ساعدت التطورات المتلاحقة التي شهدها العالم على تطور واتساع دور مراكز الفكر والدراسات محليًا ودوليًا؛ فلم يقتصر الأمر على زيادة عددها، بل توسع نطاق عملها وتأثيرها بشكل كبير. تتجه بعض التحليلات إلى اعتبار أن النواة الأولى لذلك تمثلت في قيام الكولونيل “إدوارد هاوس”، مستشار الرئيس “وودرو ويلسون” خلال شتاء 1917-1918، بتجميع العلماء البارزين بسرية لاستكشاف خيارات سلام ما بعد الحرب، وقدمت هذه المجموعة المشورة للوفد الأمريكي المشارك في مؤتمر باريس للسلام، وفي عام 1921، انضم إليها مصرفيون ومحامون وأكاديميون بارزون في نيويورك لتشكيل مجلس العلاقات الخارجية.
ومع اتجاه القضايا نحو التشابك والمشكلات والأزمات نحو التعقد، تبلورت أهمية الدور الذي تقوم به مراكز الفكر والدراسات، وهو ما دفع أغلب التحليلات إلى اعتبار هذا الدور بمثابة إحدى صور دبلوماسية المسار الثاني Track 2، التي تعبر عن مسار للدبلوماسية غير الرسمية، التي تهدف إلى التفاعل والتأثير بعيدًا عن المؤسسات السياسية صاحبة الاختصاص والمسئولية؛ وهي المسألة التي تثير التساؤل حول محورية الدور الذي تقوم به مراكز الفكر والدراسات، وكذا النظر في فرص تبلور “دبلوماسية مراكز الفكر Think Tank Diplomacy”.
دبلوماسية المسار الثاني
في خضم الحديث عن الدور الموسع لمراكز الفكر والدراسات، تعتبر بعض التحليلات أن هذا الدور يأتي ضمن دبلوماسية المسار الثاني، التي يعود طرحها إلى سبعينيات القرن العشرين، في مقالة نشرتها مجلة “فورين بوليسي” بعنوان “Foreign Policy According to Freud” لِلدبلوماسي الأمريكي “جوزيف مونفيل”، التي اعتبرها مسارًا موازيًا لدبلوماسية المسار الأول التقليدي القائمة على المؤسسات الرسمية. ومن ثم، فهي تعتمد على الأكاديميين والزعماء الدينيين وكبار المسئولين المتقاعدين ومسئولي المنظمات غير الحكومية والمؤسسات غير الرسمية، وكذا مراكز الفكر والدراسات، في بناء الثقة ومد جسور التعاون.
يذهب جانب من التحليلات إلى أن تأثير جهود دبلوماسية المسار الثاني يستهدف إحداث أثر ضمني في دبلوماسية المسار الأول مِن خلال تبادل الأفكار والتفاعلات على مستوى المؤسسات والنخب والمجتمع والأفراد، وكذا المساهمة في دعم بيئة القرار الخارجي من خلال إقناع الرأي العام وتمهيد الطريق أمام إقناعه بالمواقف الدبلوماسية الرسمية لتحقيق المصالح المطلوبة.
ومع اتجاه دبلوماسية المسار الثاني صوب التوسع، قــام الأكاديميون والمنخرطــون فــي هــذه المبــادرات بالعمل على توســيع تعريــف “مونفيــل”، مع الاحتفاظ بالفكــرة الأساسية. يعرفه بيتــر جونــز، أســتاذ مشارك فــي كلية الدراسات العليا للشئون العامة والدولية بجامعــة أوتــاوا وزميل زائر في مؤسسة “أنينبيرج” بمعهد “هوفر”، كمــا يلــي: “بالرغــم مــن الغمــوض الــذي يحيــط بالمســار الثانــي، إنه ببســاطة طريقــة لجمــع أصحــاب النفــوذ مــن مختلــف أطــراف صــراع بعينه، بشــكل غيــر رســمي، لإجراء محادثـات عـن المسـائل العالقـة وطـرح أفـكار جديـدة بطريقـة تشـاركية حـول كيفيـة تحسـين إدارة ذلك الصراع أو حله”.
