افتتاحية
من الضروري للتعرف على مفهوم “توازن القوى” معرفة أن مولده بدأ مع التعرف أولًا على مفهوم “القوة” أو Power من حيث إنه مفهوم شامل يحتوي على عناصر متعددة للتأثير في أطراف أخرى وتغيير توجهاتها، وهو الذي يمثل في النهاية جوهر “السياسة” وتفاعلاتها في الداخل والخارج. وفي اللغة العربية فإن المفهوم كثيرًا ما يختلط مع القوة العسكرية والقدرة على الإيذاء والقتل Force؛ ولكن ذلك هو عنصر واحد من عناصر ما سبق التي تشمل القدرات الخشنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتلك الناعمة المستمدة من القدرة على تقديم النموذج والإغراء، وخلق حالة من الأتباع من الأطراف المراد التأثير فيها، مجتمعات كانت أو دولًا. ومؤخرًا أصبحت “القوة الذكية” تمثل بُعدًا آخر، ويشمل استخدام وسائل إلكترونية للحرب السيبرانية التي تهدد وتغري، وكذلك قدرات القيادات السياسية والزعماء الذين يديرون التفاعل مع الحلفاء والخصوم.
وثانيًا، فإن فهم “التوازن” يأتي عندما نتعرف على حدوث خلل فيه، تمامًا كما يجري التعرف على “الأمن” Security عندما يأتي من الخلل فيه Insecurity. ولعل جذور المفهوم هكذا جاءت قبل ٢٤٠٠ عام عندما نشبت الحرب بين “أثينا” و”إسبرطة”، قطبي السياسة العالمية آنذاك، والتي عرفت بحرب “البلوبونيز” وأرخ لها “ثيوسيددس” اليوناني الذي سجل في مقدمة كتابه عن الحرب أن سببها يعود إلى أن زيادة قوة Power قد دفعت إسبرطة إلى شن الحرب عليها. كان ذلك الخلل المتوقع في توازن القوى هو سبب الحرب التي انتهت إلى هزيمة أثينا.
وفي عام ٢٠٢٠ قام عالم السياسة الدولية جراهام أليسون في جامعة هارفارد بالعودة إلى هذه النظرية مسميًا إياها “فخ ثيوسيددس” مطبقًا إياه على الوضع الحالي للسياسة الدولية، متسائلًا عما إذا كان ارتفاع قوة الصين وقرب لحاقها بالولايات المتحدة الأمريكية يمكنه أن يؤدي إلى الحرب بين البلدين.
نظرية توازن القوى
ورغم أن دراسة “توازن القوى” من خلال مراجعة الخلل الواقع فيه باعتباره مسببًا للحرب، فإنّ المفهوم لم يأخذ حظه في تأسيس نظرية السياسة الدولية حتى نشوب الحرب العالمية الثانية والانتقال من مرحلة الاستعارة اللفظية لمثل الواقع إلى مرحلة التخيل (النبوءة) لإدراك الواقع، ثم مرحلة “النمذجة” للتطبيق وممارسة مفهوم توازن القوى في واقع النظام الدولي. ولعلّ كتاب “هانز مورجانثو” “السياسة بين الأمم أو Politics Among Nations” يعد من الكتب المؤسسة في هذا المجال (١٩٤٨)، وكذلك كتاب هيدلي بول “المجتمع الفوضوي Anarchical Society” (١٩٧٧)، وكينيث والتز “نظرية العلاقات الدولية Theory of International Politics” (١٩٧٩)؛ قد أصّلت لهذه النظرية من زوايا متعددة، وزادها غنى دارسون أخذوا في الاعتبار دخول الأسلحة النووية إلى دائرة التوازن الدولي، ومنهم كيسنجر وميرشهيمر. هذه الكتب جميعها عرض لها الدارس البريطاني “ريتشارد ليتل” في كتاب تحت عنوان “توازن القوى”، وقام بترجمته والتعليق عليه الدارس المصري د. جهاد عودة.
