بعد انقلابين فى مالى (عامى 2020 و2021)، وآخر فى غينيا، وانقلابين فى بوركينا فاسو (فى عام 2022)، وتشاد والنيجر، يعتبر انقلاب الجابون ثامن انقلاب فى غرب إفريقيا فى السنوات الثلاث الأخيرة. يأتى هذا الانقلاب الاخير فى ظرفية قارية يغلب عليها الارتباك، خاصة بعد انقلاب النيجر، وفى ظرفية محلية اتسمت باحتجاجات قوية، ضد نتائج الانتخابات الرئاسية التى أعلن الرئيس المعزول فوزه فيها بولاية ثالثة، مما أثار سخطا عارما وتشكيكا بالنتائج واتهامات بالتزوير، وهيأ الفرصة للتحرك العسكري.
على عكس الانقلاب فى النيجر الذى أثار ردود أفعال متباينة بين الفاعلين الأساسيين فى إفريقيا (خاصة أمريكا وفرنسا)، يبدو ان مصالح الغرب تلاقت مع الانقلاب فى الجابون. أمريكا اكتفت بالقول، على لسان منسق الاتصالات فى مجلس الأمن القومى فى البيت الأبيض، ان ما حصل هو سيطرة الجيش على السلطة, بدل وصفه بـالانقلاب. معتبرة انه أمر غير مقبول، والحل بالعودة إلى الديمقراطية. وفرنسا اعتبرت ان ما حدث فى الجابون هو شأن داخلى، وتبنت رواية الانتخابات المزورة، وجاء فى بيانها الرسمى أنها ليست متأكدة من أن نتائج الانتخابات الأخيرة تستجيب لتطلعات الشعب الجابونى، ومن هنا فهى ترى أن الحل فى انتخابات جديدة شفافة.
تميزت العلاقات بين الجابون وفرنسا بالمد والجذر خلال السنوات الأخيرة. على الرغم من حرص الرئيس المعزول، على بونجو، على الحفاظ على المصالح الفرنسية فى البلاد وتوطيد العلاقة مع باريس، وحرص الإليزيه فى المقابل على عدم فقدان حليفها، لكن تهم الفساد التى ظلت تلاحق عائلة بونجو، والانتقادات التى وجهت لماكرون بشأن دعم النظم الاستبدادية، دفعت الاول للتوجه نحو لندن ومحاولة الانضمام للكومنولث البريطانى العام الماضى، ودفعت الاليزيه بالقبول بالانقلاب الاخير، طالما ان المجموعة العسكرية لم تصدر أى موقف ضد باريس، ولم تهدد مصالحها. هذا يجعل انقلاب الجابون أقرب إلى انقلاب غينيا منه إلى انقلاب دول الساحل الثلاث (النيجر ومالى وبوركينا فاسو) التى أبدت القوى الانقلابية فيها عداء ضد الوجود الفرنسى فى أراضيها.
تتمتع فرنسا بنفوذ عسكرى واقتصادى كبير فى الجابون. لديها قاعدة عسكرية دائمة يوجد بها نحو 400 جندي. وتهيمن مجموعة توتال على إنتاج النفط بالبلاد، بإنتاج يصل الى 200 ألف برميل يوميا، يمثل نحو 80% من صادرات البلاد. كما تستخرج شركة إيراميت الفرنسية المنجنيز فى الجابون، باعتبارها ثانى أكبر منتج لهذا المعدن فى العالم، والذى يستخدم فى صناعة الحديد والصلب وبطاريات السيارات. وأصبحت الجابون، فى عام 2022، أهم وجهة للصادرات الفرنسية، بين الدول الست الأعضاء فى المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا (CEMAC)، التى تضم أيضا الكاميرون وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد والكونغو وغينيا الاستوائية.
مادامت باريس، ومن خلفها الاتحاد الأوروبى، على يقين بأن الجابون خالية من النفوذ الروسى، ومادامت لم تتخذ موقفا معاديا للانقلابيين، ولم تتحدث عن فرض عقوبات عليهم، ولم تحرض على عمل عسكرى ضدهم، مثلما تفعل فى النيجر، فهذا يعنى أنها غير قلقة على مصالحها ونفوذها فى البلاد. ومادام هناك ترحيب داخلى بالانقلاب، واكتفاء المجتمع الدولى فقط بـالإدانة، مقابل عدم رغبة الدول الإفريقية فى التدخل، سواء من خلال الاتحاد الإفريقى، الذى اكتفى فى حالات مماثلة بتعليق عضوية البلاد فى مؤسساته حتى إجراء انتخابات ديمقراطية، او من خلال المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا (إيكاس) -المنوط بها التدخل لاستعادة النظم المنتخبة ورفض قيام العسكر بالإطاحة بهذه النظم- فهذا يعنى القبول بالأمر الواقع. ويعنى، أيضا، استمرار قادة الانقلاب لفترة انتقالية يقومون بعدها بإجراء انتخابات ستحسم إما لصالح القائد الحالى أو أى شخص آخر يتم التوافق عليه داخل النخبة العسكرية.
المؤسف ان عدوى الانقلابات من المرجح أن تنتقل الى دول أخرى. فى القارة الإفريقية، ولاسيما مجموعة بلدان غرب إفريقيا، لديها شعور قوى بالهوية الجماعية. ومادامت شرارة الانقلابات قد اندلعت، فمن المرجح أن تنتشر كالنار فى الهشيم عبر دول أخرى. هذا الوضع قد يؤدى الى تنامى ظاهرة المناطق الرمادية التى تنتشر فيها كل أنواع الجرائم ضد الإنسانية، من تجارة الرقيق، والهجرة غير المشروعة، أو التجنيد فى الجماعات الإجرامية والإرهابية وغيرها. وقد يطيل عملية استغلال الموارد الإفريقية ويعيق التنمية فيها، ويدفع إلى تحولات أمنية وجيوسياسية واسعة النطاق.