شهد العقد الماضي تناميًا ملحوظًا لدور القطاع الخاص في تقديم الخدمات التعليمية في معظم دول العالم، حيث أدت الصعوبات المتزايدة التي تواجهها الحكومات لتوفير الموارد اللازمة إلى تقديم تعليم جيد ومنصف وشامل بسبب تزايد الطلب على التعليم إلى توجه أولياء الأمور نحو المدارس الخاصة من أجل ضمان حصول أبنائهم على خدمة تعليمية أفضل من تلك التي تقدمها المدارس الحكومية العامة. ولا يقتصر دور القطاع الخاص على بناء وتشغيل المدارس الخاصة فقط، وإنما يمتد لمراكز التعليم التكميلي وتوفير المواد التعليمية المطبوعة والمنصات الرقمية التي تعين الطلاب على التعلم. وقد أدى عدم وضوح مفهوم التعليم الخاص في بعض الدول، ومن بينها مصر، إلى تداخل واضح في توزيع مسئولية تقديم الخدمات التعليمية الخاصة بين وزارة التربية والتعليم والمستثمرين.
الاعتماد على التعليم الخاص عالميًا
وفقًا لبرنامج التقييم الدولي للطلاب (PISA)، فإن المدارس الخاصة هي تلك التي تدار بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل منظمة غير حكومية. وهناك نوعان من المدارس الخاصة: الأول يتمثل في مدارس خاصة مستقلة بشكل كامل عن الحكومة، وتعتمد في تمويلها على المصروفات الدراسية للطلاب والمساهمات الخاصة الأخرى. والثاني يتمثل في مدارس خاصة مدعومة من قبل الحكومة، حيث يديرها القطاع الخاص، ولكنها تتلقى أكثر من نصف تمويلها من مصادر حكومية. وتوضح نتائج التقييم الدولي للطلاب (PISA) الذي أُجري في 2018 وشاركت فيه 68 دولة حول العالم أن 18% من طلاب التعليم الأساسي في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ملتحقون بمدارس خاصة، وهي نسبة لا تبتعد كثيرًا عن المتوسط العالمي، حيث يشير التقرير العالمي لرصد التعليم الصادر عن اليونسكو في 2022 إلى أن مدارس التعليم الخاص تخدم حوالي 17% من تلاميذ مرحلة التعليم الأساسي و26% من طلاب المرحلة الثانوية.
واستنادًا لنتائج التقييم الدولي PISA، فإنّ أحد الأسباب الرئيسية لارتفاع نسبة المدارس الخاصة في دولةٍ ما يتمثل في الدعم المالي الذي تُقدمه الجهات الحكومية لتشغيل تلك النوعية من المدارس. ففي المملكة المتحدة -على سبيل المثال- تبلغ نسبة المدارس الخاصة 66% من إجمالي عدد المدارس، إلا أن 6.2% فقط لا تتلقى دعمًا حكوميًا. نفس الأمر ينطبق على هولندا التي تبلغ نسبة المدارس الخاصة غير المدعومة حكوميًا فيها 0.1% فقط من إجمالي 63.5% مدارس خاصة. وبدون توجيه دعم حكومي للمدارس الخاصة، فإن المتوسط العام لالتحاق الطلاب بمدارس خاصة في الدول التي شاركت في التقييم الدولي PISA عام 2018 يقل عن 10%، وتجاوز 30% في ثلاث دول فقط، هي قطر والإمارات العربية المتحدة واليابان.
جدول (1) الدول الأعلى من حيث مساهمة المدارس الخاصة في النظام التعليمي
الدولة | نسبة التحاق الطلاب بالمدارس الخاصة “إجمالي” | نسبة التحاق الطلاب بالمدارس الخاصة المدعومة حكوميًا | نسبة التحاق الطلاب بالمدارس الخاصة المستقلة |
ماكاو “الصين” | 94.3% | 85.3% | 9.0% |
هونج كونج “الصين” | 91.4% | 91.1% | 0.3% |
المملكة المتحدة | 66.0% | 59.8% | 6.2% |
تشيلي | 66.0% | 56.2% | 9.8% |
هولندا | 63.5% | 63.4% | 0.1% |
الإمارات العربية المتحدة | 62.0% | 23.8% | 38.2% |
لبنان | 51.6% | 31.2% | 20.4% |
إندونيسيا | 46.5% | 30.0% | 16.5% |
مالطا | 45.1% | 31.4% | 13.7% |
قطر | 42.7% | 1.5% | 41.2% |
أستراليا | 42.4% | 28.2% | 14.2% |
كوريا الجنوبية | 39.4% | 35.5% | 3.9% |
اليابان | 33.7% | 3.6% | 30.1% |
إسبانيا | 32.3% | 27.0% | 5.3% |
الأرجنتين | 31.6% | 24.8% | 6.8% |
المصدر: الجدول من إعداد الباحث استنادًا لنتائج التقييم الدولي (PISA) 2018، سياسات فعالة، مدارس ناجحة، الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، 2020.