الخلاصة النظرية لهذه المؤلفات وعشرات غيرها تقوم على ثلاث قواعد: أولها، أن النظام الدولي الذي يجمع الوحدات السياسية على كوكب الأرض هو نظام فوضوي بمعنى أنه لا توجد فيه سلطة مركزية قادرة على فرض القانون والمراجعة والحوكمة بالثواب والعقاب على أساسه بين هذه الوحدات. وإذا كان نظام الدولة طبقًا للفيلسوف “توماس هوبز” قد قام على تحول من حرب الجميع ضد الجميع أو ما أسماه “حالة الطبيعة” بسبب وجود السلطة الحاكمة وما ترتب عليها من أدوات لقوة الحكم من سلاح ومحاكم وسجون؛ فإن مثل ذلك ليس له وجود في النظام الدولي.
وثانيها، أن العلاقات بين الدول باتت تقوم على الردع المتبادل، حيث يكون “التوازن” على أساس القدرة المتبادلة على الإيذاء والتدمير. وثالثها، أن التاريخ الإنساني كان في معظمه قائمًا على الإمبراطوريات الكبرى (الهيلينية، والرومانية، والفارسية، والعربية الإسلامية، ثم الاستعمارية الإسبانية، والبرتغالية، والبريطانية، والفرنسية.. وأمثالها)، وهذه كلها قامت واستمرت على الغزو والقدرة على إدارة المستعمرات واستمرار تبعيتها للإمبراطورية الأم وقوانينها ودينها أيضًا. ولكن العصور الحديثة بدأت تعرف نوعية جديدة من الدول وهي “الدولة القومية أو Nation State” التي استقر أمرها بعد الثورة الفرنسية التي ابتعدت بالشعوب عن الأباطرة وتيجانهم وتاريخ أسرهم الملكية والإمبراطورية وتوسعاتهم. هذه النوعية من الوحدات السياسية أصبحت مكونة من الشعب الذي له “هوية” وطنية بعينها، والسلطة بقوانينها ونظمها، والأرض التي تمثل جغرافيا حدود الدولة ومن ثم شكل علاقاتها مع الدول الأخرى.
الدولة القومية
جذور هذه المسألة بدأت بعد انتهاء حربي المائة عام والثلاثين عامًا من الحروب الدينية والإمبراطورية في أوروبا. خلال القرن السابع عشر، وما جرى في مناطق أخرى من العالم خلال القرون الثلاثة الفاصلة بين معاهدة ويستفاليا في عام 1648 ونهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945؛ لقد كان أهم ملامح هذه المرحلة من تاريخ الدنيا هي ظهور “الدولة القومية”، أي الكيان السياسي الذي يربط بين أفراده مجموعة من التجارب التاريخية والعاطفة الدينية أو حتى بمحض التواجد في المكان الجغرافي الواحد. لقد كان هذا الكيان متجاوزًا للقبيلة والطائفة الدينية أو العرقية، ومؤكدًا على “الهوية” المتولدة من التفاعل الاقتصادي والسياسي الذي ولد ما هو أكبر من مجرد المصلحة المشتركة. وبينما كانت القصائد والملاحم تشدو بجماعة دينية أو عرقية أصبحت الأشعار الحماسية تشيد بالشعوب والأمم، وكان الاعتراف “الدولي” بالدولة هو في حقيقته اعترافًا بوجود شعب متميز له “هوية” مختلفة عن باقي “الهويات الأخرى”. وكانت معاهدة “ويستفاليا” في جوهرها تأكيدًا على أن “الهوية” الوطنية تعلو على هويات فرعية أخرى، ولم يعد من حقها أن تكون لها صفات عابرة للقومية. ورغم أن ذلك خلق بالضرورة مشكلة “الأقليات” فإن الحدود الجغرافية والسيادة الوطنية خلقت هوية من خلال عمليات للانصهار الطوعي أو العنيف في تجربة شعورية واحدة. وباختصار، فإن “الجغرافيا السياسية” للدولة باتت محددة لعلاقاتها مع الدول الأخرى من خلال توازن القوى بينها، حيث تحوي في داخلها عناصر قوة الدولة وقدراتها المتعددة مثلما أسلفنا.