وبالنظر إلى التركيز على هذا البعد أو اعتباره أبرز صور دبلوماسية المسار الثاني، دار جدل حول مصطلح المسار الثاني، وظهرت مجموعة جديدة من المصطلحات ذات الصلة؛ مثل: “مسار الواحد ونصف”، و”المسار الثالث”، و”الحل التفاعلي للصراع”.
أدوار متعددة (تطور أدوار مراكز الفكر)
مراكز الفكر والدراسات هي مراكز بحوث متعددة التخصصات تهدف إلى تقديم مشورة الخبراء بشأن مجموعة متنوعة من التحديات وتأطير الحلول. إذ يتمثل الهدف الأساسي لمراكز الفكر والدراسات في تطوير أساليب مبتكرة وجديدة لمجموعة من القضايا المتعلقة بالأمن القومي، أو السياسة الخارجية، أو النمو الاقتصادي، أو التنمية الاجتماعية. وتعمل هذه المؤسسات الفكرية على تقديم منشورات وتقارير، وكذا اقتراح قوانين بشأن سياسة معينة أو قضايا مجتمعية.
اتجهت مراكز الفكر والدراسات إلى بلورة دورها في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية واندلاع الحرب الباردة، فقد تلقت العديد من هذه المؤسسات دعمًا مباشرًا من الحكومة الأمريكية، التي كرست موارد ضخمة لعلماء وباحثين في مجال الدفاع، وهو ما نجم عنه إطلاق مؤسسة “راند” RAND، بتمويل من القوات الجوية في عام 1948، التي قامت بدراسات رائدة ساهمت في تشكيل الطريقة التي يتم بها تحليل سياسة الدفاع والردع لعقود.
وعلى هذا النحو، فقد لعبت مراكز الفكر الدراسات دورًا مهمًا في تشكيل السياسة الخارجية للدول الكبرى منذ ستينيات القرن الماضي من خلال دعوتها للبحث وعقد حوارات غير رسمية بين الأطراف المختلفة. على سبيل المثال، أسهم مؤتمر “دارتموث”، المؤسس من جانب مؤسسة “كيترينج”، عام 1961، في إطلاق محادثات غير رسمية مع الاتحاد السوفيتي، حول القضايا الحاسمة لكلا الدولتين وللسلام العالمي؛ كقضايا نزع السلاح، والتجارة، والنزاعات الإقليمية، والتغير المناخي.
ومن ثم، تقوم مراكز الفكر والدراسات بعدد من الأدوار؛ أبرزها: توليد “تفكير جديد” بإمكانه تغيير المفاهيم، والتأثير على ترتيب الأولويات، ووضع خرائط طريق للعمل، وتعبئة التحالفات السياسية والبيروقراطية.. وغيرها. بالإضافة إلى إعداد كوادر من الخبراء وواضعي السياسات، وغالبًا ما يُشار إلى ذلك بظاهرة “الباب الدوار” حيث ينتقل الموظفون رفيعو المستوى من أدوار التفكير إلى الوظائف الحكومية والعكس صحيح. ناهيك عن دورها في إثراء الثقافة المدنية الأوسع من خلال تثقيف المواطنين حول طبيعة العالم الذي يعيشون فيه. علاوة على التدخل في حل وتسوية الصراعات والأزمات وحلحلة المواقف المتأزمة، فضلًا عن توفير منصات رفيعة المستوى لتبادل الرؤى والخبرات، وتقريب وجهات النظر، بما يتيح فهمًا أكثر شمولًا للقضايا.
على سبيل المثال، خلال فترة إعداد الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي، والتي تم إطلاقها عام 2016، نظمت مراكز الفكر ووزارات الخارجية الوطنية ندوات في جميع أنحاء أوروبا لتزويد “فيديريكا موغيريني”، الممثلة السامية للاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية والسياسة الأمنية في ذلك الحين، وفريقها، بخبرة إضافية حول مجالات مثل: حل النزاعات، والتعاون بين الاتحاد الأوروبي و”الناتو“، وحماية حقوق الإنسان وتغير المناخ.
