اعتمدت استجابة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لمواجهة تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، على انتهاج استراتيجية مُتعددة المسارات، تمزج ما بين الردع والدفاع على المدى الطويل، لأي تهديدات مُحتملة، قد تتعرض لها الحلفاء من قبل روسيا، وذلك من خلال إعادة هيكلة خططه الدفاعية الإقليمية لأول مرة، منذ انتهاء الحرب الباردة، بالإضافة إلى تطوير المفهوم الاستراتيجي للحلف؛ بما يضمن تحقيق الدفاع الجماعي، وتوضيح التحديات، والتهديدات التي تواجهها الدول الأعضاء؛ حيث اعتبر المفهوم الجديد لعام 2022، روسيا بأنها “أكبر وأهم تهديد مباشر لأمن الحلفاء، وعلى السلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية”. هذا بجانب العمل على ضمان استعداد وجاهزية قوات الحلفاء، للتصدي لأي تهديد قائم، أو مُحتمل، عبر تعزيز القابلية للتشغيل البيني، لتحسين القدرة على الدفاع المشترك، وهو ما تجلى في مناورات البحرية، التي تُعرف باسم “Northern Coasts”، التي تُجرى خلال الفترة من 9 إلى 23 سبتمبر 2023، في بحر البلطيق، بقيادة ألمانيا.
وللمرة الأولى ستقوم هيئة أركان القوات البحرية الألمانية بـ “التخطيط وقيادة مناوراتٍ بهذا الحجم”، كما إن هدف المناورات هذا العام تم إعادة النظر فيه، لكي يتناسب مع البيئة الأمنية المتغيرة بشكل متلاحق؛ حيث ركز على الدفاع الجماعي، عبر محاكاة رد فعل الحلف على أي هجوم، في تحول نوعي عن السيناريوهات السابقة، التي كانت تحاكيها مناورات “الساحل الشمالي”، التي كانت قائمة بالأساس على إدارة الأزمات، والحد من اندلاع الصراعات، بجانب مكافحة الإرهاب. الأمر الذي أثار عددًا من التساؤلات، بشأن هذه المناورات والدول المشاركة فيها، ودلالات تنفيذها في منطقة بحر البلطيق.
ويذكر أنّ هذه المناورات ليست الأولى في حد ذاتها، التي يتم إجراؤها في المنطقة من قبل الحلفاء، ففي 4 يونيو الماضي شهدت المنطقة مناورات جو – بحرية قام بها الناتو، شارك فيها ما يقرب من 6 آلاف جندي، ونحو 45 طائرة و50 سفينة، في المقابل ردت روسيا بإجراء مناورات في نفس المنطقة، خلال الفترة من 5 إلى 15 يونيو، بمشاركة أكثر من 3 آلاف جندي، ونحو 40 سفينة حربية، وغيرها من القطع، والمعدات العسكرية. وبالرغم من أنّ هذه المناورات تُعقد بشكل دوري، إلا إن أهداف، وحجم القوات المشاركة، والقطع البحرية، ونوعية الأسلحة، أصبحت مُغايرة، وتميل نحو التزايد، واتساع نطاق العمليات لإظهار القوة من قبل الجانبين، في مناطق النفوذ الجيواستراتيجية.
تحول استراتيجي
تقوم قوات الحلف بإجراء مناورات بحرية جماعية سنوية قبالة سواحل لاتفيا وإستونيا، باعتبارهم الدولتين المضيفتين للمناورات هذا العام؛ حيث يتم تحديد نطاق المناطق البحرية الخاصة بالمناورات بشكل أساسي، من خلال الدول المضيفة، وفي محاولة لتفادي استفزاز روسيا، لن تتم المناورات أيضًا بالقرب من كالينينجراد الواقعة بين بولندا وليتوانيا. وذلك بمشاركة باقي كافّة دول الحلف الواقعة في منطقة بحر البلطيق، بجانب السويد – التي من المنتظر أن تحصل على عضوية الحلف بشكل رسمي، بعد تصديق تركيا، والمجر، على برتوكول انضمامها – بالإضافة إلى فرنسا، وبلجيكا، وكندا، وهولندا، والولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، ليصل إجمالي الدول المشاركة نحو 14 دولة.