هذا التوازن بين الدول يكشف عن حالة شكل الأهرامات الذي يصف السياسة الدولية بأنه يوجد في قاعدتها الدول الصغيرة الضعيفة والتابعة، بينما يوجد عند قمتها الدول الكبرى والعظمى التي تقاس قوتها بقدرتها على التأثير في الدول الأقل شأنًا وجذبها إلى مدارها، أو ضمّها إلى تحالفاتها. الشائع في علوم العلاقات الدولية، هو أنها ترتكز على القوى العظمى وعلاقاتها، وما بعد ذلك إما مجرد تفاصيل، أو أقل شأنًا من المنظومة الرئيسية القادرة على الهيمنة ومد النفوذ، والمنافسة بالسلم أو بالحرب أو بالردع مع القوى العظمى الأخرى.
والشائع أيضًا أن توصف المنظومة الرئيسية بعدد الأقطاب فيها، فيقال: النظام متعدد الأقطاب، كما كان الحال ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. أو نظام القطبين، كما كان في أعقاب الحرب الثانية؛ حينما انفردت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بالنظام الدولي. أو نظام القطب الواحد، كما كانت بريطانيا ما بين 1815 بعد هزيمة نابليون و1914 ونشوب الحرب العالمية الأولى، والولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 وحتى عام 2008، عندما جرت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، وهو العصر الذي سُمِّي العولمة شكلًا، أما في الحقيقة فقد كانت الولايات المتحدة هي القائدة العظمى الوحيدة في العالم. فيا ترى ما هو الحال الآن، وكيف يوصف النظام الدولي؟
الإجابة المباشرة هنا، والتي سوف يجري التفصيل فيها، هي أن العالم لم يعد أسيرًا لقوة عظمى وحيدة؛ لأن التحدي للولايات المتحدة بات كبيرًا، كما أن العالم لم يعد متعدد الأقطاب، على عكس ما كان شائعًا من أن اليابان والهند وأوروبا الموحدة سوف تدخل في منظومة التنافس على قيادة العالم وتوجيهه، ولكن العالم يدخل حثيثًا إلى منظومة ثلاثية القوى العظمى: الولايات المتحدة الأمريكية، ودولة روسيا الاتحادية، وجمهورية الصين الشعبية.
كيف يتغير النظام الدولي؟
إن أقاليم العالم وظروفها التاريخية والجيوسياسية ليست متطابقة أو حتى متشابهة، ولكن تظل القاعدة الأساسية لها هي تحقيق توازن القوى، بكل ما يكفله ذلك من أبعاد القوة الخشنة والناعمة والذكية. وهذه القوة ليست متساوية أو متكافئة بين دول العالم، وإنما تقاس عادة بقدرتها على التأثير التي تتدخل فيها مهارات القيادة وإدارة الأزمات والتطورات التكنولوجية المتسارعة. وبالنسبة للقوى العظمى فإن قياسها يكون أولًا بانتشار أدواتها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والقيمية الإعلامية والنموذجية بين دول العالم المختلفة، وثانيًا بمدى التأثير الذي تحدثه هذه العناصر في الدول المختلفة من خلال القبول بالدخول في تحالفات مع القوى العظمى. العالم الآن -وفق ما سبق- بات ثنائي القطبية بين الولايات المتحدة والصين، استنادًا إلى أن الناتج المحلي الإجمالي للبلدين يتقارب يومًا بعد يوم، وفي الوقت الراهن فإنه بالحساب استنادًا إلى القوة الشرائية للدولار، فإن الناتج الصيني يتفوق على ذلك الأمريكي، وأخذًا لمعدلات النمو الراهنة، فإن الصين في طريقها إلى مزيد من التفوق، خاصة بعد الريادة في مجالات الثورة الصناعية التكنولوجية الرابعة. النمط الذي يدور في تفاعلات القطبين يُشير إلى تنافسهما، والولوج من المنافسة إلى الحرب التجارية والاستراتيجية في بحر الصين الجنوبي، والسياسية بالعقوبات الأمريكية على حلفاء للصين، مثل كوريا الشمالية وإيران، والتي تضغط فيها واشنطن على دول العالم للاختيار ما بينها وبين الصين. وباء كورونا أضاف إلى دوائر التنافس والتناقض بُعدًا آخر لا يزال يتفاعل بين البلدين نحو المسئولية عما حدث من ناحية، وزاد على ذلك نتائج نشوب الحرب الروسية الأوكرانية في ٢٤ فبراير ٢٠٢٢.