نماذج متنوعة
تزخر الساحة الدولية بنماذج متعددة لأدوار متنامية لمراكز الفكر والدراسات، إذ إن المنعطفات التاريخية المهمة تطرح فرصًا استثنائية لضخ تفكير جديد للتعامل معها. وعلى هذا النحو، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، أطلق مجلس العلاقات الخارجيةCFR مشروع دراسات الحرب والسلام الهائل لاستكشاف الأسس المرغوبة لسلام ما بعد الحرب؛ وهو ما تمخض عنه 682 مذكرة لوزارة الخارجية الأمريكية حول مواضيع تتراوح من احتلال ألمانيا إلى إنشاء الأمم المتحدة.
ابتداءً من منتصف الثمانينيات، استضافت مؤسسة “كارنيجي” سلسلة من الاجتماعات في واشنطن، جمعت بين كبار السياسيين ورجال الدين ورجال الأعمال وممثلي العمال والأكاديميين وغيرها، بالإضافة إلى أعضاء الكونجرس ومسئولي الفرع التنفيذي. ساعدت هذه التجمعات، التي عقدت على مدى ثماني سنوات، في إقامة أول حوار وبناء تفاهم حول مستقبل جنوب إفريقيا خلال انتقال سياسي دقيق. وبالمثل، أطلق مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS مشاريع لتحسين العلاقات العرقية في يوغوسلافيا السابقة، ولجسر الانقسامات الدينية-العلمانية في إسرائيل، ولتيسير الحوار اليوناني التركي.
وفي السياق ذاته، فقد لعب حوار “نيمرانا”، المدعوم ماديًا إلى حد كبير من جانب الحكومة الأمريكية ومؤسسة “فورد”، دورًا مهمًا في تسهيل آليات بناء الثقة بين الهند وباكستان، ومناقشة القضايا الأمنية الخلافية (بما في ذلك كشمير والمسائل النووية)، وذلك منذ إطلاقه عام 1991. كما تعد مجموعة الأزمات الدولية من أولى الجهات التي لفتت إلى ضرورة اتخاذ إجراءات بشأن أزمة 2003-2004 في دارفور، والنزاع بين إثيوبيا وإريتريا عام 2007، فضلًا عن دورها في دعم ومناصرة مفهوم “المسئولية الحماية” ردًا على الفظائع التي حدثت في كينيا خلال عام 2008. بالإضافة إلى ذلك، فقد لعب مركز الحوار الإنساني دورًا في الأزمة الليبية، تحت رعاية البعثة الأممية إلى ليبيا، التي استعانت به لاستضافة حوارات الليبيين.
وفي سياق موازٍ، فقد لعبت الرابطة الصينية للتفاهم الدولي دورًا في تعزيز الصورة الإيجابية للصين، والعمل على إطلاق برنامج “المعرفة عن الصين” منذ عام 2011، لتشجيع المنظمات غير الحكومية ومراكز الفكر والمؤسسات الإعلامية من دول وسط وشرق أوروبا على زيارة الصين. هذا إلى جانب تدشينها “حوار التفاهم والتعاون” الذي يُعقد سنويًا منذ مايو 2012، حيث يشارك فيه مجموعة متنوعة من منظمات المجتمع المدني من آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا، ويتضمن مناقشات معمقة حول السياسة والاقتصاد والتنمية والثقافة. وبالتالي، تلعب الرابطة الصينية دورًا نشطًا كجهة فاعلة سياسيًا ودبلوماسيًا من خلال التواصل مع الجماهير الأجنبية المختلفة.
ومع تسارع وتيرة العولمة وتزايد حجم ونطاق التواصل بطريقة عززت من وجود القضايا المشتركة على الساحة الدولية، عملت بعض مراكز الفكر والدراسات على بلورة هذه القضايا وكيفية التعامل معها، ومن بينها مؤسسة “هوراسيس” Horasis السويسرية الملتزمة بالابتكار وتطوير الأسواق النامية المستدامة. يجمع اجتماع “هوراسيس” العالمي، قادة الشركات والمسئولين الحكوميين والباحثين والأكاديميين لمناقشة التحديات التي تؤثر على الأعمال التجارية والمجتمع والتنمية الاقتصادية، والابتكار، والهجرة، وعدم المساواة هي مواضيع مشتركة للنقاش. كما يركز معهد الأرض بجامعة كولومبيا على تحديد المشكلات المهمة التي تواجه العالم وسكانه، وتشمل أنشطته تقديم المشورة للدول وكذا الأمم المتحدة.
