دائمًا ما تثير قضية دمج الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي الجدل بين مؤيد باحث عن حق الدولة في تحصيل الضرائب، ومعارض يستهدف رفع معدلات التشغيل، واستيعاب قوة العمل المتزايدة في مصر عامًا بعد آخر. وتحتل تلك القضية أهمية قصوى في الاقتصاد المصري في ظل التوجه نحو تشغيل كافة إمكانيات الدولة، وتوطين الصناعة المصرية، وتعزيز الصادرات، فما هي تحديات وآليات دمج الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي.
التعريف والمؤشرات
يعرف الاقتصاد غير الرسمي بأنه ذلك الجزء من الاقتصاد الذي لا يراقب من قبل الحكومة، ولا تفرض عليه ضرائب، ولا تدخل أنشطته ضمن الناتج الإجمالي للدولة، سواء المحلي أو القومي، ولا يدخل في الإحصاءات الرسمية للدول، ويحتوي على أنشطة غير قانونية، أو ما يعرف بالسوق السوداء، بجانب الأنشطة القانونية التي لا يبلغ عنها، أو يبلغ عنها بشكل ناقص من أجل التهرب من الضرائب. وقد أطلق عليه الاقتصادي البريطاني “آرثر ويليم لويس”، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1979، الاقتصاد الرمادي، وأشار إلى أنه على الرغم من توفيره لمصدر دخل، إلا أن المشاركين به لا يتمتعون بالأمن الوظيفي، والعمل الآمن، والضمان الاجتماعي.
وتتسع أنشطة القطاع غير الرسمي؛ حيث تمتد من العمل الحر المباشر إلى العمل لدى الغير، كما يتنوع مستوى المهارة للمشاركين به، فيشمل الأميين، والعمالة غير الماهرة، بجانب العمالة المدربة ذات المهارة العالية، وكذلك تختلف درجة المكون التكنولوجي المستخدم في الإنتاج.
وعلى الرغم من عدم توافر الإحصائيات الدقيقة لذلك القطاع؛ إلا أن التقديرات تشير إلى وصول نسبته بين 40-60% من حجم الاقتصاد الكلي، في الاقتصادات الصاعدة، والنامية، ويعمل به ما يصل الى 70% من حجم العاملين بتلك الدول. وفي مصر – ووفقًا لبيانات أحدث تعداد اقتصادي لعام 2017/2018- تقدر حجم المنشآت الاقتصادية غير الرسمية بنحو 2 مليون منشأة، وهو ما يمثل 53% من إجمالي المنشآت الاقتصادية. وعند مقارنة تلك النسب بعدد من الدول العربية تشير إحصاءات صندوق النقد العربي لعام 2017 إلى تقدير حجم الاقتصاد غير الرسمي في مصر بنحو 23.12%، بينما تم تقدير حجمه في الإمارات بما لا يتجاوز1%، وفي المغرب بلغ 11.3%، وفي تونس 22%، ويرجع ذلك التفاوت إلى العديد من الأسباب، على رأسها أنه يتم إدراج القطاع الزراعي ضمن القطاع غير الرسمي في مصر، في حين يتم استبعاده في العديد من الدول الأخرى. ويعتبر قطاع الزراعة من أكثر القطاعات التي لديها منشآت غير رسمية، حيث تقدر نسبة المنشآت الزراعية العاملة بشكل غير رسمي بنسبة 73% من إجمالي المنشآت العاملة بقطاع الزراعة، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي التعبئة العامة والاحصاء.
أبعاد تأثير الاقتصاد غير الرسمي على الاقتصاد الكلي
يتبين من تعريف الاقتصاد غير الرسمي أنّ تأثيره على الدولة ينقسم إلى ثلاثة أبعاد: البعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، وبعد السلامة والأمن العام؛ فأما بالنسبة للبعد الاقتصادي تشير بيانات أحدث تعداد اقتصادي لعام 2017/2018، أنّ حجم المنشآت الاقتصادية غير الرسمية في مصر تقدر بنحو 2 مليون منشأة، بنسبة 53% من إجمالي المنشآت الاقتصادية، وبلغ عدد العاملين به نحو 4 مليون عامل، بما يعادل 31.4% من إجمالي العاملين، ويصل حجم الإنتاج إلى 362.1 مليار جنيه بنسبة 11.1% من الناتج المحلي الإجمالي، ويصل التكوين الرأسمالي به نحو 8.7 مليار جنيه. وفي مقابل ذلك، تقدر القيمة المضافة المتولدة عن هذا القطاع بنحو 238.8 مليار جنيه بنسبة 12.8%، ويتبين من ذلك انخفاض القيمة المضافة المتولدة من هذا القطاع، على الرغم من استحواذه على جانب كبير من عناصر الإنتاج المتوفرة بالاقتصاد، ومن ثَمّ فمع تضخم حجم القطاع غير الرسمي فإنّ ذلك يؤدي إلى تشوهات، واختلالات هيكلية بالاقتصاد الكلي، ويؤثر على مدى فعالية السياسات الاقتصادية، ويحد من قدرة الدول على مواجهة الأزمات ذات الأبعاد الاقتصادية.