ولكنّ دورية الشئون الخارجية الأمريكية رأت الثنائية القطبية تدور في الإطار التاريخي المعاصر للعلاقات والتفاعلات الأمريكية الروسية، وجاء ذلك في العدد المجمع لمقالاتها والصادر في أبريل (نيسان) 2018، بعنوان “الحرب الباردة الجديدة: روسيا وأمريكا من قبل والآن”. مجموعة الدراسات المنشورة تبدأ من بداية الحرب الباردة القديمة، التي جرى إشهارها فكريًا من خلال مقال «X»، الذي سطره السفير الأمريكي جورج كينان، في عدد يوليو (تموز) 1947 بعنوان “مصادر السلوك السوفيتي” والتي أعلن فيها انتهاء التحالف الأمريكي السوفيتي أثناء الحرب العالمية الثانية، ودعا كبديل إلى اتّباع استراتيجية تقوم على احتواء الاتحاد السوفيتي. المقالات المختلفة المنشورة تعكس التطورات وفترات الصعود واحتدام الحرب الباردة، أو تخفيف التوتر، عندما نشر هنري كيسنجر مقاله في يوليو 1959 بعنوان «البحث عن الاستقرار»، ونيكيتا خروتشوف الذي نشر في عدد أكتوبر (تشرين الأول) من الدورية نفسها بعنوان «عن التعايش السلمي». ولكن لحظات التعايش والوفاق كانت الاستثناء على مسيرة طويلة من الحرب الباردة، استمرت حتى انهار الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وعلى مدى عقد ونصف تقريبًا، وفي ظل انفراد الولايات المتحدة في العالم، فإن المقالات المنشورة ركزت على إنقاذ روسيا، والتعاون معها في إطار مجموعة الثمانية. وفي عام 2002 ظهر العنوان «تجديد روسيا». ولكن شهر العسل هذا لم يستمر طويلًا؛ حيث تواصلت المقالات والدراسات التي تكشف ازدياد التوتر بين واشنطن وموسكو. وفي عام 2006 كان العنوان هو «روسيا تترك الغرب»، وفي 2007: «خسارة روسيا وتكاليف استئناف المواجهة»، وفي 2008: «لماذا استقرار السلطوية (فلاديمير بوتين) خرافة»، وفي 2010: «مأزق التحديث في روسيا»، وفي 2011: «الدب المحتضر»، و«كارثة روسيا السكانية»، وفي 2014: «إدارة الحرب الباردة الجديدة»، وفي 2016: «الجغرافيا السياسية الدائمة لروسيا»، و«البحث عن مكانة روسيا المشروعة»، و«إحياء القوة العسكرية الروسية» (هذا بعد ضم روسيا للقرم، واحتكاكها بأوكرانيا، وفرض العقوبات الأمريكية عليها). وفي العام 2018، نشرت مجلة «الشئون الخارجية» في عدد يناير (كانون الثاني): «احتواء روسيا مرة أخرى»، وفي عدد مارس (آذار): «هل بدأت حرب باردة جديدة؟».
دار الزمان دورته، وعادت الحرب الباردة من جديد بين موسكو وواشنطن بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، بينما كانت حرب باردة أخرى تجري بين واشنطن وبكين بسبب تطورات هذه الحرب من ناحية والخلاف حول وضع تايوان من ناحية أخرى، ومدى شرعية التحركات الصينية في بحر الصين الجنوبي من ناحية ثالثة. الأولى جوهرها استراتيجي، ومسرحها أوروبا والشرق الأوسط، والثانية تبدو اقتصادية تدور حول التجارة، ولكنها هي الأخرى استراتيجية حول السيطرة والنفوذ في العالم. الحربان تدوران بين ثلاث قوى: الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا تزال نظريًا القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم. وروسيا التي أيًا كانت حالتها الاقتصادية متواضعة فإن لديها أكثر من 9000 رأس نووية، تكفي لتدمير الكرة الأرضية عدة مرات، كما أن لديها مجالات متميزة للتفوق التكنولوجي في السلاح والفضاء. والصين التي ليست لديها قوة اقتصادية جبارة فقط، ولكنها أيضًا القوة الواعدة من حيث معدلات النمو والتكنولوجيات الحديثة، فلأول مرة في التاريخ البشري، أصبح بمقدور الصين منافسة أمريكا في بعض مجالات التطور التكنولوجي.
