للمرة الأولى منذ اندلاع الصراع بين القوات المسلحة، والدعم السريع في 15 إبريل الماضي، يخرج رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان من العاصمة الخرطوم، ليجري جولة ميدانية، حملت طابعًا سياسيًا ودبلوماسيًا، واعتبرها البعض بمثابة صفقة، قد تمهد لوقف الحرب، خاصّة في ظل ما سبقها من حراك دبلوماسي للقوى المدنية، والإقليمية، والدولية، الساعية للوساطة بين طرفي الحرب؛ خاصّة وأنه سيستكمل جولاته في السودان بجولة إقليمية، هي الأولى له خارج البلاد منذ اندلاع الصراع.
وتزامن ذلك التحرك مع خروج قائد الدعم السريع “حميدتي” بمبادرة نشر، نصها على وسائل التواصل الاجتماعي، تعبر عن موقفه من الشروط، وشكل التسوية السياسية التي يمكن أن تؤدي إلى توقفه عن مواصلة القتال، في وقت المعارك فيه مستمرة بين الطرفين في مدن العاصمة الثلاثة، وخاصّة في جنوب الخرطوم، وأم درمان، والتي اشتدت مطلع أغسطس، مع استمرار الاشتباكات في الجبهات الأخرى المفتوحة في كردفان ودارفور؛ الأمر الذي يثير بدوره التساؤل حول إمكانية، أن تحدث تلك التحركات أية اختراق في المشهد الميداني، أو تفتح الطريق أمام جلوس طرفي الصراع إلى مائدة الحوار؟.
كسر العزلة
بعد تمركزه في مقر القيادة العامة بالخرطوم على مدار الأشهر الماضية، ظهر البرهان للمرة الأولى خارج العاصمة، حيث تفقد القواعد والمنشآت العسكرية، في أم درمان وسط القتال الدائر بها على مدار أسابيع، وغادرها يوم الخميس 24 أغسطس إلى مدينة عطبرة بولاية نهر النيل شمالًا، حيث التقى بقيادات عسكرية، وتفقد جرحى الحرب داخل مستشفى عسكري، وزار سلاح المدفعية. وقد نفى البرهان خلال كلمته وسط الجنود أي حديث عن اتفاق، أو صفقة بموجبها خرج من الخرطوم، مؤكدًا استمرار القتال حتى النهاية لمواجهة الفلول، وهزيمة التمرد، خاصّة وأنهم لم يبدأوا الحرب، مما يمنحهم أحقية الدفاع عن البلاد حتى النهاية. وأشار إلى أنّ خروجه كان بمشاركة القوات الجوية، والبرية، والبحرية، وليس بصفقة خارجية، حيث شهدت عملية خروجه من مقر القيادة العامة، قتالًا ضاريًا أدت لوقوع شهيدين من القوات البحرية.
وقد توجّه إلى شرق السودان، حيث خاطب قوات منطقة البحر الأحمر بقاعدة فلامنجو البحرية، يوم الاثنين 28 أغسطس، وتابع الجهود التي تقوم بها قوات المنطقة في تأمين حدود السودان البحرية، وكافّة مناطق البحر الأحمر، وأكد مرة ثانية على عدم إجراء أي اتفاق مع الدعم السريع، وأنّ القوات المسلحة لن تضع يدها في أيدي المتمردين، وأنهم سيركزون جهودهم على الحسم، وإنهاء التمرد، وقد جاءت هذه الكلمة ردًا على المبادرة التي طرحها حميدتي في اليوم السابق على تواجده ببورتسودان. وتزامنًا مع تواجده في بورتسودان تلقى البرهان اتصالًا هاتفيًا من رئيس جنوب السودان سلفاكير، أكد خلاله على الالتزام بالمبادرات الرامية لإنهاء الصراع الدائر في البلاد.
وينظر البعض إلى المشهد الراهن كنقطة بداية لإحياء الجهود الرامية إلى إجراء محادثات مباشرة بين طرفي الصراع، وأنها مؤشر على تحرك البرهان، بحثًا عن الحلول الدبلوماسية، وأنها تعبير عن انفتاح سياسي، قد يمهد لقبول الطرفين بالجلوس لمائدة الحوار، خاصّة وأنّ تحركات البرهان الداخلية أعقبتها زيارته الخارجية الوحيدة، منذ بدء الحرب، حيث زار مصر في 29 أغسطس ليوم واحد، عاد بعدها للسودان. وتأتي هذه التحركات بعد اجتماعات وزراء خارجية دول الجوار في تشاد في 7 أغسطس، بناءً على مخرجات القمة الأولى التي استضافتها القاهرة في 13 يوليو الماضي، مما قد يؤشر على مواصلة مصر وجنوب السودان مزيدًا من الجهود، بالتواصل مع طرفي الصراع.
فرض الشروط
تزامنت تلك التحركات مع خروج حميدتي، بمبادرة في يوم الأحد 27 أغسطس، تضمنت موقف الدعم السريع من الحل الشامل في السودان، ورؤيتها لبناء دولة سودانية على أسس جديدة، حيث أوضح أنّ النظام الفيدرالي غير التماثلي، الذي تتفاوت فيه طبيعة ونوع السلطات، التي تتمتع بها الوحدات المكونة للاتحاد الفيدرالي، هو شكل نظام الحكم الأنسب للسودان. وطالب ببناء سودان قائم على العدالة الاجتماعية، والتسامح، والسلام، وتوقف الدولة عن ممارسة العنف تجاه أبنائها، خصوصًا في الهامش، إذ اعتبر أنّ الحرب الدائرة في البلاد هي مظهر من مظاهر أزمة الدولة التي يجب أن تتوقف، من أجل إقامة نظام حكم ديمقراطي، مدني يقوم على الانتخابات العادلة والحرة، مع إشراك أكبر وأوسع قاعدة سياسية واجتماعية ممكنة من الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، والمرأة والشباب، وضرورة تأسيس وبناء جيش سوداني جديد، مهني وقومي من الجيوش المتعددة الحالية.
