تزايدت وتيرة العمليات الإرهابية التي تبناها تنظيم “داعش” في الساحة السورية منذ عام 2023، غير أن الهجوم الأعنف على الإطلاق الذي شهدته سوريا خلال هذا العام تمثل في العملية الأخيرة التي نفذها التنظيم في 10 أغسطس الجاري، حيث استهدف حافلة عسكرية تابعة لقوات الجيش السوري على طريق دير الزور – حمص، مما أسفر عن استشهاد 33 جنديًا وإصابة آخرين. ومن ثَمّ يمثل هذا التصعيد تطورًا لطبيعة نشاط التنظيم داخل الأراضي السورية، الأمر الذي يُثير جملة من الملاحظات الأساسية التي يمكن تناولها على النحو التالي:
الملاحظة الأولى: تُشير إلى ملامح النشاط الداعشي في سوريا، فعلى الرغم من تراجع عدد عمليات التنظيم هناك، حيث تبنى التنظيم حوالي (277) عملية خلال عام 2022، مقارنة بما يقرب من (366) عملية تبناها خلال عام 2021، في حين أنه تبنى (581) عملية خلال عام 2020؛ إلا أن هذا الانخفاض الملاحظ في عدد عملياته لا يوحي على الإطلاق بتراجع تهديده، إذ تلفت العديد من التقارير الصادرة عن مجلس الأمن إلى وجود انتشار للخلايا التابعة له في مختلف أنحاء سوريا، بما في ذلك الجنوب السوري، ولا سيما في درعا، مع احتفاظه بمخابئ غرب نهر الفرات.
وفي الوقت الحالي يعمل التنظيم في سوريا على مسارين متوازيين؛ المسار الأول، يتمثل في إعادة البناء والتجنيد من المخيمات الواقعة في شمال شرق سوريا. والمسار الثاني، يتجلى في اتباع استراتيجية “الانتقاء المؤثر” والتي تشير إلى تنفيذ هجمات تحقق له أكبر قدر من التأثير وفي الوقت ذاته تكبده قدرًا محدودًا من الخسائر.
الملاحظة الثانية: تنصرف إلى الأهمية الاستراتيجية لسوريا بالنسبة لتنظيم “داعش”، حيث تبرز أهميتها بالنسبة له في إطار جُملة من العوامل؛ يتعلق أولها برمزيتها، على خلفية كونها في مرحلة ما قبل الهزيمة الجغرافية له مقر الخلافة السابق، وبالتالي فقدرته على تنفيذ عمليات إرهابية موسعة داخلها يوحي باستمرار امتلاكه القدرة والسيطرة. وينصرف ثانيها إلى الموقع الجغرافي لسوريا واتصالها الحدودي بالعراق، حيث الدعم اللوجيستي والتمويل. ويتصل ثالثها باعتبارها ساحة حالية ومستقبلية للتجنيد، وذلك على خلفية عناصر التنظيم القابعة في السجون السورية والتي تتجاوز أعدادهم الآلاف، ويمتلك هؤلاء خبرات ميدانية وقتالية، فضلًا عن أبناء عناصر التنظيم المتواجدين في المعسكرات السورية وعلى رأسها مخيم “الهول”. وفي هذا السياق، حذر “مايكل كوريلا” (قائد القيادة المركزية الأمريكية)، في ديسمبر 2022، ممن أسماهم “الجيل القادم من داعش”، في إشارة إلى حوالي 25.000 طفل من أبناء الدواعش القاطنين في مخيم “الهول”، وهؤلاء معرضون لخطر التطرف الأيديولوجي.
الملاحظة الثالثة: تتجلى في الهدف من هذه العملية، إذ يسعى “داعش” إلى تحقيق هدفين رئيسيين؛ يتعلق أولهما بتعزيز شرعية زعيمه الجديد المكنى بــ”أبي حفص الهاشمي القرشي“، حيث أكد التنظيم على مقتل زعيمه السابق “أبي الحسين الهاشمي القرشي” في كلمة مسجلة بثها في 3 أغسطس الجاري بعنوان “فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به” وتعيين الأول زعيمًا جديدًا له، ومن ثم تأتي هذه العملية في إطار إكساب الزخم للقيادة الجديدة، والتأكيد على قدرتها في إعادة تموضع التنظيم وتصعيد نشاطه.