من الجدول السابق، يتضح أن الغالبية العظمى من الدول صاحبة النسب الأكبر في التحاق طلابها بالمدارس الخاصة تقدم دعمًا يزيد على 50% من التمويل اللازم لتشغيل غالبية المدارس الخاصة، وقد يكون السبب في ذلك هو رغبة حكومات تلك الدول في ضمان التزام تلك المدارس باللوائح الحكومية بما في ذلك تدريس المناهج الوطنية واتباع نفس نظام التقييم الوطني، وتقييد قدرة إدارة تلك المدارس على فرض رسوم إضافية على الطلاب أو اتباع سياسة انتقائية عند قبولهم للدراسة فيها.
المدارس الخاصة في مصر: ارتفاع الطلب والحاجة لإعادة التقييم
تطور عدد المدارس الخاصة في مصر وعدد الطلاب الملتحقين بها في جميع المراحل التعليمية بمعدلات ثابتة تقريبًا خلال السنوات الخمس الأخيرة، حيث ارتفع عدد فصول التعليم الخاص من 70 ألفًا في 2019 إلى 82 ألفًا فصل خلال العام الدراسي الحالي، تمثل أكثر من 16% من إجمالي الفصول المدرسية في مصر. كما زاد عدد الطلاب في المدارس الخاصة بحوالي نصف مليون طالب خلال نفس الفترة ليبلغ العدد الإجمالي للطلاب الملتحقين بمدارس خاصة وفقًا لكتاب الإحصاء السنوي لوزارة التربية والتعليم 2.8 مليون طالب في كل مراحل التعليم قبل الجامعي بما في ذلك رياض الأطفال، ليضم التعليم الخاص بذلك 11% تقريبًا من إجمالي الطلاب في مصر.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الزيادة الملحوظة في الطلب على المدارس الخاصة بين عامي 2019 و2023، والتي بلغت نصف مليون طالب تقريبًا، قد ترجع إلى ضعف الثقة في المدارس الحكومية، ورغبة أولياء الأمور في حصول أطفالهم على فرص تعليمية أفضل حتى وإن اضطروا إلى تحمل أعباء مادية إضافية؛ فالمدارس الخاصة، وفقًا لما ورد في تقرير البنك الدولي بعنوان “مراجعة الإنفاق العام في مصر لقطاعات التنمية البشرية“، تقدم تعليمًا يتمتع بجودة أعلى من نظيره في المدارس الحكومية، ويرجع ذلك إلى عاملين رئيسين: الأول هو العجز الكبير في أعداد المعلمين، والذي أدى إلى زيادة نصيب كل معلم من التلاميذ. والثاني يتمثل في ارتفاع كثافات الفصول بشكل ملحوظ بما يقلل من فرص التحصيل الدراسي والتعلم.
ويوضح كتاب الإحصاء السنوي لوزارة التربية والتعليم الفارق بين المدارس الخاصة ونظيرتها الحكومية في هاتين النقطتين؛ فنجد أن المدارس الخاصة تولي التعليم الأساسي، خاصة في مرحلتيه الابتدائية والإعدادية اهتمامًا أكبر، فتقل الكثافة كثيرًا داخل فصول المرحلة الابتدائية لتصل إلى 31 تلميذًا، في حين تبلغ 54 تلميذًا في فصول الابتدائي الحكومية؛ وتنخفض إلى 29 تلميذًا في فصول المرحلة الإعدادية، في حين تصل إلى 51 تلميذًا للفصل في فصول نفس المرحلة في المدارس الحكومية؛ أما في فصول الثانوي العام، فتصل كثافة الفصل الخاص 33 طالبًا، و44 طالبًا في الفصل الحكومي؛ الأمر الذي يمنح طلاب المدارس الخاصة في كل المراحل التعليمية فرصًا أفضل للنمو والتعلم.