الجديد في النظام الدولي
هذه حالة جديدة على العلاقات الدولية في التاريخ المعاصر، ليس فقط بسبب العدد الثلاثي، ولكن لأنها تأتي في ظروف مختلفة تاريخيًا عما كان عليه الحال طوال القرن العشرين والبدايات الأولى للقرن الحالي. التطورات التكنولوجية أعطت للأطراف الثلاثة ما لم تعطه لدول وقوى أخرى، مثل الهند أو الاتحاد الأوروبي، الذي أضعفه الخروج البريطاني من الاتحاد، وضعف اقتصادات أساسية في الاتحاد، مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان، فضلًا عن تراجع النزعة الأوروبية بين دول الاتحاد، وهو ما في مجموعه خلق ضغوطًا كبرى على ألمانيا وفرنسا، لا يعرف أحد متى تضيقان بها. ولكن ربما كانت أهم الظروف التي تميز هذه المرحلة، الظرف الخاص بتولي دونالد ترامب الإدارة الأمريكية وما أسفر عنه من موجة يمينية سرعان ما انتشرت في العديد من دول العالم في أوروبا (بريطانيا)، وأمريكا الجنوبية (البرازيل)، وآسيا (الهند).
وجرت المراجعات لطبيعة النظام العالمي، والنظم السياسية المختلفة، بعد ظهور جائحة كورونا والتوجه نحو الأزمة ثم الحرب الأوكرانية. وجوهر الأمر هو سرعة انتشار الفيروس داخل الدول وبينها، بل وحتى انتقاله بين القارات، وفيه درجة من التركيز داخل العالم المتقدم: الصين، أوروبا، والولايات المتحدة، وفيما عدا ذلك هناك نقاط متوسطة مثل كوريا الجنوبية وإيران واليابان. ولكن الثابت أن العجلة في البحث عن العالم الجديد تحاول تجاوز ما الذي كان يعنيه “كوفيد-١٩” وتأثيراته على العالم إلى القفز فورًا إلى إعادة تركيب الدنيا كلها وتوزيع القوة فيها، رغم أن كثيرًا من متغيرات ذلك كانت حادثة قبل ١٢ يناير 2020 عندما تم الإعلان عن أول مريض في ووهان الصينية. ساعتها كان معروفًا أن الصين قوة صاعدة في النظام الدولي، وكان معروفًا أن الولايات المتحدة آخذة في الانسحاب من العالم، وكان “البريكسيت” أول الإشارات إلى أن الاتحاد الأوروبي ليس كما يبدو عليه. كان التغيير كما يقال مكتوبًا فوق الحائط الزمني أن العالم يتغير في اتجاهات جديدة سبقنا في الحديث عن عالم ثلاثي الأقطاب، وعالم ما بعد الثورة العلمية الرابعة التي قبل أن نعلم ما هي كنا في الحقيقة نتحدث عما غيّرته. ومن الممكن أن يكون “كوفيد-١٩” كاشفًا عن أمور تغيرت بالفعل وظهرت خلال الأزمة. مثل ذلك حدث عند سقوط جدار برلين عام ١٩٨٩ ووضع نهاية للحرب الباردة، أو انهيار بنك ليمان براذرز في ٢٠٠٨ وأشعل نار أزمة مالية واقتصادية عالمية؛ فإن جائحة فيروس كورونا حدث مدمر على مستوى العالم والنظام العالمي بكامله لا يمكننا أن نتخيل عواقبه بعيدة المدى. هذا أمر مؤكد: مثلما أدى هذا المرض إلى تحطيم الحياة، وتعطيل الأسواق، وكشف كفاءة الحكومات (أو انعدامها)، فإنه سيؤدي إلى تحولات دائمة في القوة السياسية والاقتصادية بطرق لن تظهر ربما إلا لاحقًا.
