية (BC) تستخدم عوائد ضريبة الكربون لدعم الأسر، والحفاظ على تنافسية الصناعة، وتشجيع الاستثمارات الخضراء الجديدة. كما يستخدم الاتحاد الأوروبي ما يقرب من 40 مليار يورو (43 مليار دولار أمريكي) من عوائد الضريبة الكربونية لصندوق الابتكار لتمويل تطوير التقنيات الجديدة والمشاريع الكبرى.
بشكل عام، يمكن القول إن الأسواق الكربونية تواجه تحديات متعددة، بما في ذلك:
- التحدي السياسي: تتطلب إدارة الأسواق الكربونية تأييدًا سياسيًا قويًا والتزامًا من الحكومات والمؤسسات الدولية. ومع ذلك، يواجه العديد من السياسيين والحكومات صعوبة في اتخاذ القرارات الصعبة والتعامل مع مصالح الصناعات المتأثرة بالتسعير المباشر للكربون.
- التحدي التقني: تتطلب إدارة الأسواق الكربونية توافر تقنيات متطورة لقياس الانبعاثات وتتبعها وتسجيلها بدقة. ويواجه العديد من البلدان والشركات صعوبة في تطوير البنية التحتية اللازمة وتكاليف توفيرها.
- التحدي الاقتصادي: يمكن أن تؤثر الأسواق الكربونية على الاقتصادات النامية وتزيد من التكاليف للشركات الكبيرة والمصانع، مما يجعلها ترغب في الانتقال إلى دول ذات تشريعات أقل صرامة في هذا المجال. ومع ذلك، يمكن أن توفر الأسواق الكربونية فرصًا للابتكار وتشجيع الاستثمار في التقنيات النظيفة والمستدامة.
- التحدي الاجتماعي: تؤثر الأسواق الكربونية على الفقراء والمحرومين بشكل أكبر من الأثر الذي تؤثر به على الطبقات الأعلى دخلاً، ويجب على الحكومات أن توفر تعويضات عادلة للأفراد المتضررين من هذه السياسات.
على الرغم من هذه التحديات، تظل الأسواق الكربونية أداة فعالة للتحكم في الانبعاثات الزائدة والحد من التغير المناخي.