دخلت النيجر إلى قائمة الدول المعرضة لتنامى الصراعات، بأنواعها المختلفة التى تشهدها المنطقة، المزدحمة بإشكاليات الإثنية والعرقيات, فضلا عن الإرهاب المسلح، الذى وضع منطقة الساحل الإفريقى منذ إزاحة سيطرة «داعش» فى سوريا والعراق على رأس قائمة مناطق الخطر بالعالم. فالنيجر تواجه مجموعة متشابكة من التحديات الأمنية، فى الغرب تواجه صراعا ضاريا يدور منذ 3 أعوام بين «تنظيم الدولة الإسلامية فى الساحل»، الذى يدين بالولاء لداعش، و«جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة للقاعدة». فى حين أن منطقة ديفا الجنوبية الشرقية تتأثر بتمرد لا يقل خطورة، فى الوقت الذى لم تغب فيه تهديدات «بوكو حرام» .
شبكات الجريمة المنظمة العابرة للحدود؛ تعتبر النيجر ومحيطها بيئتها المثالية التى يمكن عبرها مد جسور نشاطها بين خمس دول متجاورة على الأقل. لكن فيما يخص النيجر تظهر تلك المهددات بشكل بارز فى منطقة «تاهوا» الوسطى، وفى «مارادى» على طول الحدود الجنوبية مع نيجيريا، ففيهما تنشط عصابات قطاع الطرق المنظمة بشكل كبير. كما تتعرض لأنماط متشابهة منطقة «أغاديز» الغنية بالذهب،مما رسم مجموعة من طرق التهريب تمتد على طول حدود النيجر مع كل من ليبيا والجزائر وتشاد.هذه المسارات اجتذبت عددا كبيرا من الجماعات المسلحة بنوعيها «الانفصالية» و«الإرهابية». المثير أنه رغم كل هذه التحديات؛جاء أداء النيجر خلال الأعوام الماضية من الناحية الإحصائية أفضل من جيرانها، من حيث أدوات العنف وتداعيات هذه الصراعات.لذلك لم يكن منصفا أو دقيقا استشهاد المجلس العسكرى بـ«التدهور المستمر للوضع الأمنى» كمبرر أساسى لخطوة الاستيلاء على الحكم، فقد كانت سنتا 2019 و2020 فى عهد الرئيس السابق محمد يوسفو، مدمرة بشكل أكبر حيث تكبدت الدولة خسائر فادحة بسبب سلسلة من الهجمات التى نفذها داعش. يأتى ذلك بالمقارنة مع مالى وبوركينا فاسو اللتين سبقتا النيجر، على مقياس مستويات العنف.
وفقا لإحصاءات مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية؛ تتسارع أعمال العنف من الميليشيات الإرهابية فى منطقة الساحل بشكل أسرع من أى منطقة أخرى فى إفريقيا. فبعد ما يقرب من عقد من الصراعات المختلفة، تتصاعد مرة أخرى الأحداث العنيفة فى منطقة الساحل خاصة بوركينا فاسو ومالى وغرب النيجر، بزيادة 140% منذ 2020 ولا توجد مؤشرات على تراجعها.حيث يمثل عنف الجماعات الإرهابية المتشددة ضد المدنيين فى منطقة الساحل 60% من مجمل العنف فى قارة إفريقيا، ومن المتوقع أن يزداد خلال الأعوام المقبلة بأكثر من 40% على الأقل. تلك الممارسات تسببت فى نزوح أكثر من (2٫5 مليون) شخص ينتمون إلى البلدان الثلاثة وحدها، عن أماكن إقاماتهم الأصلية بالانتقال إلى مناطق أكثر أمنا داخل دولهم، أو الالتحاق بعرقية ينتمون لها فى بلدان مجاورة مثل حالتى «التبو» و«الطوارق». فقد سمحت قدرات التنقل المرن، والاستخبارات الفائقة للجماعات المسلحة باجتياح القواعد العسكرية الثابتة لجيوش تلك البلدان، مما أدى إلى سقوط مئات الضحايا بين القوات المسلحة وعناصر الأمن محدودى الإمكانيات العددية والتسليحية. فى تطور لافت؛ أعلن رئيس كوت ديفوار الحسن واتارا بعد اجتماع الخميس، أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا «إكواس» قررت بدء تدخلها العسكرى فى النيجر «فى أقرب وقت». كما كشف واتارا عن أن رؤساء الأركان لدول المجموعة، سيعقدون لقاءات أخرى لضبط التفاصيل، لكنهم فى أى الأحوال حصلوا على موافقة بدء العملية فى أقرب وقت ممكن، على أن يجرى نشر «القوة الاحتياطية» التابعة للمنظمة، بهدف وحيد هو إعادة رئيس النيجر المخلوع «محمد بازوم». من وجهة نظر المنظمة المنقسمة بين بلدانها على اعتماد مثل هذه الخطوة، أن «إكواس» تدخلت فى الماضى فى ليبيريا وسيراليون وجامبيا وغينيا بيساو عندما كان نظامها الدستورى مهددا، واليوم النيجر تعيش وضعا مماثلا يستوجب التدخل بعدما تعثر التحاور بين المنظمة وقادة العمل العسكرى الذى أزاح الرئيس بازوم. هذا تحرك يخشاه الكثيرون، وهو غير مماثل بالطبع لتدخلاتها السابقة، فعملية «النشر» غير محددة الملامح، وتطرح عديد الأسئلة عن قبول الغالبية من الشعب النيجرى لخطوة على هذا النحو.
الثابت أن الصراعات فى منطقة الساحل؛ مركبة ولا يمكن حصرها فى عامل واحد فقط. ولذلك فإن البيئة الأمنية المتدهورة تسلط الضوء على الحاجة إلى إعادة فحص وإعادة ضبط الإستراتيجية التى تعتمدها دول الساحل لقواتها العسكرية والأمنية لمواجهة هذا التهديد المتزايد، يتطلب ذلك فى جوهره الاعتراف بأن مالى وبوركينا فاسو والنيجر تواجه حركات تمرد محلية جنبا إلى جنب مع المهددات الإرهابية. بالتالى، فإن إعادة تأهيل وتشكيل قوات الأمن على وجه التحديد لمكافحة التمرد أمر بالغ الأهمية،بهدف البحث عن طريق الاستقرار فى منطقة الساحل. هذا ينطوى على العديد من التغييرات المهمة تتعلق بالقدرات العسكرية، وتطوير صياغة العقيدة وهيكل القوة، وكذلك إعادة تموضع الجيوش فى السياق الأوسع للعدالة وإنفاذ القانون. مما يستلزم إسناد العمل العسكرى، بإجراءات لتحسين الظروف المعيشية وتوفير العدالة وإنفاذ القانون، مما يفتح الباب أمام التفاعل مع المجتمعات المحلية وبناء علاقات إيجابية مازالت غائبة حتى الآن، رغم سنوات التحدى التى تشاركت فيها مع السلطات وتكبدتا سويا فاتورة باهظة من الخسائر.
معظم الآراء تصب فى اتجاه تراجع احتمالات التدخل العسكرى فى النيجر، إلا أن حالة السيولة الغالبة على المشهد تجعل الجزم بذلك صعبا، فالأحداث خلال الفترة المقبلة ضبابية بامتياز، فى ظل ما يبدو من ترحيب غربى لفكرة تدخل «إيكواس» عسكريا، فإفريقيا منذ الحرب الروسية الأوكرانية تشهد صراعا غير مباشر على النفوذ بين القوى الكبرى، لهذا يحتاج المشهد لحلول وطنية أكثر من أى شيء آخر.
نقلا عن الأهرام
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية