منذ مطلع شهر يوليو ٢٠٢٣ بدأت دول العالم تعلن عن موجات حرارة غير مسبوقة تجتاح البلاد، بعضها تسبب في اندلاع حرائق شديدة كما في (اليونان، إيطاليا، إسبانيا، فرنسا)، والبعض الآخر تسبّب في تأثيرات ملحوظة على الصحة والعمل ونمط الحياة كما في الولايات المتحدة وكندا وفرنسا والصين التي تخطت فيها درجات الحرارة لأول مرة 42 درجة مئوية. الأمر الذي أدى الى قيام تلك الدول بإعلان حالة الطوارئ القصوى بسبب حالة الطقس. وقد أرجعت هيئات الأرصاد الجوية في العالم سبب هذه الموجات إلى التغيرات المناخية على الكوكب، وزيادة معدلات الاحتباس الحراري الذي أدى إلى ظواهر مناخية متطرفة وشديدة تضرب أنحاء العالم وليس منطقة بعينها، وتم الإعلان عن حدث ارتفاع درجة حرارة المحيط في بيان صادر عن الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) في 8 يونيو 2023. وأعلن خبراء الأرصاد عن أن ظروف النينو موجودة، وإذا استمرت حتى شهر أكتوبر فسيتم تأكيدها كحدث من أحداث “ظاهرة النينو” فما هي وما تأثيراتها على العالم؟.
أرقام قياسية لدرجات الحرارة
سجل متوسط درجة حرارة الأرض أرقامًا قياسية غير مسبوقة لأكثر من يوم خلال شهر يوليو 2023، حتى وصفه العلماء بأنه الشهر الأكثر سخونة على الأرض منذ ما يزيد على 100 عام، وتعدت درجات الحرارة فيه الموجة التي حدثت عام 2016، حتى أصبح العام 2023 الأكثر سخونة.
عانت دول كثيرة من تسجيل درجات حرارة أعلى من المعدلات الطبيعية، مما أدى إلى رفع حالة الاستعداد القصوى لمواجهة هذه الموجات، وتسببت في اندلاع حرائق متوسطة إلى شديدة، بالإضافة إلى تأثيراتها الأخرى على مستوى الرطوبة، وارتفاع مستوى سطح البحر، والجفاف، والفيضانات، وفشل المحاصيل، وغيرها من التأثيرات السلبية التي حذر منها الفريق الدولي المعني بتغير المناخ التابع للأمم المتحدة في الأسبوع الثاني والثالث من شهر يوليو، وربما امتدادها حتى آخر سبتمبر القادم.
وعن درجات الحرارة المسجلة، فقد وصلت درجات الحرارة في اليونان 43 درجة مئوية، وفي إسبانيا تجاوزت 39.5 درجة مئوية، وفي فرنسا وصلت في بعض المناطق 40 درجة مئوية وسط تحذيرات واستعدادات لحدوث حرائق في عدة مناطق من الساحل الجنوبي. أما الولايات المتحدة فقد سجلت مناطق عديدة درجات حرارة تخطت 43 درجة مئوية وأكثر، ولفترات أطول من المعتاد تعدت 18 يومًا متتاليًا، مما أدى إلى إنهاك الأنظمة الصحية وتعرض حوالي 1.6 مليون نسمة لخطر الإعياء بسبب درجات الحرارة. كما تم تصنيف منطقة البحر الأبيض المتوسط على أنها “بقعة ساخنة”، عانت معظم دولها من موجات الحرارة التي تعدت فيها درجات الحرارة 40 درجة مئوية، والقارة الأوروبية التي لم تنخفض فيها درجات الحرارة عن 37 درجة طوال شهر يوليو، وقد سجلت الصين أيضًا أعلى درجة حرارة بلغت 43.3 في “جينغشينغ”. أما طقس القارة السمراء فلم تقل درجات الحرارة فيها عن 39.6 درجة مئوية حتى أثناء الليل، الأمر الذي جعل الوضع أكثر سوءًا. فقد لاحظ علماء المناخ أن درجات الحرارة سجلت حوالي 1.8 درجة فهرنهايت (1 درجة مئوية) أكثر دفئًا من متوسط عام (1979 – 2000)، وهو أكثر دفئًا من متوسطات القرنين العشرين والتاسع عشر.
ويقول العلماء إن الحرارة مدفوعة بعاملين: الاحترار على المدى الطويل نتيجة انبعاثات الغازات الدفيئة من حرق الوقود الأحفوري، ومؤشر حدوث ظاهرة النينو الطبيعية في المحيط الهادئ التي تغير الطقس على مستوى العالم وتجعل درجة حرارة كثير من مناطق العالم أكثر سخونة من المعتاد، وتؤثر على الأنظمة البيئية.
ما هي ظاهرة النينو؟
يُصبح المحيط الهادئ الاستوائي أكثر دفئًا بمقدار 3 درجات مئوية عن المعتاد وهو ما يعرف بظاهرة (النينو) أو أكثر برودة فتسمى ظاهرة (النينيا)، مما يؤدي إلى سلسلة من التأثيرات التي يشعر بها العالم أجمع. وتسمى هذه الدورة El Niño Southern Oscillation (ENSO) .
