استمرارًا لسلسلة العدوى الانقلابية في غرب ووسط أفريقيا، يأتي انقلاب 30 أغسطس 2023 في دولة الجابون بعد مرور قرابة شهر على حدوث انقلاب النيجر، ومن قبلها الانقلابات في مالي وبوركينافاسو وغينيا. بذلك، يصل العدد الإجمالي (8) لعدد الانقلابات في المنطقة منذ عام 2020، وتصبح المنطقة حزامًا من الانقلابات النشطة، واتساع دائرة المراحل الانتقالية وعدم الاستقرار السياسي، وتراجع التقدم الديمقراطي، وتفاقم السيولة الأمنية، وتصاعد أنشطة الجماعات الإرهابية، وتحديدًا مع انتقال العدوى الإرهابية من دول الساحل الأفريقي إلى الدول الساحلية المطلة على خليج غينيا. ضمن هذا الإطار المضطرب، سيتم توضيح سياق ودوافع وتداعيات الانقلاب على النحو التالي.
سياق مضطرب ودوافع متباينة
يأتي قيام الضباط العسكريين بتمثيل كافة قوات الأمن والدفاع في البلاد، ولجنة الانتقال واستعادة المؤسسات، بالإطاحة بنظام الرئيس الحالي “علي بونجو” بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية التي بدأت منذ يوم السبت الموافق 27 أغسطس 2023، أسفرت عن فوز “بونجو” بفترة ولاية ثالثة في الانتخابات الرئاسية؛ إذ فاز بنسبة 64.27% من إجمالي الأصوات متفوقًا على المنافس الرئيسي “ألبرت أوندو أوسا” (أستاذ الاقتصاد ووزير التعليم السابق) الذي جاء في المركز الثاني بنسبة 30.77%. وقد انتقدت المعارضة الكثير من إجراءات العملية الانتخابية حيث اعتبرتها تفتقر إلى المصداقية والنزاهة بسبب منع وسائل الإعلام الأجنبية من تغطية الانتخابات، وقطع شبكة الإنترنت لأسباب أمنية، وتفاقم أعمال العنف الانتخابي في البلاد في مشهد تكرر مع الانتخابات السابقة عام 2016، التي حظي فيها “بونحو” بفترة ولاية ثانية.
ومع تصاعد الجدل بشأن نتائج الانتخابات، تدخلت القوات المسلحة لإقرار مجموعة من الإجراءات وفقًا للبيان رقم (1) الذي أذيع على قناة جابون 24، والتي تضمنت إلغاء نتائج الانتخابات، وإغلاق جميع الحدود حتى إشعار آخر، وفرض حظر التجول ليلًا في جميع أنحاء البلاد، وحل مؤسسات الدولة بما في ذلك الحكومة الفيدرالية، ومجلس الشيوخ، والجمعية الوطنية، والمحكمة الدستورية، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ومركز الانتخابات الجابونية.
وقد قدمت المجموعة العسكرية التي قامت بالانقلاب مبررات ذلك انطلاقُا من مجموعة من الأسباب والدوافع، وهي افتقار العملية الانتخابية للمصداقية والنزاهة، والطعن في نتائجها، والدفاع عن السلام المجتمعي، ووضع حد لنهاية نظام عائلة “بونجو” التي تُسيطر على مقاليد السلطة والثروة في البلاد منذ قرابة خمسة عقود. بالإضافة إلى ذلك، تفاقم الأزمات المؤسسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، في ظل تراجع عائد صادرات النفط التي تعتمد عليها البلاد على خلفية اضطراب سلاسل الإمدادات العالمية.
تداعيات خطرة
يُضيف الانقلاب مجموعة من التداعيات الخطرة سواء على مستوى الأوضاع الداخلية في البلاد أو على صعيد العلاقات مع فرنسا على وجه التحديد التي تعتبر الجابون من الشركاء الاستراتيجيين في منطقة وسط وغرب أفريقيا، حيث تستضيف البلاد أكبر قاعدة فرنسية في غرب أفريقيا، وتضم أكثر من 450 جنديًا. كما توجد مجموعة من الشركات الفرنسية العاملة في مجالات التعدين والنقل، وبدأ ظهور بوادر هذا التوتر في إيقاف الشركة الفرنسية “إيراميت” المعنية بمجالات التعدين في المنجنيز، والتأثير على عمليات النقل في قطاع السكك الحديدية.
علاوة على ذلك، من المُحتمل تمدد العدوى الانقلابية لدول وسط أفريقيا التي تشهد مسارات متأخرة في مسار التحوّل الديمقراطي، حيث تعتبر الجابون عضوًا في المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا “سيماك”، التي تضم دول: الكاميرون، الجابون، تشاد، جمهورية أفريقيا الوسطى، جمهورية الكونغو، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وغينيا الاستوائية، وتُعاني هذه الدول من هشاشة سياسية وتراجع مؤشرات الديمقراطية.
نتيجة ذلك، جاءت ردود الفعل من جانب الاتحاد الأوروبي بحديث منسق السياسة الخارجية بالاتحاد “جوزيب بوريل” بأن وزراء دفاع الاتحاد سيناقشون الوضع في الجابون في توليدو بإسبانيا، موضحًا ذلك باعتباره مشكلة كبيرة لأوروبا، ويضفي مزيدًا من عدم الاستقرار في المنطقة. في حين تُتابع فرنسا الوضع عن كثب، وأعلنت الصين ضرورة ضمان أمن الرئيس “بونجو”. لذلك، يعتبر انقلاب الجابون بمثابة انتشار النار في بؤرة أنظمة الحكم لدول المنطقة، مما يُحفز باقي جيوش منطقة وسط أفريقيا بالقيام بمحاولات مماثلة وتحديدًا مع تنامي مشاعر السخط الشعبي في هذه المنطقة جراء بقاء حكام هذه الدول لفترات طويلة.
حاصل ما تقدم، يعتبر انقلاب الجابون تراجعًا آخر في مناطق نفوذ فرنسا ومؤشرًا لانتهاء سياسة (فرنسا-أفريقيا)، وبالمثل لنفوذ الاتحاد الأوروبي في المنطقة، وكانت أربع دول أساسية كمناطق ارتكاز لفرنسا في هذه المنطقة المأزومة، وهي: السنغال، وساحل العاج، وتشاد، والجابون، وبسقوط الجابون تتعرض مصالح فرنسا للخطر، مما يفتح الباب لقوى أخرى للدخول، وتبرز الصين في هذه المنافسة بعد قيامها باستثمارات هائلة في الجابون منذ فترة طويلة.