وعلى الصعيد الاجتماعي، فعلى الرغم من توفيره لفرص عمل لشريحة كبيرة من المجتمع، لم يتم استيعابها بالاقتصاد الرسمي، ويوفر لهم مصدرًا للدخل، إلا أنه لا يوفر الأمن والرضا الوظيفي، ويستدل على ذلك من خلال عدم تضمين العاملين به في منظومة التأمينات، والمعاشات الحكومية.
وعلى مستوى الأمن، والسلامة، والصحة المهنية، فإنّ ممارسة تلك الأعمال بعيدًا عن رقابة وإشراف الجهات المعنية، يهدد حياة العاملين به، والمواطنين في النطاق الجغرافي، في تلك الكيانات، وكذلك المستهلكين للسلع المنتجة في هذا القطاع، ولا تتوفر لهم سبل اللجوء لأجهزة حماية المستهلك في حالات تعرضهم للضرر.
ومن هنا يظهر تباين تأثيره على النمو الاقتصادي، والتنمية الاقتصادية؛ فإذا كان ذلك القطاع لا يدخل ضمن الناتج الإجمالي للدولة، فلا يساهم في رفع معدل النمو الاقتصادي، إلا أنه نشاط اقتصادي يترتب عليه توليد سلع وخدمات، ويوفر فرص عمل، ويولد دخولًا وأرباحًا للعاملين به، تساعد على تحسن المستوى المعيشي، ولكنه ينطوي على مخاطر، وأضرار للعاملين به والمتعاملين معه.
سبل وآليات دمج الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي
لعل أفضل آليات دمج وحدات الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي، هي تقديم مزيد من الحوافز، والتيسيرات، والإصلاحات للقطاع الرسمي، حتى تتولد رغبة ذاتية لوحدات القطاع غير الرسمي للتحول للمنظومة الرسمية للاستفادة من تلك المزايا والتيسيرات. وعلى الرغم من اتخاذ الدولة لعدد كبير من إجراءات تيسير مناخ الأعمال على مستوى السياسات، والبيئة التشريعية، إلا أنه على المستوى التنفيذي لا يزال هناك العديد من التحديات، التي ترتبط بتفعيل تلك القوانين، ومنها قانون تنمية المشروعات المتوسطة، والصغيرة، ومتناهية الصغر، رقم 152 لسنة 2020. ويهدف هذا القانون إلى تنظيم عمل المشروعات المتوسطة، والصغيرة، ومتناهية الصغر، فضلًا عن ضم مشروعات الاقتصاد غير الرسمي إلى الاقتصاد الرسمي، وقد منح القانون مهلةً لمشروعات الاقتصاد غير الرسمي لتوفيق أوضاعها، ومنحها ترخيصًا مؤقتًا لحين توفيق أوضاعها، وتم مد تلك المهلة مرتين، تنتهي في أبريل 2024. وعلى الرغم من صدور القانون منذ أكثر من ثلاث سنوات، إلا أن ما تقدم لتوفيق الأوضاع من الوحدات غير الرسمية يقدر بنحو عشرة آلاف مشروع فقط من حوالي ٢ مليون مشروع غير رسمي، ومن انضم بالفعل لمنظومة المحاسبة بنظام المشروعات الصغيرة، والمتوسطة، لم يتجاوز ٧٠٠٠ ممول.
وفي سبيل تنشيط المشروعات الصغيرة، والمتوسطة، يقترح أن تتولى إحدى الجهات الحكومية ذات الصلة شراء منتجات الشركات الصغيرة، والمتوسطة، والتسويق لها، بما يحفز صغار المستثمرين على الدخول في النشاط الاقتصادي، بعد ضمان فرصة تصريف المنتجات، فضلًا عن أهمية ذلك في ضم وحدات القطاع غير الرسمي للاقتصاد الرسمي.
أما بالنسبة للتيسير الضريبي على المشروعات المتوسطة، والصغيرة، فإنه يوصي بإجراء تعديل ضريبي يضمن معاملة عادلة للشركات الصغيرة، والمتوسطة، يتم بموجبه إقرار ضرائب تصاعدية على أرباح الشركات، ووفقًا لشرائح أسوة بضرائب الدخل، حتى تتمتع المشروعات الصغيرة، والمتوسطة، بمعاملة ضريبية تختلف عن الشركات الكبيرة.
ومع توجه الدولة نحو تعزيز دور القطاع الخاص، يقترح تفعيل دور التجمعات الصناعية المتكاملة، والتي تجمع كلًا من الوحدات الكبيرة، والمتوسطة، والصغيرة؛ بهدف تحقيق التكامل الإنتاجي من خلال تولي المشروعات الأصغر نسبيًا إنتاج السلع الوسيطة، وإمداداها للمشروعات الأكبر، بما يضمن فرص التسويق، وتصريف منتجات المشروعات الصغيرة، والمتوسطة، فضلًا عن خلق سلاسل إمداد محلية، وزيادة حصة المكون المحلي بالمنتجات المصرية، وما يتبع ذلك من تأثيرات.