تقود مناورات “الساحل الشمالي” لعام 2023، ألمانيا، فوفقًا لنائب قائد البحرية الألمانية، الأدميرال جان كريستيان كاك، حيث ستكون هذه أول مناورة بهذا الحجم تقودها البحرية الألمانية، وهي أكبر بحرية في بحر البلطيق، وذلك من مقرها البحري الجديد في روستوك، الذي وصل إلى الاستعداد التشغيلي”. إذ تسعى برلين للمشاركة بفعاليةٍ لتعزيز قدرات الحلف الدفاعية في المنطقة، من خلال جعل هذا المقر بمثابة مركز إقليمي لقيادة عمليات الناتو في بحر البلطيق، في حالة اندلاع أي هجوم.
وخلال فترة المناورات ستكون عمليات قائمة بالأساس على تدريب الجنود المشاركة، والبالغ عددهم نحو 3200 جندي، وحوالي 30 سفينة وغواصة، وما يقرب من 15 طائرة، ووحدات إنزال متعددة، على العمليات البرمائية، والدفاع الجوي، والضربات من البحر إلى الأرض، وتأمين الممرات البحرية، وسيكون هناك خمس مجموعات عمل: تشكيلان بقيادة ألمانيا، واثنان دائمان للناتو مسئولان عن بحر البلطيق، وآخر يشمل الطائرات المضادة للغواصات، بجانب مجموعة مهام برمائية بقيادة واشنطن؛ إذ سترسل البحرية الأمريكية السفينة “ميسا فيردي” المصممة لنقل وإنزال ما يقرب من 800 من مشاة البحرية في هجوم برمائي، وذلك وفقًا لما أوضحه “كاك”.
ومن الجدير بالذكر أنّ مناورات “الساحل الشمالي” منذ إطلاقها في عام 2007، بمبادرة من البحرية الألمانية، يتناوب على قيادتها كل من الدنمارك، والسويد، وفنلندا، بجانب ألمانيا، كانت تستهدف التعاون بين دول الحلف والاتحاد الأوروبي في منطقة البلطيق، في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، بالتزامن مع توسع الناتو شرقًا، خاصّة مع انضمام دول البلطيق في عام 2004، وكانت تستند في أهدافها على الاستجابة للأزمات، ومكافحة الإرهاب، ولكن بدا التحول التدريجي في مهام عملياتها، منذ عام 2014، مرتكزًا بالأساس على تحسين آليات الدفاع، على المستوى الوطني والجماعي.
رسائل عدّة
تعكس هذه المناورات مدى التحول في استراتيجية الحلف تجاه منطقة بحر البلطيق، والرغبة في إظهار مدى قدرته على تحقيق الدفاع الجماعي، خاصّة مع استمرار الحرب لأكثر من عام ونصف بدون حسم من قبل طرفي الصراع. لذلك تحمل هذه المناورات جُملةً من الرسائل، التي تتجلى على النحو التالي:
- القابلية للدفاع المشترك: تستهدف هذه المناورات تعزيز قدرة الدول الحلفاء على التعاون والتنسيق بين القوات البحرية، والبرية، والجوية، في منطقة بحر البلطيق، لمجابهة أي هجوم مُحتمل على دول الجناح الشمالي للحلف، حيث أدت الحرب إلى تغيير البيئة الأمنية في أوروبا بشكل عام، وفي منطقة بحر البلطيق تحديدًا، خاصّة بعد أن أصبحت روسيا أكبر تهديد للأمن الأوروبي – الأطلسي، وهو ما تم تأكيده في المفهوم الاستراتيجي للحلف لعام 2022، إبان قمة الحلف التي عقدت في مدريد نهاية شهر يونيو 2022.
- إظهار القوة: تُعد هذه المناورات ترجمة عملية لموقف الحلفاء الحاسم تجاه روسيا، ومحاولة منهم لإرسال رسالة مفادها: بأنّ منطقة بحر البلطيق التي تعتبر الفناء الخلفي لموسكو، أضحت بعد انضمام فنلندا للحلف، والسويد قريبًا، بحيرة يسيطر عليها الناتو، الأمر الذي سيساهم في إحداث تحول استراتيجي، في توازنات القوة في المنطقة لصالح الحلف.