مقارنة المدارس الحكومية والخاصة
المؤشرات المرحلة | متوسط الكثافة في الفصل | متوسط نصيب المعلم من التلاميذ | ||
حكومي | خاص | حكومي | خاص | |
ابتدائي | 54 | 31 | 35 | 20 |
إعدادي | 51 | 29 | 26 | 19 |
ثانوي “عام” | 44 | 33 | 20 | 36 |
المصدر: الجدول من إعداد الباحث استنادًا إلى بيانات وزارة التربية والتعليم، كتاب الإحصاء السنوي.
وفيما يتعلق بنصيب المعلم من التلاميذ، فإن الوضع في المدارس الخاصة يتسم بالمنطقية على عكس المدارس الحكومية؛ فمتوسط نصيب المعلم في التعليم الأساسي لا يتجاوز 20 تلميذًا، في حين يرتفع إلى 36 طالبًا لكل معلم في المرحلة الثانوية. أما في المدارس الحكومية، فالوضع معكوس، حيث يبلغ نصيب المعلم في المرحلة الابتدائية 35 تلميذًا، ويقل إلى 26 تلميذًا في المرحلة الإعدادية، ثم يقل إلى أدنى مستوى في المرحلة الثانوية إلى 20 طالبًا، وهو ما يشير إلى وجود خلل في إدارة الموارد البشرية في المدارس الحكومية يتطلب تدخلًا عاجلًا لمعالجته.
جدير بالذكر أيضًا أنه على الرغم من ارتفاع الطلب على المدارس الخاصة، إلا أن هذا الطلب لا يقابَل بزيادة في العرض بنفس القدر، وهو ما فتح المجال أمام المدارس الخاصة لفرض ضوابط تسمح لها بممارسة الانتقائية مثل إجراء مقابلة شخصية للطفل أو ولي الأمر أو كليهما، وتحصيل مبالغ مالية نظير أداء الطفل اختبارات القبول والمقابلة الشخصية. يضاف إلى ذلك أن المدارس قد تضع الأطفال على قوائم الانتظار بعد اجتيازهم اختبارات القبول والمقابلة الشخصية، ويدفعون أولياء الأمور للحصول على تأشيرة من وزير التربية والتعليم لإلحاق أبنائهم بهذه المدارس “فوق الكثافة”، أو الانتظار حتى يكتمل العدد المطلوب لفتح فصل جديد مع تحمل تكاليف تجهيزه.
مما سبق، يتضح أنه على الرغم من الزيادة المتدرجة في أعداد فصول التعليم الخاص سنويًا، إلا أن الرغبة المجتمعية في خدمة تعليمية أفضل من تلك المقدمة في المدارس الحكومية وضعت مزيدًا من الضغوط على التعليم الخاص، وسمحت لإدارات المدارس الخاصة وملاكها بفرض شروطهم لقبول الأطفال أو رفضهم؛ الأمر الذي أدى إلى التدخلات الحكومية التي تتنافى مع مجانية التعليم، والتي تمثلت في تقديم خدمة تعليمية بمصروفات من خلال مدارس التجريبيات أو المدارس الرسمية للغات (3243 مدرسة)، ومدارس النيل (14 مدرسة)، والمدارس اليابانية (51 مدرسة)، والمدارس الرسمية الدولية (20 مدرسة). علاوةً على ذلك، فإن بحث وزارة التربية والتعليم عن بدائل للوفاء باحتياجات المجتمع من التعليم الخاص، في ظل ضعف رغبة المستثمرين في الدخول إلى قطاع التعليم، امتد ليشمل مشروع الشراكة مع القطاع الخاص لبناء وتشغيل ألف مدرسة، إلا أن هذا المشروع لم يحقق النتائج المرجوة منه حتى الآن، ما يعني أن هناك حاجة لإعادة تقييم التدخلات الحكومية في الاستثمار في قطاع التعليم بوجه عام، ومشروع الشراكة مع القطاع الخاص على وجه التحديد.