دبلوماسية مراكز الفكر
بالنظر إلى عدم وجود اتفاق حول تعريف مفهوم “دبلوماسية المسار الثاني”، نتيجة للاختلاف بشأن مجموعة من العوامل؛ أبرزها: عدم تطابق الرؤى حول شكل التحركات ومضمون الأنشطة التي يمكن أن تندرج تحت مسمى “دبلوماسية المسار الثاني”، وكذا الاختلافات حول تحديد الفاعلين الرئيسيين فيه، ناهيك عن بعض المحاولات التي تستهدف ربط هذا النمط بالنزاعات والصراعات، وهو الأمر الذي ارتبط به أيضًا التباين بشأن حدود الدور الذي تقوم به “دبلوماسية المسار الثاني” من عملية التفاوض الرسمي في هذه الحالات؛ استباقي أم موازٍ؟. تبرز أهمية التعامل مع دور مراكز الفكر والدراسات بشكل مستقل، وهو ما يستدعي بلورة مصطلح “دبلوماسية مراكز الفكر” Think Tank Diplomacy.
فمراكز الفكر والدراسات تقوم بدور مختلف عن دور المستشارين الذي يأتي ضمن “دبلوماسية المسار الثاني” خلال الأزمات وأوقات الصراعات؛ فعوضًا عن أن يقدم شخص واحد المشورة أو يحاول أن يقوم بدور فردي في تقريب وجهات النظر، توفر مراكز الفكر والدراسات فرقًا بحثية لتحليل موضوع ما من وجهات نظر مختلفة وأبعاد متعددة، وهو ما يسمح لها بطرح رؤية شاملة بإمكانها الإسهام في حلحلة الأزمات بشكل أكثر استدامة؛ الأمر الذي يعني أن الدور الخارجي لمراكز الفكر والدراسات يحمل سمات وطبيعة خاصة تميزه عن الأشكال المختلفة من “دبلوماسية المسار الثاني”.
وباعتبارها مساحة غير رسمية لتبادل الأفكار بين الدول، يمكن للمؤتمرات التي تنظمها مراكز الفكر أن تفرد مساحة يمكن لصناع القرار اختبار أفكارهم من خلالها. فعلى سبيل المثال، إذا أراد أحد القادة مشاركة أفكار حول الأمن الدولي، فمن المحتمل أن يكون مؤتمر “ميونيخ” للأمن السنوي أو حوار “شانغريلا” هو أفضل إطار للقيام بذلك. بل ذهبت بعض الرؤى إلى اقتراح تأسيس مراكز فكرية إقليمية مستقلة، لبحث قضايا وتحديات الإقليم، وتقديم خيارات سياسية وأمنية للحكومات، بما يسهم في تعزيز التعاون الإقليمي وإعلاء لغة الحوار بين الدول.
وفي الأخير، يتضح أن دور مراكز الأبحاث يعكس تأطيرًا متمايزًا عن الأشكال الأخرى المتعددة لــــ”دبلوماسية المسار الثاني”، بالاستناد إلى تقديم الكوادر البشرية في المجالات المختلفة، بالإضافة إلى تقديم آفاق رؤى أعمق وأكثر شمولًا، وهو الأمر الذي يعزز من قدرتها على تقديم أكبر عدد من البدائل المتاحة والمناسبة، علاوة على كون تحركاتها تتسم بالازدواجية ما بين التنظيم والمرونة في آن واحد، فضلًا عما تقدمه من منصات إقليمية ودولية بشأن القضايا والمشكلات ذات الاهتمام المشترك؛ وهو ما يعني أن دورها لا يتوقف عند حدود التعامل مع الصراعات والنزاعات، وإنما هو دور دائم ومتصل وممتد ومستمر، يتطلب بلورة مصطلح “دبلوماسية مراكز الأبحاث”.