يثار فى الآونة الحالية الحديث عن مزاحمة الاستثمارات العامة للقطاع الخاص مما يتطلب الحد منها واتخاذ المزيد من الإجراءات لانسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي. وفى هذا السياق أصدرت الحكومة المصرية وثيقة سياسة ملكية الدولة معلنة فيها عن خطتها فى هذا المجال، وحددت خريطة وجودها فى النشاط الاقتصادى وملكيتها للشركات العامة. وهنا يطرح العديد من التساؤلات أولها هل تجاوزت الاستثمارات العامة الحجم الأمثل لها؟ وماهى طبيعة العلاقة بين الاستثمارات العامة ومثيلتها الخاصة؟ وغيرهما من الأسئلة، وهو ما يتطلب تحديد المستويات المثلى للإنفاق العام الاستثماري، وقد انشغل البعض بحجمه، بصرف النظر عن فعاليته. ورغم ان الحكومات المترهلة ينبغى لها ألا تزاحم القطاع الخاص، ولكن هذا لا ينفى اهمية دور الدولة، وكما قال آرثر لويس ان الحكومات قد تخفق إما لأنها تفعل اقل مما ينبغي، او لأنها تفعل أكثر مما ينبغي، فالواجب هو تحسين فعاليتها وليس تجريدها من مهامها.وجدير بالذكر ان العديد من الدراسات اثبت ان زيادة الإنفاق العام الاستثمارى كنسبة من الناتج تؤدى الى تحسين البنية الأساسية لتسهيل الاستثمار الجاد والمنتج، وتؤدى الى ارتفاع نسبة العائد على رأس المال فضلا عن إنتاج سلع وخدمات لن يقوم القطاع الخاص بتوفيرها.ويرتبط الاستثمار العام بشكل موجب مع النمو الاقتصادي، خاصة الاستثمار فى قطاعات البنية التحتية، ومن أهمها قطاعات الاتصالات والكهرباء والنقل، فقد تبين تأثيرها الإيجابى على معدل النمو الاقتصادى من خلال دورها فى تخفيض تكلفة الانتاج التى تواجه القطاع الخاص. مع ملاحظة أن العائد على توجيه مزيد من الاستثمارات العامة فى الطرق أو الكهرباء يختلف من دولة لأخرى. فمثلا إذا كانت الدولة قد اهتمت سابقا بالاستثمار الكثيف فى شبكات الطرق، فقد تولد الاستثمارات الإضافية فى الطرق عائدا متناقصا، ومن ثم يصبح للاستثمار العام فى مجال آخر من البنية الأساسية – لم يصل بعد لمرحلة التشبع- عائد أكبر. وفى حالة القطاعات التى وصل فيها الاستثمار العام إلى حد التشبع كميا، ينبغى أن تلتفت الدولة إلى تحسين كفاءة هذا المرفق العام. وضمان أعلى عائد بالنسبة للنمو وتقليل الفقر وان هذا الاستثمار قابل للاستمرار. ولهذا فإن العمل على رفع كفاءة الاستثمارات العامة وتخفيض التكاليف يصبح ضرورة عن طريق دقة اختيار المشروعات ومراعاة الطاقة الاستيعابية للاقتصاد وحسن الإدارة والتقييم، مع الاهتمام بالصيانة بما يضمن كفاءة الاستثمار العام ويرفع الإنتاجية.