إعادة تقييم التدخلات الحكومية ومشروع الشراكة مع القطاع الخاص
بدأت وزارة التربية والتعليم في 2016 مشروع الشراكة مع القطاع الخاص لإنشاء ألف مدرسة على غرار المدارس الرسمية للغات من خلال المشاركة بنظام حق الانتفاع لمدة 30 عامًا، مع إمكانية أن تزيد عشر سنوات أخرى. وتضمنت الشراكة المعلنة قيام وزارة التربية والتعليم بتوفير قطع الأراضي ومنحها للمستثمر بنظام حق الانتفاع، كما تقوم بتسهيل الحصول على تراخيص بناء المدارس وتشغيلها تحت متابعة الوزارة شأنها شأن المدارس الخاصة شرط أن يلتزم المستثمرون بالمصروفات الدراسية التي يتم الاتفاق عليها بين الطرفين؛ إلا أن المشروع لم يحقق الهدف المنشود بسبب ندرة الأراضي اللازمة لإنشاء تلك المدارس، حيث تم تشغيل 13 مدرسة فقط حتى العام الماضي؛ الأمر الذي يفرض إعادة تقييم المشروع وتحديث آليات تنفيذه.
ويمكن أن تتمثل أولى خطوات إعادة التقييم في تخلي وزارة التربية والتعليم عن التصنيف الذي تتبعه للتمييز بين المدارس الحكومية والخاصة، والذي يعتمد على التبعية الإدارية فقط، وإضافة معيار مصدر تمويل المدارس ونسبته من إجمالي التمويل، الأمر الذي سيسمح بإعادة تصنيف كل من مدارس النيل والمدارس اليابانية والمدارس الرسمية الدولية والمدارس الرسمية للغات ومدارس التكنولوجيا التطبيقية لتصبح مدارس خاصة سواء مستقلة أو مدعومة حكوميًا، ثم طرحها جميعًا للشراكة مع القطاع الخاص إعمالًا لما جاء في وثيقة “سياسة ملكية الدولة” التي تنص على السماح بمشاركة القطاع الخاص، واستغلال عوائد تلك الشراكة للتوسع في هذه النوعية من المدارس.
على ذلك، يمكن أن تتخذ مشاركة القطاع الخاص شكلًا مختلفًا عما هو قائم يتمثل في إشراك القطاع الخاص في مشروعات قائمة بالفعل، بما يحفزه مستقبلًا أن يتحمل مسئولية إنشاء وتشغيل المدارس بشكل كامل شرط الالتزام بحد أقصى للمصروفات لا يتجاوز القيمة المقررة من قبل الوزارة مع تعديل هامش الربح للمستثمر من 15% إلى 20% وتغطية الفارق –إن وُجد- بتقديم تسهيلات ضريبية خلال السنوات الخمس الأولى للتشغيل.
شكل آخر للشراكة مع القطاع الخاص في التعليم قبل الجامعي قد يتمثل في تقديم الحكومة –وفق ضوابط محددة سلفًا- دعمًا ماليًا مباشرًا للمدارس الخاصة يكافئ نصيب الطالب من الإنفاق الحكومي على التعليم العام، شرط أن تلتزم مدارس الشراكة بالمعايير والضوابط التي تحددها الوزارة، مع أحقيتها في تقديم منح دراسية مشروطة للطلاب المتفوقين دراسيًا سواء كانت ممولة كليًا أو جزئيًا للدراسة في تلك المدارس بما يمثل أحد الحوافز لزيادة الإقبال عليها من قبل أولياء الأمور وضمان استمراريتها مستقبلًا.
في الأخير، يمكن القول إن تحسين الخدمة التعليمية في ظل ضعف قدرة حكومات الدول على الوفاء بالتزامها بتقديم تعليم جيد وشامل ومنصف بسبب قلة مواردها وزيادة الطلب المجتمعي على التعليم الخاص يستوجب دورًا أكبر للقطاع الخاص في التعليم وإعادة توزيع مسئوليات إنشاء وتشغيل المدارس التي تقدم الخدمة بمصروفات ليتحمل المستثمرون تلك المسئولية، وتقديم الحوافز اللازمة لذلك مع اكتفاء الجهات الحكومية بممارسة دور الشريك الداعم والمراقب على الأداء وفق ضوابط قانونية يناقشها ويوافق عليها مجلس النواب كتعديل على قانون التعليم الحالي.
رئيس وحدة دراسات القضايا الاجتماعية