فى عام ١٩٩٣ ومع توقيع اتفاق أوسلو بين رئيس الوزراء الإسرائيلى إسحاق رابين، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، بدأ مفهوم «الشرق الأوسط الجديد» فى الظهور، وقتها طرح شيمون بيريز، وزير الخارجية الإسرائيلى، رؤية للسلام بين العرب وإسرائيل تقوم على التعاون الاقتصادى، مفترضًا أن هذا التعاون سيؤدى إلى تحقيق مصالح مادية مشتركة تُذيب العداوة بين الطرفين. وفى هذا الإطار انطلقت مباحثات متعددة الأطراف بين إسرائيل وبعض الدول العربية حول قضايا للتعاون فى مجالات مثل الاقتصاد، والمياه، ونزع السلاح وغيرها.
لكن سرعان ما اغتيل «رابين»، وتجمدت عملية السلام، وسيطر اليمين الإسرائيلى على الحكم حتى يومنا هذا.
اليوم، يتصاعد الحديث مرة أخرى عن «شرق أوسط جديد»، ولكن النسخة الجديدة تختلف بعض الشىء عن النسخة القديمة.
مجلة «الإيكونومست» البريطانية، النافذة فى دوائر صنع القرار فى الغرب، جعلت عنوان غلاف عددها الأخير «الشرق الأوسط الجديد: الفرص والمخاطر»، وتضمن العدد مقالين وتقريرًا موسعًا حول الموضوع.
أهمية وخطورة ما جاء فى «الإيكونومست» هو أنه يعكس مجموعة من الأفكار تتبلور الآن فى الغرب حول هذه المنطقة. أفكار- لا شك لدىَّ- أنها سوف تتحول إلى رؤية، وأساس لسياسة الغرب تجاه منطقة الشرق الأوسط.
الشرق الأوسط- وفقًا للمجلة- مازال مهمًّا، يخرج منه ٤٦٪ من صادرات النفط، و٣٠٪ من صادرات الغاز الطبيعى المُسال، وتتمتع المنطقة باحتياطيات هائلة (٥٢٪ من الإجمالى العالمى للنفط و٤٣٪ للغاز). المنطقة تربط أوروبا وإفريقيا وآسيا. وتمر نحو ٣٠% من حاويات الشحن العالمية عبر قناة السويس، وسكانها الشباب هم رصيد آخر، حيث إن ٥٥٪ من سكان الشرق الأوسط تقل أعمارهم عن ٣٠ عامًا.
ولكن الشرق الأوسط الجديد- استنادًا للإيكونومست- يشهد عدة تحولات ضخمة، منها التحول فى مواقف المواطنين، وتُظهر استطلاعات الرأى العام أن العرب ينظرون إلى الاقتصاد على أنه هو القضية محل الاهتمام الأول، ويذكر حوالى ثلث الشباب العربى أن تكلفة المعيشة هى المشكلة الكبرى فى المنطقة، ويشير ثلث آخر إلى البطالة. وعندما سُئلوا عما إذا كان الاستقرار أم الديمقراطية أكثر أهمية، اختار ٨٢٪ الاستقرار. ووفقًا للمجلة، فإن أعدادًا متزايدة تعتقد أن الديمقراطية سيئة للنمو الاقتصادى، وفقد المواطنون اهتمامهم أيضًا بالإسلام السياسى. وخلاصة ما سبق أن فكرة الغرب عن المنطقة لم تعد مسألة الديمقراطية تحتل فيها أولوية، أو يتم الرهان على مشروع الإسلام السياسى.
تحول آخر فى الشرق الأوسط الجديد هو ازدياد التباعد بين الدول العربية، وخاصة دول الخليج، والولايات المتحدة الأمريكية، ويقابله عدم اهتمام أمريكى بالشرق الأوسط، فى ظل أولويات أخرى تتعلق بالمنافسة مع الصين، والحرب فى أوكرانيا، والاضطرابات السياسية فى الداخل. وتضاءل الدور الاقتصادى الذى تلعبه أمريكا أيضًا، حيث تشير المجلة إلى أنه على مدى السنوات الثلاثين الماضية ارتفعت حصة صادرات الشرق الأوسط المتجهة إلى الصين والهند من ٥٪ إلى ٢٦٪،وانخفضت الحصة المرسلة إلى أوروبا وأمريكا من ٣٤٪ إلى ١٦٪، وفى التسعينيات استحوذت الصين على أقل من ١٪ من حصة صادرات السعودية من النفط الخام، وبحلول عام ٢٠٢١ بلغت هذه النسبة ٢٨٪،ولكن المجلة تحذر من أن يراهن العرب على الصين، وأن تخطئ المنطقة فى تحقيق توازنها الجيوسياسى لأن ذلك قد يغضب الولايات المتحدة، التى لا تزال- وفقًا للمجلة- هى الدولة الوحيدة الراغبة والقادرة على بسط قوتها العسكرية فى جميع أنحاء المنطقة، بالإضافة إلى نفوذها المالى والاقتصادى الكبير، ولا يمكن لدول المنطقة أن تخاطر بفقدانها كشريك.
أما الملمح الثالث والخطير للنسخة الثانية للشرق الأوسط الجديد، والتى تختلف عن النسخة الأولى فى التسعينيات، فإنه يتم تحديد الشرق الأوسط الجديد بـ«المعنى الإيجابى» أو «قصص النجاح» على أنه يتضمن نطاقًا ضيقًا، وهو دول الخليج وإسرائيل، وليس النطاق الواسع الذى يضم كل دول المنطقة، وكأن هناك شرقًا أوسط «جديدًا» يضم إسرائيل ودول الخليج، وآخر «قديمًا» يضم باقى المنطقة. ووفقًا للمجلة، فإن دول الخليج وإسرائيل تشكل ١٤٪ فقط من السكان، ولكن ٦٠٪ من الناتج المحلى الإجمالى، و٧٣٪ من الصادرات السلعية، و٧٥٪ من الاستثمارات متعددة الجنسيات.
باختصار، تقرير مجلة الإيكونومست يتضمن العديد من الأفكار الأخرى المتعلقة بالشرق الأوسط الجديد، ولكن خلاصته أن الغرب سيتعامل بواقعية فيما يتعلق بالتطور السياسى للمنطقة، وخاصة قضيتى الديمقراطية والإسلام السياسى، وأن الغرب قلق من تطوير العلاقات بين المنطقة وكل من الصين وروسيا. وسيكون أشد اهتمامًا بنطاق جغرافى ضيق للشرق الأوسط الجديد.
وختامًا، فإن رؤية الغرب للشرق الأوسط الجديد كما عبرت عنها مجلة الإيكونومست تتطلب منّا الدراسة والتفكير لأنها تشكل أيضًا قناعات دوائر صنع القرار فى الغرب.