لم تكن أنباء مصرع “يفغيني بريجوزين”، و”ديمتري أوتكين” قادة فاجنر -غالبًا بفعل فاعل- مفاجأة للعالمين، بآليات عمل النظام الروسي ورؤى قادته للعالم. فمن ناحية، قال الرئيس الروسي مرات: إنه “يعرف كيف يسامح، ولكنه لا يسامح أبدًا الخيانة”، ومن ناحية أخرى، فهم الكل في الداخل الروسي والخارج الدولي بقاء بريجوزين على قيد الحياة، على أنه قرينة قوية على ضعف الرئيس الروسي، الذي وصف بريجوزين بالخائن يوم ٢٤ يونيو، ثم تفاوض معه، وكان من الضروري هدم هذا التصور، وبيان خطئه، واسترداد الهيبة.
يختلف الخبراء الغربيون في تحديد كيفية إسقاط الطائرة، التحليلات الأوروبية التي اعتمدت على تحليل الفيديوهات التي انتشرت في اليوم الأول ذهبت إلى أن إطلاق صاروخ أرض جو وراء سقوط الطائرة، ولكن القيادة الأمريكية –التي تراقب روسيا بواسطة الأقمار الصناعية- قالت إن هذا التحليل “غير دقيق”، وإنها لم ترصد ما يشير إلى هذا، وقالت إن السيناريوهات الأخرى هي قنبلة صغيرة وُضعت في مكان ما على متن الطائرة، أو تلاعب في الوقود. قد يبدو التركيز على كيفية الإسقاط غير مبرر ولكنه ضروري للتعرف على الجهة والمسئولين الذين أشرفوا على التنفيذ وبالتالي على آليات عمل النظام، هل هو أحد أجهزة المخابرات أم السلاح الجوي؟ ولكليهما ثأر مع بريجوزين، الذي انتقد كيفية إدارة الحرب، وأهان يوميًا القادة، وسخر من كيفية إخبار القيادة، وقتل رجاله عددًا من الطيارين والعساكر أثناء التمرد.. إلخ.
استغرب أغلب الخبراء الغربيين لوجود بريجوزين وأوتكين على نفس الطائرة، وهذا يخالف أبجديات الإجراءات والتدابير الأمنية، ولكنّ خبيرًا فرنسيًا تقدم باجتهاد يبدو مقنعًا لي، وهو غياب الثقة بين رموز فاجنر وبينهم وبين النظام، بريجوزين -وفقًا لهذا الاجتهاد- كان يخشى نجاح الرئيس بوتين في استقطاب أحد رجاله بالمال أو الوعود، تواجدهم معًا على متن الطائرة يعني امتناعهم كلهم عن تفجيرها، والتواجد المشترك في الطائرة أو في أي مكان يرفع من كلفة تصفيته.
يمكن استبعاد بدرجة معقولة من اليقين قيام أوكرانيا بتنفيذ العملية، لأن تنفيذ هذه العملية يتطلب وقتًا وسرعة رد فعل ووجودًا على الأرض، إضافة إلى أن بريجوزين كان يشكل مشكلة كبيرة للنظام الروسي لا داعي لمساعدته على حلها، أما فيما يخص الأجهزة الغربية فقد نذهب إلى وجود مصلحة ورغبة في التخلص من التهديد الأكبر لمصالحها في أفريقيا، ولكننا لا نرى كيف يمكنها التخطيط وتنفيذ هذه العملية. وهناك سبب آخر لاستبعاد هذا، فالطائرة لم تكن في أحد المسارات العادية للطائرات التي تقوم برحلات بين موسكو وسان بطرسبورج، مما يوحي بأن المراقبين الجويين تعمدوا إبعادها عن الطائرات الأخرى لضمان تفادي إصابة أي طائرة أخرى. وطبعًا لا نرى سببًا معقولًا لقيام قائد الطائرة باختيار مسار غير تقليدي دون إذن من المراقبين.
كما يمكن استبعاد تفسير بعض المواقع الروسية القائل بإطلاق صاروخ على سبيل الخطأ، هناك أولًا سهولة التمييز بين طائرة مدنية عادية وطائرة مسيرة. ومن ناحية أخرى فإن سرعة ردود فعل الإعلام الروسي الرسمي توحي بأن القيادات الروسية لم تفاجأ، وأن التغطية تمت بطريقة مبرمجة سلفًا، سكوت رسمي ثم اقتضاب في التصريحات وإطلاق العنان لتكهنات أنصار الكرملين وطرحهم مئات من السيناريوهات تتوه الكل. كما أن تحليل خطاب الكرملين في الأيام التي تلت يوحي بأنه جمع بين محاولة إرضاء ومهادنة المليشيات والتيارات المحبة لبريجوزين والعاملة تحت قيادته أو بالتنسيق معه وبين توصيل رسالة تهديد مرعبة –صريحة ومبهمة في آن واحد- إلى نخب الحكم في روسيا.