ظاهرة “النينو” هي ظاهرة مناخية دورية تحدث بشكل طبيعي ولكن غير منتظم، وتؤثر على مناطق مختلفة حول العالم بسبب الاحترار غير العادي في درجة حرارة سطح البحر في شرق المحيط الهادئ كل سنتين إلى سبع سنوات. وأظهرت الأبحاث الحديثة أنه من المرجح أن تصبح آثاره بشكل أقوى وأكثر تكرارًا مع استمرار ارتفاع درجة حرارة الكوكب، وسترتفع درجات حرارة سطح الأرض بنحو 0.1 درجة مئوية خلال السنوات التي تحدث فيها هذه الظاهرة، والتي قد تمتد من بضعة شهور حتى سنتين، حيث حذر بعض العلماء من أن متوسط درجات الحرارة العالمية قد يتعدى حد 1.5 درجة مئوية.
يمتد المحيط الهادئ على مسافة تزيد على 13000 كم من الحافة الشرقية على ساحل أمريكا الجنوبية إلى أطرافه الغربية بالقرب من إندونيسيا. تؤثر ظاهرة النينو على درجات حرارة المحيط، وسرعة وقوة التيارات البحرية، وصحة مصايد الأسماك الساحلية والحياة البحرية، والطقس المحلي في المنطقة. علاوة على ارتفاع درجة حرارة سطح البحر الذي زاد بالفعل بمعدل 0.1 درجة مئوية أعلى من المعدلات السابقة.
يوضح الشكل التالي تأثير ظاهرة النينو على درجات حرارة الأرض خلال الفترة 1950 – 2020
كيف تؤثر ظاهرة النينو على العالم؟
كانت هناك أحداث لظاهرة النينو في الفترات السابقة (1972-1973، 1982-1983، 1997-1998، 2015-2016) وجلبت الأخيرة درجات حرارة عالمية قياسية إلى جانب الجفاف والفيضانات وحرائق الغابات. ويتوقع العلماء وفقًا لغالبية النماذج المناخية أن ظاهرة النينو 2023 ستكون الأشد خطورة من السابقة لعام 2016. ويمكن أن ترتفع درجات حرارة سطح البحر عبر المحيط الهادئ بمقدار 1-3 درجات فهرنهايت أو أكثر، ويمكن أن تستمر الظروف الأكثر دفئًا حتى أكثر من عامين.
يقترن الدفء غير المعتاد بتباطؤ الرياح التجارية الشرقية، فضلًا عن زيادة هطول الأمطار وانخفاض ضغط الهواء السطحي في وسط المحيط الهادئ الاستوائي. وتؤثر هذه الاضطرابات في حركات الهواء العادية في المناطق المدارية على التيارات النفاثة في منتصف خطوط العرض، وهي الطريقة التي يمكن أن تؤثر بها ظاهرة النينو على الطقس في جميع أنحاء العالم.
على حسب تفسيرات علماء المناخ لتأثيرات ظاهرة النينو؛ قد تكون المناطق في شمال الولايات المتحدة وكندا أكثر جفافًا ودفئًا من المعتاد. لكن في ساحل الخليج وجنوب شرق الولايات المتحدة تكون هذه الفترات أكثر رطوبة من المعتاد، وتزيد من الفيضانات، وتزيد في بعض أجزاء أمريكا الوسطى والجنوبية من هطول الأمطار، وتتحمل أستراليا كذلك موجات من الحرارة الشديدة والجفاف وحرائق الغابات، حيث ارتفعت درجة حرارتها الآن بمقدار 1.4 درجة مئوية عما كانت عليه في أوائل القرن العشرين.
وربما القرن الأفريقي أيضًا سيعاني مزيدًا من الجفاف واختلالًا في هطول الأمطار كالتي شهدها خلال الأحداث السابقة. وفي مناطق أخرى من أفريقيا، تتسبب ظاهرة النينو في حدوث فيضانات وانهيارات أرضية وازدياد تواتر الأمراض التي تدمر الماشية والمحاصيل. كما يُتوقع الجفاف في جميع أنحاء إندونيسيا وجنوب شرق آسيا وشمال أستراليا وأمطار في جنوب شرق الصين. أما في المملكة المتحدة فتميل فصول الصيف في ظاهرة النينو إلى أن تكون أكثر سخونة وجفافًا.
قد تؤدي ظاهرة النينو هذا العام إلى خسائر اقتصادية عالمية قدرها 3 تريليونات دولار، وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة Science، مما يؤدي إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي، لأن الطقس القاسي يقضي على الإنتاج الزراعي والتصنيع ويؤثر على الأنظمة الصحية والنظم البيئية.
وأخيرًا، وفقًا لتوقعات العلماء وبرامج نمذجة المناخ، ستشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودول مجلس التعاون الخليجي تغيرًا في أنماط الطقس، وأن اشتداد ظروف ظاهرة النينو قد يؤدي إلى هطول أمطار غزيرة ومتكررة على دول الخليج خلال فصل الشتاء المقبل. وستشهد دول حوض النيل بما في ذلك مصر المزيد من حالات الجفاف خلال سنوات النينو، وتؤدي الزيادة في درجة حرارة الهواء والرطوبة إلى زيادة معدلات البخر في نهر النيل ونقص المياه. بالإضافة إلى زيادة مؤشرات الراحة الحرارية للإنسان، مما يشكل مخاطر صحية عالية. وهو ما يفرض ضرورة الإسراع في الالتزام بإجراءات الحد من تغير المناخ وخفض الانبعاثات الكربونية.