رفعت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني النظرة المستقبلية للاقتصاد التركي من سلبية إلى مستقرة، مع إبقاء تصنيفها الائتماني عند “B” بدعم من تغيير التوجهات الاقتصادية للفريق الاقتصادي الجديد، والذي بدأ في تبني سياسات أكثر تقليدية، تسهم في مواجهة التضخم، ودعم قيمة العملة، وزيادة احتياطي العملات الأجنبية لدى البلاد. ومنذ انتخابات مايو، بدأت حكومة الرئيس “رجب طيب أردوغان” تحولًا جذريًا عن السياسات غير التقليدية، بما في ذلك تخفيضات أسعار الفائدة التي فاقمت أزمة الليرة، وأدت إلى ارتفاع التضخم.
وفي ضوء ذلك، يستهدف المقال الآتي: الوقوف على أهم السياسات التي تبناها الاقتصاد التركي مؤخرًا عقب فوز الرئيس “رجب طيب أردوغان” في انتخابات مايو 2023، مع تحليل أبرز التداعيات المحتملة لاتباع النهج التقليدي في تركيا من جديد.
ملامح التحول في السياسة الاقتصادية
اتخذ “أردوغان” سلسلة من الإجراءات الهادفة لطمأنة المستثمرين والأسواق الدولية، من ضمنها تعيين الاقتصادي “محمد شيمشك” وزيرًا للمالية، و”حفيظة غاية أركان” محافظًا للبنك المركزي مع منحهم حرية اتخاذ قرارات اقتصادية أكثر تقليدية، والتي تتمثل أبرزها فيما يلي:
• إنهاء موجة التيسير النقدي: بدأ الفريق الاقتصادي الجديد منذ يونيو 2023 للمرة الأولى في عامين في رفع سعر الفائدة بصورة تدريجية بنسبة 21.5% (2150 نقطة أساس)، على مدار أربعة اجتماعات من 8.5% لتصل إلى 30% في اجتماعه الأخير المنعقد في 21 سبتمبر 2023؛ حيث قرر رفع أسعار الفائدة الأساسية بمقدار 5% (500 نقطة أساس). وذلك في خطوة تدلل على تصميم مسئولي السياسة النقدية في تركيا على معالجة التضخم، وتراجع قيمة العملة، وذلك في ظل رفع توقعات التضخم الصادرة عن البنك المركزي إلى 58% بحلول نهاية 2023، ولهذا، أكدت لجنة السياسة النقدية إنها ستواصل رفع الفائدة بطريقة تدريجية، وفي التوقيتات المناسبة.
واتصالًا بذلك؛ تعتبر قرارات رفع الفائدة دلالة قوية على تحلي المصرف المركزي التركي بالاستقلالية اللازمة لإنهاء السياسة النقدية غير التقليدية، التي أصر على اتباعها الرئيس “أردوغان” في فترات ولايته السابقة، والتي تميزت بخفض معدل الفائدة، رغم ارتفاع المستوى العام للأسعار، وهو عكس ما تنص عليه النظريات الاقتصادية بشأن “مساهمة خفض الفائدة في انخفاض الإقبال على الودائع، وهو ما يعني زيادة السيولة في أيدي المواطنين، وارتفاع مستوى الإنفاق الذي سيصب في النهاية في زيادة معدلات التضخم”.
• إطلاق برنامج اقتصادي متوسط الأجل: كشفت الحكومة التركية عن برنامج اقتصادي جديد، الذي يغطي الثلاث سنوات المقبلة (2024-2026)، والذي يستهدف زيادة إمكانات النمو والإنتاج ذي القيمة المضافة العالية، وخلق وظائف جديدة، وخفض عجز الحساب الجاري، ليتم تمويله بشكل رئيسي من خلال الادخار المحلي، والاستثمار الأجنبي المباشر، على أساس الاستثمارات الإنتاجية والتوجه التصديرى، إلى جانب زيادة فرص العمل، وتحسين الكفاءة والمهارات في سوق العمل، وزيادة التوظيف من خلال تعزيز الموارد البشرية، وكذلك خفض التضخم إلى خانة الآحاد بحلول عام 2026. وبشكل عام، ترتكز الخطة المتوسطة الأجل الجديدة على سبع ركائز تشمل: النمو والتجارة، والقوى العاملة والتوظيف، واستقرار الأسعار، وأوضاع المالية العامة، وإدارة الكوارث، والتحول الأخضر والرقمي، وتعزيز بيئة الأعمال والاستثمار. وفي هذا السياق، يتوقع البرنامج الاقتصادي الجديد تحقيق المستهدفات الآتية:
2023 | 2024 | 2025 | 2026 | |
نمو الناتج المحلي الإجمالي | 4.4% | 4% | 4.5% | 5% |
معدل البطالة | 10.1% | 10.3% | 9.9% | 9.3% |
معدل التضخم | 65% | 33% | 15.2% | 8.5% |
وإلى جانب ما سبق؛ تستهدف الخطة الاقتصادية الوصول بصادرات البلاد لعام 2023 إلى 255 مليار دولار، وزيادتها عقب ذلك بحلول عام 2026 إلى 302.2 مليار دولار، وكذلك تستهدف زيادة الإيرادات السياحية إلى 71.3 مليار دولار بحلول عام 2026.