كان لبريجوزين عدد كبير من الأعداء داخل النخب كما أسلفنا، فخطابه كان فاضحًا لهم، لا نستبعد وجود مطالب ملحة وقوية لتصفيته والانتقام منه، وأشير إلى كثرة التلميح إلى كون الرئيس استقبل بريجوزين بعد التمرد ولم يستقبل أهالي وأصدقاء الضحايا، وهذا طبيعي لأن استقبالهم يبقي التمرد على صدارة الأخبار الداخلية.
ويلاحظ أن إعفاء اللواء سيروفيكين من قيادة السلاح الجوي/الفضائي تم ساعات قبل مصرع السيد بريجوزين، وكان يعده المراقبون أهم نصير لبريجوزين في المؤسسة العسكرية، وصاحب الفضل في إعادة تنظيم الخطوط الدفاعية الروسية عندما قاد العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وأن النظام قبض على ضابط سابق يعد من أهم المدونين العسكريين (ستريلكوف)، وكان هناك في الأسابيع الماضية تكهنات بدون معلومات حول مصير المتحدث الرسمي للكرملين ديمتري بيسكوف المختفي منذ أيام، وهل هذا الاختفاء مؤقت أم نهائي، وما سببه، وهل الأمر متعلق بتسفيهه لفكرة الانتخابات الرئاسية، إذ قال إن النتيجة معروفة مقدمًا، وإن تنظيمها تبديد للمال في ظرف حرج، أم هل هناك سبب آخر؟. ولكن بيسكوف عاود الظهور وانتقل التركيز الإعلامي الغربي إلى نقاط أخرى.
وننوه إلى تشديد بعض المراقبين الغربيين على الدلالة الرمزية للحادث، فالقتل –إن كان هناك قتل وهذا هو الراجح بشدة- تم في العلن وفي عز النهار، وتمت العملية بجوار مكان ميلاد بريجوزين، وهي رسالة واضحة إلى نخبة الحكم وإلى الرأي العام الروسي وإلى العالم الخارجي.
ماذا قبل وماذا بعد؟
على عكس ما يقوله الاعلام الغربي، لا يشكل تأخر العملية في حد ذاته مفاجأة فكان من الضروري تفتيت قوات فاجنر وتحييد أو تصفية أو إبعاد أصفياء بريجوزين، ومن يدين له بالولاء الشخصي، فتم ضم الآلاف إلى الجيش الروسي، ونفي وعزل الآلاف إلى بلاروس، وربما انضم بعضهم إلى مليشيات روسية أخرى، ويبدو أن الأمن الروسي حرص على قطع الاتصالات الداخلية بين مكونات هذه القوة، ولا سيما تلك المتواجدة في بيلاروس.
وكان من الضروري التفكير في كيفية التعامل مع إمبراطورية بريجوزين العسكرية والاقتصادية التي تشبه الأخطبوط ولها أذرع طويلة ومتعددة في عدة دول أهمها في أفريقيا. ولا نعرف إن كان هناك قرار بالتمسك بها كما هي أو قرار بتفتيتها، وأيا كان القرار كل هذا يستغرق وقتًا ويمكن حتى أن نتصور أن السلطة تسرعت نوعًا ما لاعتبارات سياسية، وأن شهرين لا يكفيان لضمان السيطرة على مثل هذا الأخطبوط ورجاله.
يبدو –في ظل شح المعلومات المؤكدة- أن المخابرات الحربية الروسية كلفت بالإشراف على عملية السيطرة أو استعادة السيطرة على مملكة بريجوزين، ولا سيما في أفريقيا، وهذا يفسر الحضور الواضح لكادر أو كوادر من المخابرات الحربية أثناء فعاليات القمة الروسية الأفريقية وتعدد زيارات المسئولين الأمنيين الروس للقارة. ويبدو أيضًا أن بريجوزين حاول التصدي لهذه المحاولات وإفشالها، كان في أفريقيا أيامًا قبل رحيله، وقد تكون معارضته هذه سببًا من أسباب الإسراع في تنفيذ العملية قبل إتمام الإجراءات والتدابير.