أوكرانيا ومراجعة النظام الدولي
الأمر الذي اتفق عليه المحللون والمراقبون هو أن العالم يتغير نتيجة “كوفيد-١٩”، ولكن ما اختلفوا عليه كان مدى التغيير، وفي أي اتجاه، وفي ذلك انقسموا إلى اتجاهين: أولهما أن العالم ينقلب رأسًا على عقب، باختصار يكون هناك عالم آخر. وثانيهما أن الأزمة في حقيقتها “كاشفة” عن عالم كان يتغير بالفعل، وما علينا إلا مراقبة ما كان من تغيرات تكنولوجية وفي توازنات القوى الدولية حتى نرى ما نراه وما هو قادم أيضًا. ولكن ما بين الاتّجاهين مسافات كثيرة وظلال بين وجهة نظر وأخرى. وفي هذه الحالة فإن “جائحة كورونا” أدّت إلى تحطيم الحياة حينما تمّ تعطيل الأسواق، فالمتصور بعدها أن تحدث تحولات دائمة في القوة السياسية والاقتصادية. وفي الثانية فإن صعود الصين، والتطور التكنولوجي الذي دمج ثورة المعلومات مع ثورة التكنولوجيا الحيوية، خلق ثورة تكنولوجية عالمية رابعة حتى قبل أن تترسخ نتائج الثورة الثالثة، والظهور الكبير لما سُمي “سياسات الهوية” التي تجابه “سياسات العولمة” والدعوة إلى إعادة تأسيس المؤسسات الدولية؛ كل ذلك كان موجودًا، وما بقي هو معرفة ما جرى عليها من تغيرات بعد حدوث الجائحة.
أصبح العالم يدخل عصرًا جديدًا من تفكيك العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية التي كان لها أصولها قبل أزمة الكورونا، ليس فقط لأن العالم عرف ذلك من زاوية الجغرافيا السياسية من خلال “البريكسيت”، ولكن لأن الشركات تجد استمرار العولمة كمحرك للاقتصاد العالمي أكثر صعوبة، وتجد نفسها مضطرة لأن تعيد تشكيل سلاسل الإمداد العالمية بتوطينها محليًا. فالمتصور بعد الأزمة أن تحدث تحولات دائمة في القوة السياسية والاقتصادية تُشكل ملامح النظام العالمي الجديد بعد الوباء. واقتصاديًا يواجه العالم أكبر أزمة اقتصادية، ومن الواضح أن الاقتصاد العالمي يتجه نحو الركود، وتتصاعد الأعباء الاقتصادية على الدول، وتتزايد معدلات الفقر، والأمن الغذائي يواجه العديد من التهديدات، بالإضافة إلى اختلالات حادة في المؤشرات الكلية للاقتصاد.
وبقدر ما كان “كوفيد” مؤثرًا في تقدير قوة أقطاب النظام الدولي القائدة فإن نشوب الحرب الروسية الأوكرانية خلق اختبارًا كبيرًا للنظام العالمي الذي بدا متقاربًا بفعل الجائحة وآثارها، وعاد به إلى التقسيمات الكلاسيكية بين الأقطاب الرئيسية في العالم. و”المراجعة أو Revisionism” هي جزء أساسي من الفكر السياسي الدولي الذي ينظر في التغيرات المختلفة لتوازنات القوى التي يمكنها أن تأخذ نظامًا إلى آخر. القاعدة هنا هي أنه لا يوجد نظام دولي يدوم إلا بالقدر الذي مكنته “القوة” من ظروف تأتي من العصر ومن توازناته وما جاء فيه من تكنولوجيا، وقاده من بشر. وقبل أكثر من قرنين واجهت أوروبا ثورتين متزامنتين مع نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر: الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية والتكنولوجية. وكانت الثورة الأولى هي التي استهدفت عمدًا ومباشرة تحطيم الهياكل والنظم السياسية للدول الأوروبية بأفكارها عن “الحرية” و”الإخاء” و”المساواة”؛ وهي أفكار حملها معه نابليون بونابرت حينما توسع شرقًا حتى وصل إلى موسكو على الأرض الروسية. ولكن الثورة الثانية كانت هي التي أصلت عملية تغيير أوروبا ومن بعدها العالم اقتصاديًا واجتماعيًا ثم سياسيًا. كلا الثورتين على أي الأحوال كانتا وراء تكوين العالم المعاصر