احتلفنا قبل أيام بالذكرى العاشرة للثلاثين من يونيو، ذلك اليوم الذى تم فيه إنقاذ دولة مصر وهويتها من مصير مجهول كان يتهددهما. كانت جماعات الدين السياسى توشك على استكمال السيطرة على الدولة، لتقوم بعد ذلك بتوظيف موارد الدولة وشرعيتها وقوتها لتبديل هوية الأمة من الوطنية المصرية إلى صيغة أممية دينية غامضة. اختيار التحرك فى الثلاثين من يونيو وفى الأيام التى تلته كان موفقا، فأى تأخير كان كفيلا بإدخال مصر فى طريق لا عودة منه، فمن يذهب فى طريق الدولة الدينية لا يعود أبدا، والإخوان لم يحكموا بلدا إلا أفسدوه. فبينما كنا نحتفل بذكرى الثلاثين من يونيو، كانت دولة السودان الشقيق تتمزق بعد أن حكمها الإخوان ثلاثين عاما، فحولوها إلى كيان يكاد يكون غير قابل للإصلاح. أتمنى للسودان كل خير، وإن كنت لا أظن أنه سيعود لأهله قريبا، فهل عادت أفغانستان؟ أبدا بعد أن تمكن الإسلاميون من حكمها؟
لم تهب الطبيعة لمصر الكثير من الثروات، لكن التاريخ عوضنا بالدولة عن نقص الثروة، فكانت لنا أقدم دولة مركزية فى التاريخ، وحولها قامت المدنية والحضارة المصرية فى العصور المتتابعة. هل يمكن تخيل شكل وتاريخ هذا الجزء من العالم فى غياب الدولة؟ وهل كانت الهوية المصرية لتوجد لولا الدولة المركزية التى حفظت للبلاد وحدتها السياسية ووفرت لها تجانسا ثقافيا نادرا استمر لعدة آلاف من السنين. حضارة مصر هى حضارة الدولة المصرية، فلا حضارة مصرية بدون الدولة، وهذا هو جوهر ومغزى الثلاثين من يونيو.
الدولة لها معان وأوجه كثيرة، فهى تعبير عن هوية جماعية و تكامل جغرافى، وحامية الأمن القومى، وهى المخولة بسد الفراغات التى يفشل فى شغلها المجتمع، فلا تظهر فى كيان الأمة الاجتماعى والاقتصادى والسياسى مساحات خالية ينفذ منها الخصوم والأعداء. كل هذا يجرى بدقة وحساب شديد، فسلطة الدولة قد تشتد فتخنق المجتمع، أو تكون شديدة الضعف، فيتفكك المجتمع.سلطة الدولة الزائدة تخنق، أما إذا ضعفت الدولة فيما وراء نقطة معينة فإننا لا محالة جميعا هالكون.
الدولة قد تكون أحيانا غاشمة وباطشة، لكن الأسوأ منها هو بطش وغشومية الفوضى، واسأل أهل السودان ولبنان. البطش النظامى يبقى عقلانيا، له رأس ومصدر ينطلق منه ويوجهه، يمكن التفاهم والتفاوض معه وإصلاحه. بطش الفوضى منفلت ليس له رأس ولا يحتكم إلى أى قواعد، وهو غير قابل للإصلاح، والتمرد عليه عالى التكلفة شديد الخطورة. البطش المنفلت هو بطش البلطجية وقطاع الطرق والميليشيات، أما الدولة فتبقى جهازا يعمل وفقا لقواعد محددة مكتوبة، يمكن الاحتكام لها حتى لو تم تجاهلها أحيانا.
تحتكر الدولة الحديثة حق الاستخدام الشرعى للعنف فى إقليمها. هذا هو المبدأ الذى رسخه صلح وستفاليا 1648 لإنهاء ثلاثين عاما من الحروب الدينية فى أوروبا. كانت هذه نقطة انطلاق الدولة القومية الموحدة فى أوروبا، لتنتقل أوروبا بعدها من مرحلة الإقطاع إلى الدولة المركزية الاستبدادية، التى كانت المقدمة الطبيعية للوصول إلى مرحلة الدولة الديمقراطية الحديثة.
بالنسبة لنا فى مصر فإن الابتكار الذى أتت به وستفاليا لم يكن أمرا جديدا على الإطلاق، فقد احتكرت الدولة فى مصر العنف منذ زمن طويل جدا، منذ تم توحيد القطرين على يد الملك مينا. بالطبع كانت هناك محاولات تافهة متفرقة للانشقاق على الدولة سرعان ما فشلت، لأن الأصل لدينا هو الدولة الواحدة الموحدة التى تحتكر العنف، فيما الأصل فى أوروبا هو تعددية مراكز القوة المسلحة، فهذا هو جوهر النظام الإقطاعى الذى لم نعرفه فى مصر. فى أوروبا كان هناك إقطاعيون يملكون الأرض ولديهم فرسانهم، وفلاحوهم، الذين يقدمونهم لدعم الملك فى الحرب لفترات محددة سلفا، ولهم أن يمتنعوا عن ذلك أصلا، أو ينسحبوا من الحرب لو طالت أو رأوها خاسرة. لم يكن لدينا فى مصر شيء من هذا فقد امتلكت الدولة كل الأرض، عبر وكلاء من الموظفين، أشرفوا على الزراعة، وجمعوا الضرائب، وجندوا الفلاحين للحرب وتنفيذ أعمال المرافق العامة.
فى أوروبا الإقطاعية كان هناك مجتمع لكن لم تكن هناك دولة، وعندما حصلت أوروبا على الدولة المركزية الموحدة، حدث توازن عبقرى أطلق طاقات المجتمع والدولة فى أوروبا لآفاق غير مسبوقة، فكان التقدم العلمى والتكنولوجى والثورة الصناعية والاستعمار، وبعد ذلك كله جاءت الديمقراطية؛ فكل عملية الانتقال إلى العصر الحديث لم تكن ممكنة لولا ظهور الدولة المركزية الموحدة فى أوروبا.
لم يخترع محمد على باشا الدولة المصرية، فالدولة لدينا شديدة القدم، لكنه قام بتحديث الدولة وتخليصها من أمراض لحقت بها خلال قرون الحكم العثمانى المملوكى المظلمة. لكن محمد على وخلفاءه صنعوا المجتمع المصرى الحديث، فحولوا مجتمع الفلاحين والأزهريين البسيط إلى مجتمع متطور من الموظفين والمدرسين والمهندسين والمترجمين والصحفيين والموسيقيين والعمال والتجار والأحزاب والجمعيات والنقابات. النهضة المصرية الحديثة التى بدأت فى القرن التاسع عشر هى نتيجة لإنجاز مزدوج، تحديث الدولة المصرية العتيقة، وإنشاء المجتمع المصرى الحديث شديد الثراء والتعقيد من مادة اجتماعية خام بسيطة قوامها الفلاحون والأزهريون، وهذا هو جوهر نهضة مصر الحديثة: مجتمع تفتح فى ظل دولة قوية حديثة أدامها الله لنا.