سنرى بسرعة مدى توفيق جهاز المخابرات الحربية في استعادة السيطرة على الإمبراطورية وعلى تحييد أنصار بريجوزين المسلحين، نكرر شكوكنا في إمكان إحكام القبضة في شهرين، وهناك خبراء غربيون يحددون المشكلة كالآتي: من الصعب إيجاد خليفة لبريجوزين يجمع بين الكاريزما والرؤية الاستراتيجية ومهارات رجال الأعمال وإدمان العنف الوحشي المبالغ فيه، وإن وُجد مثل هذا الشخص فسيشكل إن آجلًا أم عاجلًا خطرًا شديدًا على النظام شأنه شأن سلفه، وتحويل الإمبراطورية البريجوزينية إلى كيان بيروقراطي يعمل كجهاز للدولة أو تحب إشرافها لن ينجح في ضمان ولاء المقاتلين فهم يجمعون بين التطرف القومي والوحشية البالغة وعدم احترامهم للقيادة إلا لو توفرت لديه سمات ليست سمات كادر “دولتي”، إلى جانب ولائهم وحبهم للقائد القتيل ورغبة بعضهم في الانتقام.
وسنرى إن كان النظام سيعيد النظر في الأوضاع القانونية والفعلية للمليشيات الخاصة التي أنشأها المقربون إلى السلطة.
وسيتابع المراقبون كيفية توظيف عناصر فاجنر التي خضعت للشرعية، هل يتم نشرها في أوكرانيا أو أفريقيا، الطبيعي –أمنيًا- إرسالهم إلى أفريقيا، ولكن روسيا تحتاج إلى دعم قواتها في أوكرانيا، ومن الواضح أن النظام متردد ويخشى تبعات إعلان التعبئة العامة على الرأي العام.
هناك من يخشى قيام السلطات الروسية باتهام أوكرانيا بارتكاب الحادث لتبرير تصعيد بالغ جديد، ورأيي أن روسيا لا تحتاج إلى تبريرات، فمن يعاديها ومن يؤيدها لن يغير موقفه إن صعدت من عدوانها.
وفيما يتعلق بالتأثير على قبضة الرئيس على النظام والدولة وعلى ولاء دوائر الحكم له، على المدى القصير والمتوسط يبدو واضحًا أن تكلفة محاولة الانقلاب على القيادة ارتفعت للغاية، وأن هذا من شأن إسكات الكثيرين –في الدائرة الثانية- الذين يرون أن غزو أوكرانيا كان خطأ فادحًا، ولكنه في المقابل سيدفع من يريد التحرك ضد إما لإسقاطه أم لدفعه إلى تغيير سياساته إلى عدم التوقف ورفض قبول حلول وسط. ويرى بعض المحللين أن هذه العملية ستؤثر سلبًا على عملية تقديم المعلومات والأخبار إلى القائد، ولكنني أرى أن هذا التدهور ليس حتميًا، فهناك فارق بين نقل الأخبار والصورة وبين التحرك لقلب النظام، بيد أن تبعات الخوف لا تكون صحية إلا في القليل النادر. وهناك مخاوف في روسيا وآمال في الغرب في أن تكون هذه العملية، ولا سيما إن لم تكن لها تبعات جسيمة، تدشينًا لعمليات تصفية لرجال الحكم. وفي الغرب، يرى البعض أن احتمال لجوء روسيا إلى السلاح النووي قلت نوعًا ما لفترة ما، فالرئيس لم يعد في حاجة إلى إثبات قوته فهذه العملية تثبتها ولو مؤقتًا.
أما التأثير على الرأي العام فلن يكون إيجابيًا، الأغلب أن غالبية الرأي العام يتفهم ضرورتها –لا يعني هذا أنها مؤيدة- نظرًا لقواعد اللعبة السائدة، وهناك قطعًا من سيستاء جدًا منها، فبريجوزين لم يكن فقط ابن عالم الإجرام الروسي ورجل أعمال ناجحًا رغم منافاة أعماله للقانون والأخلاق، كان أيضًا بطلًا تواجد على الجبهة وزعيمًا سخيًا مع رجاله وإن كان شديد القسوة وهو صاحب نصر باخموت.
موقف ضباط القوات المسلحة سيكون حاسمًا، شأنه شأن كوادر فاجنر من المقاتلين المخضرمين.
مشكلة التعامل مع الرأي العام ليست مشكلة آجلة، فعلى النظام التفكير في كيفية تنظيم الجنازة والحضور وأين تتم وهل يجب تكريم الرجل لدوره “البطولي” في نصر باخموت ونصر سوليدار؟ هل سيدفن كخائن أم كبطل؟ هل يمكن إغلاق الملف بسرعة أم يستحسن التروي.