كما نعرفه الآن حتى بعد أن تمت هزيمة نابليون في عام ١٨١٥. وفي أعقاب الهزيمة قادت أربع من القوى المحافظة (روسيا، والنمسا، وبروسيا، وبريطانيا) عملية لإدارة التغيير والحفاظ على توازن القوى في القارة الأوروبية لقرابة ١٠٠ عام حتى نشبت الحرب العالمية الأولى في ١٩١٤. وفيما بعد أضيفت فرنسا إلى القائمة، وشكلت القوى الخمس ما أصبح معروفًا باسم “منظومة أوروبا Concert of Europe” أو “كونجرس فيينا” لإدارة التغيير ومواجهة إمكانية نشوب ثورة أخرى. كلا الثورتين كفلتا مراجعة عميقة بالسلاح والسياسة والدبلوماسية للنظام الدولي السابق على القرن التاسع عشر، وأسستا لمنظومة توازن القوى، وحرستا عمليات إصلاح عميقة للنظم السياسية والاجتماعية، ودفعتا إلى تقدم غير مسبوق تاريخيًا بفعل الثورة الصناعية الأولى.
ولكن مع مطلع القرن العشرين فإن العالم الذي كان يدور حول أوروبا قد ذهب بالقوة وعناصرها إلى العالم الجديد حيث الولايات المتحدة الأمريكية، وبفعل الوهن الذي حل بالإمبراطوريات العثمانية والنمساوية المجرية، والضعف السياسي الفرنسي في جمهوريته الثالثة، ووهج الوحدة الألمانية الذي يبحث لألمانيا عن مكان تحت الشمس، ونشوب الثورة البلشفية في روسيا رافعة أعلام المطرقة والمنجل ومبشرة بعالم لم تعرفه البشرية من قبل؛ أصبح العالم هكذا مختلفًا، وعندما يختلف العالم لا بد وأن يتغير النظام الدولي وهو ما حاوله الجميع بعد الحرب العالمية الأولى من خلال إنشاء “عصبة الأمم” لكي تقود نظامًا دوليًا جديدًا قائمًا على القانون الدولي ويسعى لئلا تتكرر الحرب العالمية مرة أخرى. ولكن الحالة الدولية التي سمحت بتعدد الأقطاب سرعان ما تبين عدم قدرتها على التوافق بعد انسحاب أمريكا إلى ما وراء المحيط، وضعف ذكائها في التعامل مع الدول المهزومة التي فرضت عليها عقوبات قاسية فانتهى الأمر إلى إشعال شعلة الفاشية والنازية في أوروبا التي حاولت مراجعة النظام الدولي للمنتصرين، ولكن النتيجة كانت كسادًا عظيمًا أعقبته حرب عالمية ثانية حدث أثناءها أكبر عملية لمراجعة النظام الدولي القائم على تعدد الأقطاب.
كان العالم هذه المرة أكثر ذكاء في مراجعاته عما حدث من قبل، صحيح كان من الطبيعي أن يعكس النظام الدولي الجديد حالة المنتصرين في الحرب فكان التسليم بالمكانة الخاصة للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وحصل معهما على مكانة أقل بريطانيا وفرنسا والصين حينما حصل الخمسة على مقاعد دائمة العضوية ولها حق الفيتو في تنظيم دولي جديد متشعب الفروع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو نظام “الأمم المتحدة” الذي ضم الدول المستعمَرة سابقًا. وفي الأربعة عقود التالية للحرب بدا أن النظام الدولي قابل للاستقرار القائم على “الوفاق” أحيانًا بين القطبين الرئيسيين، و”الحرب الباردة” في معظم الأحيان. كان للنظام أزماته الحادة أحيانًا (برلين وكوبا والشرق الأوسط في ١٩٧٣)، ولكنه بات أكثر إدراكًا لمخاطر الحرب النووية فتوصل القطبان إلى اتفاقيات للحد من التسلح، وتوصل العالم كله إلى اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية. ولكن كان للنظام أزماته الحادة أحيانًا (برلين وكوبا والشرق الأوسط في ١٩٧٣)، ولكنه بات أكثر إدراكًا لمخاطر الحرب النووية فتوصل القطبان إلى اتفاقيات للحد من التسلح، وتوصل العالم كله إلى اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية.