وينصرف ثانيهما إلى الثأر لمقتل قياداته في سوريا، فبين عامي 2022 و2023 قتل 3 من زعماء التنظيم في سوريا وهم: “أبو إبراهيم الهاشمي القرشي” (أكتوبر2022)، و”أبو الحسن القرشي” (نوفمبر2022)، و”أبو الحسين القرشي” (إبريل 2023). ناهيك عن مقتل العديد من قيادات التنظيم البارزة في سوريا أيضًا، منهم على سبيل الإشارة وليس الحصر: “ماهر العقال” (يوليو 2022)، “حمزة الحمصي” (فبراير 2023)، “جاسم سلمان الجبوري” (فبراير 2023)، “خالد الجبوري” (أبريل 2023)، “أسامة المهاجر” (يوليو 2023)
الملاحظة الرابعة: تشير إلى مرونة تنظيم “داعش”، إذ يتمتع الأخير بقدرة على الصمود والتكيف والاستمرار على الرغم من حجم الاستنزاف الذي تعرض له على أصعدة مختلفة، إذ فقد قيادات الصف الأول والثاني سواء عن طريق التصفية أو السجن، فضلًا عن انخفاض الاحتياطات المالية الخاصة به لتتراوح ما بين 25 و50 مليون دولار بعدما كانت تُقدر بنحو 100 مليون دولار في فبراير 2021. ناهيك عن هزيمته المكانية وتقلص جغرافيا عمله في معاقل نفوذه التقليدية، إلا أن التنظيم لا يزال يسعى إلى التأكيد على أن خلافته المزعومة “باقية” حتى ولو تم الحيلولة دون “تمددها”.
الملاحظة الخامسة: تنصرف إلى تراجع مكافحة الإرهاب من على رأس الأولويات الأمنية للدول، إذ أصبح المجتمع الدولي الآن أقل استعدادًا لمكافحة التنظيمات الإرهابية، في مقابل التركيز على تهديدات أمنية أخرى منها ما هو تقليدي وغير تقليدي، كالحرب الروسية الأوكرانية، وما ارتبط بها من أزمات الطاقة والغذاء، وكذلك التهديدات الصاعدة كالتغييرات المناخية والأوبئة، الأمر الذي ساهم في تراجع الجهود الدولية لمكافحة الظاهرة الإرهابية، وبالتالي انعكس هذا المشهد بشكل جلي على زيادة نشاط التنظيمات الإرهابية.
وتعد الحالة المثالية لهذا الطرح ممثلة في انسحاب فرنسا وشركائها (قوة برخان الفرنسية وتاكوبا الأوروبية) بشكل كامل من مالي في أغسطس عام 2022، ويأتي هذا الانسحاب بالتوازي مع عجز الجيوش الوطنية عن التصدي لنشاط التنظيمات الإرهابية هناك، مما تسبب في حالة من الفراغ الأمني أتاحت الفرصة لتعزيز نفوذ التنظيمات الإرهابية وتصعيد نشاطها.
مجمل القول، يُشير استمرار نشاط تنظيم “داعش” في سوريا وغيرها من الساحات المختلفة على الرغم من الضربات الأمنية المتلاحقة التي تعرض لها، إلى أن الأخير هزم كدولة خلافة مزعومة، ولكنه باقٍ كتنظيم إرهابي قادر على تهديد السلم والأمن الدولي والإقليمي، الأمر الذي يستدعي من المجتمع الدولي إعادة النظر في ترتيب أولوياته الأمنية مرة أخرى، لأن هناك خطرًا حقيقيًا مرتبطًا بإعادة اكتسابه نفوذه حال تخفيف الضغط الممارس عليه في إطار مكافحة الإرهاب، ولا سيما مع استمرار عدد كبير من المحفزات المرتبطة بصعوده.