- الردع الاستباقي: تأتي هذه المناورات في إطار توجه الحلف نحو الاعتماد على القدرات العسكرية الثقيلة، عالية الجاهزية، لتحسين قدراته على الرد السريع على التهديدات الهجينة، فضلًا عن رغبته في تأمين مصالح الحلفاء في المنطقة، ذات الأهمية الاستراتيجية على المدى الطويل، وليس مجرد استجابة مؤقتة لاحتواء تبعات الحرب. فبعد يومين من بدء هذه المناورات، أعلن الناتو إنه سيجري خلال شهري فبراير ومارس من العام المقبل، أكبر مناورة مشتركة حية منذ الحرب الباردة، في دول البلطيق، وألمانيا، وبولندا، لمجابهة أي تهديد روسي ضد الدول الأعضاء، بمشاركة ما يقرب من 40 ألف جندي. كما إنها تعتبر جزءًا من استراتيجية تدريب جديدة ترتكز على قيام الناتو بإجراء مناورتين كبيرتين كل عام، بدلًا من مناورة واحدة، وذلك وفقًا لصحيفة “فايننشال تايمز“.
- التعامل بالمثل: بالرغم من أنّ مناورات الساحل الشمالي تُجرى سنويًا، إلا إن نسخة هذا العام جاءت كرد غير مباشر أيضًا على قيام روسيا بمناورات في بحر البلطيق، كان آخرها في أغسطس 2023؛ حيث تم إجراء مناورات “أوشن شيلد 2023″، لاختبار مدى جاهزية قواتها البحرية، لضمان تأمين الممرات البحرية، والدفاع عن الساحل البحري. بالإضافة إلى تنامي النفوذ الروسي؛ حيث تمتلك روسيا أسطولًا بحريًا في المنطقة في كالينينجراد، كما أعلن الرئيس الروسي خلال الاحتفال بيوم البحرية في يوليو الماضي، عن انضمام 30 قطعة بحرية إلى أساطيلها البحرية، بما سيقوي، ويزايد من قدرت قواته، وهو ما يمثل رسالة ردع، مُوجهة أيضًا للقوى الغربية على خلفية الحرب.
- ترسيخ النفوذ: ساهم استمرار الحلف في انتهاج “سياسة الباب المفتوح”، في توسع نطاق انتشار قواته، فضلًا عن إحكام سيطرته على عدد من المناطق الحيوية، مثل بحر البلطيق، خاصّة بعد انضمام فنلندا بشكل رسمي، والسويد المرتقب؛ إذ ستعزز الدولتان من قدرات الناتو على مستوى القابلية للتعاون البيني مع قوات الحلف، على خلفية مشاركتهم في مناورات تابعة للحلف، كما أنّ أنظمة التسليح في كل من “ستوكهولم” و”هلسنكي” متوافقة مع معايير الناتو، الأمر الذي سيزيد من تواجد الحلف بشكل دائم، في المجال الحيوي لموسكو، ويطوّق من نفوذها.
- تحول جذري: تعكس قيادة ألمانيا لهذه المناورات رغبة الحكومة الائتلافية في إظهار مدى التزامها، بإعادة هيكلة سياساتها الخارجية والدفاعية، على المستوى الوطني، وتحت مظلة الناتو، في سياق الحرب الروسية – الأوكرانية، التي كانت الدافع الأساسي لانتهاج مثل هذا التوجه؛ حيث جاءت استجاباتها لمآلات الحرب متوافقة مع الحلفاء، بشأن إدانة روسيا، ودعم أوكرانيا على مستوى الخطاب السياسي، والآليات التي استحدثتها للممارسة هذا الدور، وهو ما تجلى في إصدار الحكومة الألمانية أول استراتيجية للأمن القومي الألماني، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، في يونيو 2023، تحت عنوان: ” قوي، مرن، مستمر: الأمن المتكامل لألمانيا”.
ختامًا، من المُتوقع أن تشهد منطقة بحر البلطيق، ذات الأهمية الاستراتيجية للناتو وروسيا، جُملة من التحولات، على خلفية انتهاج الجانبين سياسة إظهار القوة العسكرية في المنطقة، دون الدخول في مواجهة مباشرة، وذلك من خلال تعديل مهام العمليات والتدريبات العسكرية السنوية، التي يتم إجراؤها في المنطقة، بجانب التركيز بشكل أساسي على اختبار مدى جاهزية القوات، للرد السريع على أي تهديد مُحتمل.