أصبحت القارة الأفريقية مركزًا لاهتمام القوى الدولية في العالم، حيث تريد الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية تعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية باعتبارها شريكًا استراتيجيًا. ظهر ذلك جليًا في سباق انعقاد القمم الأفريقية من منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC)، ومؤتمرات طوكيو الدولية حول التنمية الأفريقية (TICAD)، والقمة الأمريكية الأفريقية، وصولًا إلى القمة الروسية الأفريقية الثانية الأحدث في قائمة قمم (أفريقيا+1).
القمة في سياق دولي متغير
انعقدت القمة الروسية الأفريقية الأولى في أكتوبر 2019 بمدينة سوتشي برئاسة مشتركة مع مصر، تحت شعار “من أجل السلام والأمن والتنمية”، بمشاركة 43 دولة أفريقية، حيث وقعت روسيا اتفاقيات عسكرية مع أكثر من 20 دولة أفريقية، وحصلت على عقود في مجالات التعدين والطاقة النووية في أفريقيا. ومن المقرر عقد القمة في نسختها الثانية خلال الفترة من 27 إلى 28 يوليو 2023 بمدينة سان بطرسبرج، تحت شعار مختلف “إعادة تشكيل التحالفات الدولية”.
يتزامن انعقاد القمة في سياق تحولات جيوسياسية عالمية وتحديات متشابكة في مقدمتها احتدام التنافس الروسي الغربي، وانتقاله من أوكرانيا وشرق أوروبا إلى نطاق القارة الأفريقية، وإفراز الحرب الأوكرانية أجواء الحرب الباردة الجديدة، وتداعياتها على الدول الأفريقية، بما في ذلك ارتفاع الأسعار، ونقص الغذاء والأسمدة، علاوة على انسحاب روسيا من مبادرة البحر الأسود لتصدير الحبوب. ضمن هذا السياق، أصبحت المصالح العالمية لروسيا معتمدة بشكل كبير على أفريقيا؛ إذ تتمحور سياستها الخارجية في القارة الأفريقية حول ثلاثة محاور: السعي وراء شراكات اقتصادية بديلة، وتعزيز النفوذ الجيوسياسي، وتعزيز تعددية الأقطاب.
ستعمل القمة على استعراض التقدم والإنجازات التي حققتها في نسختها الأولى، ووضع أهداف وأولويات جديدة، حيث تتكون أجندة القمة من أربعة محاور أساسية؛ (1): الاقتصاد العالمي الجديد. (2): الأمن المتكامل والتنمية السيادية. (3): التعاون في مجال العلوم والتكنولوجيا. (4): المجال الإنساني والاجتماعي. بالإضافة إلى قضايا الأمن الدولي، واستقرار سوق الأسمدة، والأمن الغذائي، ومناقشة الجهود المشتركة لمكافحة الأوبئة وحالات الطوارئ في مجالات الطاقة، وكذلك التعاون في مجالات الطاقة المتكاملة، وإنشاء وتطوير طرق لوجستية جديدة. وبالتالي، ستسهم القمة في نقلة عالمية جديدة وتعزيز التعاون الروسي الشامل والمتساوي مع الدول الأفريقية في جميع أبعاده من خلال اعتماد خطة عمل مشتركة للفترة 2023-2026 لمجالات التعاون ذات الأولوية.
تباين مقاربات القوى الدولية تجاه أفريقيا
اختلفت مقاربات القوى الدولية في التعامل مع الدول الأفريقية من منظور محددات مصالح كل منهما، وكيفية الاستفادة من احتياجات هذه الدول لخدمة أهدافها، ويعكس التنافس على مناطق النفوذ في أفريقيا السياق العالمي الأوسع، في ظل تتابع الأزمات العالمية، والتحديات غير المسبوقة التي تُواجه القارة الأفريقية، وتكشف القمم الأفريقية مدى التشرذم والضعف في الموقف التفاوضي الأفريقي الموحد، بإعطاء المصالح الوطنية الضيقة أولوية على حساب المصالح القارية. على الرغم من ذلك، غيرت مقومات القارة الأفريقية (معدلات النمو السكاني، واحتياطيات الموارد المعدنية، والكتلة التصويتية في الأمم المتحدة) رؤية القوى الدولية المختلفة في تصاعد أهميتها لتشكيل النظام العالمي الجديد. ويمكن توضيح الاختلاف بين هذه الأجندات الدولية ذات المصالح المتباينة أو المتنافسة في ضوء توظيف مساحة القمم الأفريقية لتعزيز العلاقات بشكل أعمق، وذلك على النحو التالي:
• الشراكة الأمريكية الجديدة: ارتبطت العلاقات بين الولايات المتحدة وأفريقيا بالمساعدات الإنسانية والدعم الاستراتيجي، مثل: مساعدة الدول الأفريقية على مكافحة الإرهاب، والصيد غير القانوني، وأنشطة القرصنة، ولكن تغيرت رؤيتها تجاه أفريقيا بعدم الاقتصار على المخاوف الأمنية، والانتقال من نهج تقديم المساعدات إلى تعزيز التجارة والاستثمارات، والشراكات الاقتصادية والإنسانية، في ظل الاستراتيجية الأمريكية الجديدة (أفريقيا الجديدة)، والشراكة الجديدة المتساوية، وعقد القمة الثانية بين قادة الولايات المتحدة وأفريقيا في ديسمبر 2022، كتطورات إيجابية في مسار العلاقات الأمريكية-الأفريقية، ووعي الإدارة الأمريكية بإمكانيات القارة كشريك اقتصادي.
