بدأت جمهورية مصر العربية مشروعًا طموحًا في أعقاب ثورة الثلاثين من يونيو عندما شرعت في إنشاء عدد من المدن الجديدة في مختلف القطر المصري، مثل العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة وغيرها، وذلك بغرض استيعاب الكثافات السكنية المتزايدة وخلق تنمية عمرانية مستدامة في مختلف ربوع الجمهورية. إلا أن تلك المدن تواجه تحديًا رئيسيًا متمثلًا في قدرة الدولة وأجهزتها على خلق تنمية اقتصادية مستدامة تساهم في نقل الكثافات السكنية المستهدفة بشكل دائم، لكي لا تكون المدن الجديدة مجرد استثمار لحفظ القيمة للمشترين وتكون المنشآت خاوية، أو أن تصبح مجرد وجهات موسمية مؤقتة.
التوزيع السكاني داخل مصر
تعتبر الزيادة السكانية الكثيفة أحد أبرز التحديات التي تُواجه جمهورية مصر العربية، بالإضافة إلى تمركز هذه الزيادة بمناطق محددة في الأراضي المصرية. فطبقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن 95,5% من سكان جمهورية مصر العربية بإجمالي حوالي 100.3 مليون نسمة يسكنون حول وادي النيل، وهو ما يشكل حوالي 7% فقط من المساحة الإجمالية لمصر. أما عدد سكان المحافظات الأخرى التي تمثل 93% من مساحة مصر الإجمالية فلا يتجاوز 4,80 ملايين نسمة، وهو ما يشكل حوالي 4,5% فقط من إجمالي تعداد سكان الجمهورية (رسم بيان رقم 1).
وقد تنبهت الدولة المصرية منذ نهاية السبعينيات إلى التحديات التي تفرضها الزيادة السكانية، وقامت بالبدء في مواجهتها عن طريق إنشاء المدن الجديدة في مختلفة محافظات الجمهورية. واستمرت تلك الجهود حتى الوصول إلى استراتيجية 2030، والتي تتبنى خطة طموحة لزيادة الرقعة السكانية إلى 14,5% من إجمالي المساحة بحلول عام 2030.
وتهدف مصر من وراء ذلك لإنشاء مناطق عمرانية جديدة تحقق تنمية اقتصادية فعالة توفر كافة الخدمات للمواطنين وفرص العمل ووسائل النقل المريحة والكافية من وإليها، وذلك في إطار تشجيع السكان بالفعل للانتقال الدائم للمدن الجديدة بالمعدلات الكافية، وذلك حتى لا تتحول تلك المدن إلى منشآت قائمة منخفضة الإشغال، في ظاهرة يطلق عليها أحيانًا “مدن الأشباح”.
تحديات إشغال المدن الجديدة
إن إنشاء مدن جديدة يعتبر تحديًا ليس بالهين، ولكن جذب أعداد مناسبة من السكان للعيش فيها يعد هو التحدي الأكبر، خاصة أنه يستغرق بعض الوقت ويتطلب سياسات خاصة قد تكون في بعض الأحيان استثنائية. الحديث هنا يدور حول المدن التي تكون نسبة السكان بها أقل بصورة كبيرة من المستهدف والقدرة الاستيعابية وتسمى بالإنجليزية (under occupied developments). تلك الظاهرة تعاني منها عدد من المدن حول العالم والتي تم ضخ استثمارات عقارية كبيرة بها ولكنها لم تنجح في جذب السكان، وذلك لعدم تمكن تلك المدن من خلق سبب فعلي يقنع السكان بالانتقال الدائم إليها، أو خلق محفزات مغرية تدفع المؤسسات الاقتصادية إلى ضخ استثمارات تؤدي إلى وجود فرص عمل مستدامة هناك، مما يؤدي إلى ندرة الخدمات المتاحة وعدم جدوى وسائل المواصلات إن كان قد تم تنفيذها بالفعل.
إن التجارب الصينية في إنشاء المدن الجديدة المتكاملة هي خير نموذج لهذه المشكلة، حيث تم ضخ استثمارات ضخمة بمليارات الدولارات لتشييد مدن متكاملة الخدمات بشكل معماري متميز من أحياء سكنية ومناطق إدارية وتجارية وبنية تحتية متطورة ووسائل مواصلات جيدة، إلا أنها لم تنجح في جذب الصينيين للانتقال إليها وكانت نسبة الإشغال قليلة للغاية، وكان أغلب المبيعات نوعًا من الادخار في صورة عقار.
إلا أن الحكومة الصينية نجحت في زيادة نسبة إشغال بعض المدن من خلال اتخاذ عدد من الإجراءات التي ساهمت في بدء الحياة هناك، مثل نقل بعض مقرات الشركات والبنوك المملوكة للحكومة إليها كما تم في منطقة بودونج في شنغهاي والتي كان يطلق عليها مدينة الأشباح سابقًا، وأصبحت حاليًا تعتبر من أهم المناطق الاقتصادية في الصين.
التجارب المصرية في المدن الجديدة
على الرغم من القيام ببناء العديد من المدن الجديدة منذ نهاية السبعينيات لاستيعاب الزيادات السكانية، إلا أن الإقبال على الانتقال إلى أغلب تلك المدن كان ضعيفًا، بسبب عدم توافر فرص العمل الواسعة خارج القطاع الخدمي أو الحكومي، وكذا ضعف وسائل الانتقال المنتظمة لنقل السكان لأعمالهم بالمدن المجاورة.
