كشفت أحداث النيجر الأخيرة وتولى المجلس العسكرى الوطنى الحكم بدل الرئيس محمد بازوم، وردود الأفعال الدولية عليها، مدى التأثير السلبى الكبير للاستقطاب الدولى على إفريقيا وزيادة مشكلاتها وتحدياتها، فقد عكست الأحداث حالة التنافس الحادة بين القوى الدولية المؤثرة فى المشهد الإفريقى، خاصة أمريكا وروسيا والصين وفرنسا، واتخذت كل دولة مواقفها وفقا لمصالحها وتنافسها مع القوى الأخرى، وهو ما يدفع ثمنه بالأساس شعب النيجر الذى يعانى ظروفا اقتصادية صعبة، ويعد من أفقر دول العالم رغم امتلاكه للموارد الطبيعية الضخمة وعلى رأسها اليورانيوم.
وقد أبرزت أحداث النيجر حدة التنافس على صراع النفوذ فى منطقة الساحل والصحراء بين فرنسا وروسيا، ففرنسا المستعمر السابق للنيجر، والتى تعتبرها حديقتها الخلفية وتوجد لها قاعدة عسكرية بها 1500 جندى لمحاربة الإرهاب، لا تريد أن تخسر آخر معاقل نفوذها فى منطقة الساحل والصحراء بعد أن خسرت مالى وبوركينا فاسو وسحبت قواتها العسكرية من هناك لمصلحة تمدد نفوذ روسيا عبر شركة فاجنر. كما أن خسارة النيجر ستؤثر سلبا على الاقتصاد الفرنسي، خاصة إنتاج الكهرباء، حيث إن المفاعلات النووية الفرنسية، (65 مفاعلا) تعتمد فى تشغيلها على 40% من اليورانيوم المستورد من النيجر ويشغل 70% من الكهرباء فى فرنسا، إضافة إلى المعادن الأخرى، ولهذا اتخذت فرنسا موقفا متشددا إزاء قادة المجلس العسكرى فى النيجر وعدم الاعتراف بالانقلاب، وطالبت بإعادة الرئيس بازوم والمسار الدستورى.
وقد كشف رفع الأعلام الروسية فى المظاهرات المؤيدة للمجلس العسكرى الجديد وفى الوقت ذاته مهاجمة بعض المتظاهرين للسفارة الفرنسية، عن المعادلة الجديدة فى بعض الدول الإفريقية ومنطقة الساحل والصحراء، وهى توارى وانحسار نفوذ فرنسا مقابل صعود نفوذ روسيا، والذى تعزز بشكل كبير من خلال القمة الروسية الإفريقية الثانية فى بطرسبرج الشهر الماضى، كما أن مالى وبوركينافاسو وغينيا بيساو أعلنت رفضها لأى تدخل عسكرى خارجى فى النيجر، واعتبروه عدوانا عليها بما قد يفجر حربا إقليمية.
وفى المقابل، حدث تحول فى الموقف الأمريكى بشكل واضح فى أحداث النيجر، فقد التزمت الإدارة الأمريكية الصمت فى البداية واكتفت بالمطالبة بضرورة العودة إلى المسار الدستورى فى أقرب وقت ممكن ولم تفرض عقوبات اقتصادية كما فعلت فرنسا والاتحاد الأوروبى والمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس)، لكن مع تصاعد النفوذ الروسى، أخذت تتبنى موقفا أكثر تشددا حيث طالب الرئيس بايدن المجلس العسكرى بإطلاق صراح الرئيس بازوم فورا وإعادته إلى منصبه، وتبنت أمريكا سياسة العصا لكن دون أن تنخرط فى تدخل عسكرى مباشر لتغيير مجريات الأمور، حيث تسعى لتحقيق أهدافها فى تعزيز نفوذها فى إفريقيا والنيجر والعمل على الإحلال محل النفوذ الفرنسى وتحجيم النفوذ الروسى المتزايد فى القارة سياسيا واقتصاديا وأمنيا عبر فاجنر والقواعد العسكرية الروسية فى القارة، وتستخدم أمريكا مظلة الحفاظ على الديمقراطية لتبرير تدخلها. لكن تظل الخيارات الأمريكية محدودة فى التأثير فى الأحداث التى تشهدها النيجر وقبلها أحداث مالى وبوركينا فاسو والسودان، مع تعدد الأدوار الدولية، وتصاعد اللهجة العدائية الشعبية فى إفريقيا ضد الغرب. تنخرط الصين فى أحداث النيجر دون الدخول فى صدام مباشر مع القوى الأخرى خاصة أمريكا، وتستهدف الصين الحفاظ على مصالحها الاقتصادية الضخمة فى إفريقيا ومنها النيجر، حيث تعد الصين الشريك التجارى الأول لإفريقيا ويصل حجم التبادل التجارى بين الجانبين لأكثر من 250 مليار دولار ولديها مشروعات ضخمة فى البنية الأساسية مثل الموانئ والمطارات والطرق والمستشفيات والزراعة وغيرها، وتتعامل مع أحداث النيجر بحكمة ودون أن تنحاز لأى طرف للحفاظ على مصالحها الاقتصادية. ولذلك تعد الصين أكثر الرابحين فى سباق التنافس الدولى على إفريقيا حيث تدخل من زاوية القوة الناعمة والمشروعات الاقتصادية ولا تتدخل فى الشئون الداخلية للدول الإفريقية أو التغيرات السياسية التى تحدث فيها احتراما للسيادة، على عكس الدول الغربية وأمريكا، حيث تنظر إليها الشعوب الإفريقية بأنها امتداد للاستعمار القديم، ولكن بأشكال أخرى من الاستعمار الاقتصادى والسياسى واستنزاف موارد القارة.
إفريقيا تدفع ثمنا باهظا لهذا الاستقطاب الدولى الحاد أبرزه أنه أدى إلى تصاعد الحروب الأهلية والصراعات فى العديد من دول القارة، وهو ما كرس حالة عدم الاستقرار الأمنى، ومن ثم إعاقة تحقيق التنمية حيث تذهب الموارد إلى الحروب والأسلحة وليس إلى التنمية وتوفير الخدمات الأساسية، كما أنه أدى لضعف وهشاشة الدولة الوطنية فى إفريقيا وضعف مؤسساتها الأمنية والإدارية، وهو ما يهدد بتقسيم بعض الدول الإفريقية فى ظل التعددية العرقية واللغوية والدينية والقبلية وتأجيج البعض لهذه الاختلافات. إضافة إلى تصاعد خطر الإرهاب والتنظيمات الإرهابية مثل داعش والقاعدة والتنظيمات الإرهابية المحلية، خاصة فى منطقة الساحل والصحراء، والتى تستغل البيئة الصراعية وضعف الدولة للتمدد وزيادة نفوذها وعملياتها الإرهابية، كذلك تزايد معدلات الهجرة غير المشروعة واللاجئين والنازحين من النيجر والدول الإفريقية الأخرى وتفاقم الأوضاع الإنسانية، خاصة أن كثيرا من الصراعات فى إفريقيا مثل النيجر ومالى والسودان وغيرها تسودها حالة اللاحسم السياسى والعسكرى، وهو ما يفاقم من تداعياتها السلبية الأمنية والسياسية والإنسانية والاقتصادية فى ظل تحديات تداعيات المناخ والتصحر والجفاف، وتصاعد الإرهاب وانتشار الفقر. ولهذا كله تدفع الشعوب الإفريقية ثمن الاستقطاب الدولى والتنافس بين القوى الكبرى.