ويمكن إجمال هذه القضايا التي حدد حميدتي التفاوض عليها مع أطراف الحرب في: مسألة تأسيس جيش مهني قومي، الفترة الانتقالية والحكم المدني الانتقالي، السلام الشامل والعادل المستدام، العدالة الانتقالية، النظام الفيدرالي، وهياكله، ومستوياته، وسلطات تقسيم الموارد، مع أهمية أن يشترك في المفاوضات القوى التي همشها نظام البشير في المركز، وكذلك لجان المقاومة، والشباب، والنساء.
على الجانب الآخر، كانت هناك مبادرة مماثلة صدرت في 15 أغسطس، صدرت عن مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، ترسم ملامح المشهد، وخارطة طريق تبدأ بوقت إطلاق النار، وتحديد مواقع تجميع الدعم السريع، تمهيدًا لتنفيذ الترتيبات الأمنية، وكذلك دعوة الأمم المتحدة لتغيير المبعوث الأممي، وأنّ الانتخابات هي الطريق الوحيد، مما يقلل مساحة التعارض في الرؤى بين الطرفين، فيما يتعلق بشروط التسوية، ووقف إطلاق النار، حيث يفرض الدعم السريع رؤيته السياسية لمستقبل البلاد، كخطوة سابقة، وشرط لوقف إطلاق النار، كما أنه يطرحها بافتراض أحقيته في رسم ملامح المستقبل، حتى وإن كانت كافة الرؤى المطروحة سبق وتناولها اتفاق جوبا للسلام، الذي فشل في إرساء السلام، وتحقيق العدالة، والتنمية في البلاد، ذلك في الوقت الذي تنظر فيه المؤسسة العسكرية للدعم السريع باعتبارهم متمردين، وأنّ الحسم النهائي، وضمهم تحت لواء القيادة العامة للقوات المسلحة وفق شروطها، هو المنطق الحاكم لتحركاتها.
سياق حاكم
تأتي هذه التحركات من جانب القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع على خلفية أوضاع معقدة تشهدها السودان، تتمثل أبرز مؤشراتها في استمرار المعارك بين الطرفين على مدار شهر أغسطس في مدن الخرطوم الثلاث، وأم درمان، حيث تجدد القتال في محيط معسكر سلاح المدرعات في جنوب الخرطوم، حيث تشن الدعم السريع على مدار أسبوع هجمات على محيط سلاح المدرعات، ودارت اشتباكات عنيفة بين القوتين في أحياء جبرة، والعشرة، واللاماب، وغزة، وهي مناطق محيطة بسلاح المدرعات. وكذلك شهدت مدينة أم درمان، وأحياء أم درمان القديمة، فضلًا عن أم بدة غربي أم درمان، حيث واصلت مدفعية الجيش قصف مواقع الدعم السريع في أم درمان لقطع الإمدادات التي تصل الدعم السريع عبر جسر شمبات.
كما استهدف الطيران الحربي التابع للجيش، مواقع قوات الدعم السريع في محيط مطار الخرطوم الدولي، والقيادة العامة للقوات المسلحة شرقي العاصمة، كما استهدفت الغارات الجوية مواقع بأحياء الرياض، وبري، وقاردن ستي، ومناطق شمال الخرطوم بحري، واستمرت الغارات الجوية للدعم السريع في جنوب الخرطوم، وفي محيط المدينة الرياضية، وأرض المعسكرات، ومنطقة الكلاكلة جنوب الخرطوم. وبالتوازي مع المعارك المستمرة بالعاصمة السودانية، صدّ الجيش هجومًا لقوات الدعم السريع على حقل زرقة أم حديد النفطي، بولاية غرب كردفان.
وتستمر هذه المعارك رغم الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار، نظرًا لتفاقم الأوضاع الإنسانية، حيث أسفرت المعارك المستمرة على مدار خمسة أشهر عن مقتل 5000 شخص، وفرار أكثر من 4.6 ملايين شخص من منازلهم. على وقع هذه المعاناة انتقد السفير الأمريكي في السودان جون جودفري الجمعة 25 أغسطس طرفي الصراع، قائلًا: إنهما غير جديرين بالحكم، مما أثار استياء وزارة الخارجية السودانية.
وهناك تحذيرات وتقارير من المنظمات والوكالات الإغاثية عن تردي الأوضاع الإنسانية في البلاد، إذ أعلنت اليونيسف في 4 أغسطس عن احتياج 24 مليون شخص للغذاء، لكن تلقى منهم 2.5 مليون فقط المساعدات بسبب القتال، ونقص التمويل، وصعوبة دخول العاملين في المجال الإنساني. هذا فضلًا عن التهديدات المتعلقة بانتشار الأوبئة والمجاعات، مما يفرض حتمية دخول المساعدات الإنسانية، ووقف إطلاق النار.
وختامًا، تقدم التحركات الأخيرة مؤشرات أولية على إمكانية، للتمهيد لتسوية محتملة للصراع في السودان، حال توافر التوافق بشأنها، بين الأطراف الداخلية والإقليمية، لكن هذا الوضع لا يعني انتهاء التباين الحاد في المواقف بين الجانبين على نحوٍ يلقي بصعوبات على الآليات الإقليمية، وجهود الوساطة لوقف الصراع، وبناء سلام مستقر في السودان.