فعند القيام بالمقارنة بين بعض المدن الجديدة في نطاق القاهرة الكبرى وفقًا للجدول المرفق (رسم بيان رقم 2)، نلاحظ أن مدينة القاهرة الجديدة (وتعتبر من أحدث المدن إنشاءً (عام 2000) هي الأعلى في الكثافة السكانية بإجمالي حوالي 310 آلاف نسمة وذلك بالتزامن مع ازدياد عدد الشركات والمؤسسات التي قامت بنقل مقراتها إلى القاهرة الجديدة، والذي انعكس بدوره على انتشار فرص العمل المختلفة والخدمات التجارية والترفيهية، ووسائل المواصلات الخاصة وغيرها، مما جعلها من أكثر المدن جذبًا للسكان، وبالتالي ازداد بها سعر الأراضي والوحدات العقارية. أما مدينة مثل مدينة بدر فهي الأقل في عدد السكان على الرغم من مرور ما يقرب من 40 عامًا على بدء إنشائها، وإن كانت في السنوات الأخيرة بدأت في الانتعاش نظرًا لبدء العمل بالعاصمة الإدارية الجديدة واحتياج العاملين بها إلى سكن قريب.
رسم بيان رقم (2)
كما أن يجب ملاحظة أن نسبة السكان في تلك المدن لا تزيد على 8% من إجمالي المستهدف، مما يعني أن نمو تلك المدن لا يزيد على 0.27% سنويًا في المتوسط، وهذا رقم قليل مقارنة بالمعدل القياسي لنمو للمدن والذي يتراوح بين 1% إلى 3%.
المدن الجديدة بمصر: التنمية الاقتصادية خارج وادي النيل
تنبهت الحكومة المصرية إلى ضرورة معالجة أزمتي الانفجار السكاني والمركزية حول وادي النيل، وبدأت بالفعل وفقًا للاستراتيجية 2030 بالعمل في هذا الاتجاه، وقامت ببناء عدد من المدن والمشروعات القومية التي ستساهم في حل تلك الأزمات.
فإذا أخذنا مدينة العلمين الجديدة كمثال، فإننا نجد أنه قد تحقق فيها المتطلبات الخاصة بالتنمية الشاملة في إطار استراتيجية 2030. فهي مدينة جديدة خارج وادي النيل بمسطح 48 ألف فدان تقريبًا تحتوي على مناطق سكنية وتجارية وصناعية وخدمية وسياحية. تم بناء عدد من الأبراج الشاطئية ذات الطراز المعماري المميز، بالإضافة إلى حي مخصص للمال والأعمال والذي يحتوي على برج أيقوني على غرار العاصمة الإدارية الجديدة، كما توجد أيضًا جامعة تكنولوجية. بالإضافة إلى ذلك، فإنه قد تم الاهتمام بوسائل النقل المختلفة وتمثل ذلك في وجود مطار العلمين الدولي، وشبكة القطار السريع التي تربط مدينة العلمين الجديدة بمدينة العين السخنة، مرورًا بإقليم القاهرة الكبرى كمرحلة أولى.
ولا نغفل قيام الدولة المصرية بمجهودات كبيرة للترويج لمدينة العلمين الجديدة مثل الاهتمام بتنظيم الفعاليات السياحية والمهرجانات والتي ساهمت بشكل كبير في رواج المدينة وارتفاع أسعار تأجير الوحدات والإقامة في الفنادق، كما سيتم تنظيم معرض مصر الدولي للطيران بمدينة العلمين الجديدة وعمل العروض الجوية في مايو 2024 ليكون مزارًا ليس فقط للمتخصصين وإنما للمواطنين الراغبين في الاستمتاع بالعروض الجوية. وبجانب ذلك، فإن استقبال القيادة السياسية لضيوف مصر الكرام وتنظيم المباحثات يساهم في عمل ثقل سياسي لمدينة العلمين الجديدة.
ولكن التحدي الأكبر لتلك المدينة هو خلق سبب حقيقي للسكان يجعلهم مقبلين على الانتقال الدائم للعيش فيها، وليس فقط لاستخدامها كوجهة مصيفيه تنتعش خلال فصل الصيف. ويمكن تحقيق ذلك من خلال خلق أنشطة اقتصادية متنوعة وواعدة. فعلى سبيل المثال، يمكن تحفيز الشركات وأصحاب الأعمال على الانتقال إلى المدينة عبر منحهم امتيازات وإعفاءات مالية مغرية، تجعل الانتقال الفعلي أكثر جدوى لأعمالهم (على سبيل المثال وليس الحصر: نشاط البترول والتعدين والطاقة وذلك نظرًا لقرب مدينة العلمين الجديدة من البحر المتوسط الغني بالغاز الطبيعي وحقول البترول المنتشرة بالصحراء الغربية ووجود محطة الضبعة النووية لتوليد الكهرباء)، وبالتالي فإذا نجحت الحكومة في ذلك يمكن أن يبدأ الزحف والتوطين السكاني المستدام. كما يمكن عمل برامج دعم وتحفيز للشركات الناشئة في حالة اختيار مدينة العلمين الجديدة كنقطة البداية للأعمال.
الخاتمة
إن استراتيجية التنمية خارج الوادي وتمدد النمو السكاني في مختلف القطر المصري هو ضرورة ملحة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال خلق وتهيئة كافة الأسباب للسكان للانتقال الدائم إلى المدن الجديدة والقضاء على المركزية الشديدة التي تعاني منها الدولة المصرية. فيجب على أجهزة الدولة المصرية التكاتف التام والعمل الجماعي مع وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية الجديدة في إطار استراتيجية 2030، لكي تنجح التجربة المصرية وتتفادى أخطاء الغير والاستفادة من تجاربهم.