• الشراكة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي: تُمثل أفريقيا أولوية جيوسياسية بالنسبة للاتحاد الأوروبي، حيث ترتبط أوروبا وأفريقيا بعلاقات اقتصادية وثقافية وجغرافية وطيدة، وتأسست الشراكة بين أفريقيا والاتحاد الأوروبي عام 2000 في القمة الأولى بينهما، ولا تزال تسترشد بالاستراتيجية المشتركة التي تم تبنيها في قمة الاتحاد الأوروبي وأفريقيا الثانية في لشبونة عام 2007. في القمة الأخيرة ببروكسل في فبراير 2022، تم اعتماد رؤية مشتركة لعام 2030. كما طور الاتحاد الأوروبي مجموعة من الأدوات للتعامل مع أفريقيا بنهج الاستراتيجية الشاملة والمصير المشترك بشأن التحديات المشتركة (السلام والأمن، والهجرة، والإرهاب، وتغير المناخ، والتحول الرقمي). على الرغم من ذلك، عادت الفوارق المستمدة من الشراكة غير المتكافئة وإرث الماضي الاستعماري إلى الظهور خلال العقد الماضي.
• الأمن التنموي للصين: تكتسب علاقات بكين مع دول الجنوب العالمي وتحديدًا الدول الأفريقية أهمية خاصة، لتنفيذ نموذج تعاون الجنوب-الجنوب من أجل تحقيق المكاسب المشتركة وتبادل أفضل الممارسات. كما تُعزز قمة منتدى التعاون الصيني-لأفريقي أطر التعاون بين الصين وأفريقيا، وبرز نهج السلام والأمن والتنمية في مشاركة الصين مع أفريقيا، ويتم تأطير تشييد البنية التحتية مثل الطرق والسكك الحديدية، وتطوير البنية التحتية المستدامة الصديقة للبيئة من قبل بكين كإظهار لالتزام الحزب الشيوعي الصيني بالسلام والاستقرار في القارة الأفريقية. علاوة على ذلك، تقديم مبادرة “الحزام والطريق” كبديل للنظام التجاري المعاصر. لذلك، استطاعت الصين اكتساب مزايا استراتيجية، بما في ذلك امتيازات التعدين والموانئ، لكن توجد مخاوف متصاعدة بشأن فخ أزمة الديون الصينية، والتنازل عن الحصانة السيادية في بعض المواقع الرئيسية في الدول الأفريقية.
• تقديم روسيا نموذجًا بديلًا للغرب: تخطط روسيا لتكثيف تعاونها مع الدول الأفريقية كجزء من استراتيجيتها الجديدة لتعزيز حضورها في القارة وتأكيد دورها كقوة عالمية، وهو ما اتبعت في تنفيذه استراتيجية متنوعة الأدوات تضمنت تطوير التعاون الدفاعي والعسكري مع عدد من الدول الأفريقية، فضلاً عن تنامي العلاقات الاقتصادية والتجارية مع منح الأولوية لقطاعي الطاقة والتعدين. كما عززت قوات “فاجنر” الروسية عملياتها في أفريقيا بما يتماشى مع أهداف موسكو لتوسيع وجودها من خلال تأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية الحيوية، واكتساب حضور أوسع لمنافسة القوى الغربية. وفي سياق الحرب الأوكرانية، سعت روسيا لفك العزلة الدولية وتجنب آثار العقوبات الغربية، وكثفت نشاطها الدبلوماسي من خلال جولة “لافروف الأفريقية” لكسب تأييد مواقفهم بشأن الحرب الأوكرانية.
حاصل ما تقدم، يمكن القول إن الأولويات المتغيرة والاحتياجات التنموية القارية فرضت على الدول الأفريقية ضرورة تنويع الفرص الاستثمارية، وإقامة تحالفات جديدة، وضرورة تعزيز التضامن والتكامل القاري حيال القضايا المشتركة (الديون، والتغير المناخي، والغذاء، والطاقة)، ومراعاة تحديد الأولويات الأفريقية المشتركة في إطار الشراكات والتحالفات في النظام الدولي الجديد، باعتبار أفريقيا باتت تشكل لاعبًا رئيسيًا في بناء واستقرار التوازنات الدولية.