اما فيما يتعلق بالعلاقة بين الاستثمار العام والاستثمار الخاص فقد اثبت العديد من الدراسات التطبيقية ان هناك تباينا فى النتائج، من حيث كونها علاقة تنافس أم علاقة تكامل. ففى حالة التكامل يحفز الاستثمار العام فى البنية التحتية التكوين الرأسمالى الخاص من خلال رفع الإنتاجية الحدية لعوامل الإنتاج فى الاستثمارات الخاصة، والعمل على زيادة معدل العائد وزيادة الطلب على منتجات القطاع الخاص من خلال التعاقد من الباطن والتوريدات الحكومية، مما يؤثر بشكل إيجابى على الأرباح المستقبلية للقطاع الخاص. كما تقدم الاستثمارات العامة خدمات تكميلية للقطاع الخاص من خلال إزالة الاختناقات فى مجالات التعليم والاتصالات والنقل. حيث يؤدى وجود شبكة من الطرق إلى تخفيض التكاليف المرتبطة بإنشاء مصنع فى منطقة ما أو تيسير نقل مدخلات الإنتاج إلى موقع إنتاجى جديد، مما يؤثر على تكلفة وحدة الانتاج بالنسبة للمشروع الخاص.
ناهيك عن أن الاستثمار فى مجال التعليم والصحة يؤثر بشكل إيجابى على إنتاجية العامل كما يؤدى دورا محوريا فى المساهمة فى النمو الاقتصادي. مع تأكيد ضرورة مراعاة فعالية هذا الإنفاق، فنفس المقدار من الانفاق المالى قد يولد نتائج مختلفة لأنها لا تترجم بصورة ميكانيكية، فهناك عوامل اخرى تتدخل فى هذه المسألة، يأتى على رأسها طبيعة التطور الاقتصادى والاجتماعى فى المجتمع ككل.كما تشير الأدبيات إلى أن الاستثمارات فى البنية التحتية لها تأثير على مستوى معيشة الفقراء من خلال توفير الخدمات الأساسية مثل المياه الصالحة للشرب والصرف الصحى والمواصلات والاتصالات والكهرباء، وبالتالى تحسن المؤشرات التعليمية والصحية. كما أن الاستثمار العام فى قطاع الزراعة والمناطق الريفية يسهم بشكل كبير فى نمو القطاع الزراعى وخفض معدلات الفقر، ولذلك فان العمل على وصول ثمار النمو الى الفقراء والطبقات الوسطى يحتاج الى تصميم جيد للإنفاق العام عموما والاستثمارى على وجه الخصوص، وتحسين فرص الحصول على خدمات تعليمية وصحية عالية الجودة.
مع الأخذ بالحسبان انه لا توجد استراتيجية صالحة للجميع، فالسياسة الاستثمارية ينبغى ان تعبر عن ظروف كل دولة، بما فى ذلك الضغوط التى تتعرض لها الحكومة.
كما تشير الدراسات الى العديد من المتغيرات الأخرى الحاكمة والتى تؤثر على العلاقة بين الإنفاق العام والنمو الاقتصادي، مثل دور المؤسسات والحوكمة، حيث يشار إلى ضعف مستوى الحوكمة باعتباره السبب الرئيسى وراء عدم فاعلية الانفاق الاستثماري. وتؤدى كفاءة الحكومة دورا جوهريا فى العلاقة بين الإنفاق الحكومى والنمو الاقتصادي، وقد توصلت هذه الدراسات إلى نتيجة مفادها وجود مستوى حرج للكفاءة يستلزم الوصول له حتى يحدث الإنفاق العام تأثيره الموجب على النمو الاقتصادي. وكلما زادت الكفاءة عن هذا الحد الحرج، انخفض الحجم الأمثل للاستثمار الحكومى اللازم لتعظيم النمو. كما خلصت هذه الدراسات إلى أن الدول التى تقع تحت خط الأمثلية ينبغى عليها أن ترفع من مستوى إنفاقها مع تحسين كفاءة هذا الإنفاق.
وهكذا فان الإنفاق العام الاستثمارى يعد إحدى الأدوات الأساسية للسياسة، نظرا لما يحدثه من آثار على الطلب الفعلى ومستويات التشغيل والدخل القومي. ويتمثل التحدى الذى يواجه فى ضمان مستوى للإنفاق يتسق مع الاستقرار الكلى. وإن الأهداف الرئيسية للإنفاق العام يجب ان تهدف بالإضافة إلى تعزيز النمو الاقتصادي، وتشجيع استخدام الموارد بكفاءة وفعالية.