لم يكن النظام الجديد قائمًا على المراجعات التي جرت له خلال العقود السابقة وإنما على نظريات جديدة حاولت وضع التغيرات التي ألمت بنظام القطبين والحرب الباردة في إطار تاريخي وصفه “فرانسيس فوكاياما” بأنه “نهاية التاريخ” الذي سلم العالم كله إلى الرأسمالية والليبرالية مرة واحدة وإلى الأبد. أما “صمويل هنتنجتون” فرأى مولد تناقضات جديدة وصفها بصراع الحضارات التي وضعت التناقضات الدولية والعالمية في إطار خارج “الدولة القومية” إلى الحضارات الكبرى في العالم. عمليًا فإن النظام الدولي بات نظامًا للقطبية الأحادية ممثلة في الولايات المتحدة ومن ورائها حلف الأطلنطي والمعسكر الغربي في عمومه، والتي بات عليها أن تُعيد تنظيم العالم وفقًا لرؤاها الخاصة وهو التنظيم الذي اصطلح على تسميته “العولمة”.
وعلى مدى العقود الثلاثة الثانية (١٩٩٠-٢٠٢٠) كانت قسمات القطبية الأحادية والعولمة المحددين الأساسيين للنظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. ولكن العامين الأخيرين شهدا تغيرات جوهرية وقع في مقدمتها أن المعسكر الغربي في عمومه والولايات المتحدة واجها قدرًا كبيرًا من الوهن تجسد في هزيمة الولايات المتحدة وتراجعها وخروجها من الشرق الأوسط، فضلًا عن تقلبها السياسي الداخلي ما بين مذاهب سياسية متعددة أدت في النهاية إلى انقسام وتشرذم وعجز عن التوافق المطلوب في مجتمع سياسي ليبرالي وديمقراطي.
وثانيها أن مجيء “الجائحة” وفشل الولايات المتحدة ومعها المعسكر الغربي في مواجهته، فضلًا عن قيادة العالم في التعامل معه، أخذ الكثير من سمعة القوة والتكنولوجيا الأمريكية. وثالثها أن الصين التي أخذت في الاستفادة من العولمة خلال العقود الثلاثة السابقة صعدت مع الأزمة إلى مكانة القوة العظمى في النظام الدولي، ومن ثم بدأت في دعوات لمراجعة النظام الدولي بحيث تقوم فيه شراكات جديدة تختلف عن الانفراد الأمريكي.
ورابعها أن روسيا التي عانت كثيرًا خلال العقود الثلاثة السابقة، عادت إلى العالم مرة أخرى تحت قيادة فلاديمير بوتين لكي تراجع نظام ما بعد الحرب الباردة والذي لم يحترم لا اتفاقيات هلسنكي ١٩٧٤ ولا اتفاقية منظمة التجارة العالمية، ونتيجة ذلك كله بات واجبًا من وجهة نظرها ليس فقط إعادة النظر في قواعد العمل في النظام الدولي، بل أيضًا إعادة النظر في نتائج انهيار الاتحاد السوفيتي من خلال غزو أوكرانيا.
عمليًا أصبح هناك نظام جديد ثلاثي الأقطاب، وما بقي هو كيف تجري التفاعلات والعلاقات بينهم حتى نتحدث عن نظام عالمي ودولي جديد. في النهاية قد يظهر نظام عالمي جديد، يعالج بالفعل مشاكل القرن الحادي والعشرين بما فيه من تحديات التفكيك للعولمة والنظم الإقليمية، والمواجهة مع أنماط تكنولوجية جديدة كما أسلفنا جعلت التواصل الإنساني أكبر من أي وقت مضى، بينما العزلة وسياسات الهوية تتأصل مع كل لحظة. قد يبدو الأمر كله متناقضًا، ولكن كان هذا دائمًا هو مفتاح التطور الإنساني.