• إيقاف العمل ببرنامج الودائع المحمية: تراجع البنك المركزي التركي عن خطة حماية الودائع بالليرة من تقلبات سعر الصرف، والتي تطالب البنوك بتحويل قدر معين من الودائع بالعملات الأجنبية إلى ودائع بالليرة تتمتع بالحماية من تقلبات سعر الصرف، وهو برنامج تم إطلاقه في أواخر عام 2021، يضمن للمودعين الحصول على الفائدة المعلنة، مضافًا إليها الفرق في سعر الدولار بين توقيتي الإيداع والسحب، لضمان تحقيق نفس مستوى الأرباح المحتملة للمدخرات بالعملات الأجنبية، عبر إبقاء الأصول بالليرة التركية. وقد تكبد المصرف المركزي التركي نحو 300 مليار ليرة (11 مليار دولار) من أجل تغطية تكاليف هذا البرنامج، بسبب تراجع الليرة التركية بنحو 30% منذ بداية العام الحالي، وبأكثر من 20% في شهر يونيو وحده.
• رفع الضرائب: رفعت تركيا ضريبة القيمة المضافة بمقدار نقطتين مئويتين على السلع والخدمات من 18% إلى 20%، كما رفعت على سلع أساسية، مثل: المناشف الورقية والمنظفات إلى 10% مقارنة بنحو 8%، فضلًا عن زيادة ضريبة التأمين، والمعاملات المصرفية، التي تنطبق على القروض الشخصية إلى 15% مقابل 10% سابقًا.
كما أعلنت تركيا رفع ضريبة الاستهلاك الخاصّة على البنزين وزيت الديزل، في إطار جهود الحكومة لمواجهة التحديات الاقتصادية؛ إذ ارتفع معدل الضريبة على البنزين من 2.52 ليرة تركية (0.1 دولار) للتر الواحد إلى 7.52 ليرة، بينما ارتفعت الضريبة على زيت الديزل من 2.05 ليرة إلى 7.05 ليرة.
رؤية مستقبلية
يستهدف الفريق الاقتصادي التركي الجديد من تطبيق السياسات سالفة الذكر تحقيق الرؤية المستقبلية التالية:
• احتواء الموجة التضخمية: يعتبر ارتفاع معدل التضخم المشكلة الأكبر التي تواجه الاقتصاد التركي، والعقبة الأساسية أمام تحقيق الاستقرار النقدي، حيث تساهم المستويات المرتفعة من الأسعار في تآكل القوة الشرائية للمواطنين، وتقويض الثقة في الاقتصاد المحلي، ولهذا؛ يتمثل الهدف الأساسي للفريق الاقتصادي الحالي في كبح جماح التضخم من خلال سياسات سحب السيولة النقدية من الأسواق. ويُمكن الاستعانة بالشكل التالي لاستعراض معدلات التضخم في تركيا خلال عام 2023:
الشكل 1- معدل التضخم في تركيا (%)
Source: Turkish statistical institute, Consumer Price Index.
يوضح الشكل أعلاه أنّ معدل التضخم سجل اتجاهًا تنازليًا منذ يناير 2023 حتى يونيو 2023 من 57.68% إلى أدنى مستوياته خلال العام الجاري 2023 عند 38.21%، ليرتفع عقب ذلك إلى 47.83% و58.94% خلال شهري يوليو وأغسطس على الترتيب.
• تعزيز النمو الاقتصادي: أعرب الفريق الاقتصادي الجديد أيضًا عن طموحه في تعزيز النمو الاقتصادي من خلال استغلال الإمكانيات التنافسية لتركيا، ولهذا حدد الفريق استراتيجية نمو تركز على زيادة الصادرات، والاستثمار، والابتكار، والإنتاجية. وأعلن عن سلسلة من الحوافز والإصلاحات التي تهدف إلى تحسين بيئة الأعمال، وتعزيز التنافسية، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتعزيز التحول الرقمي، وتنويع أسواق التصدير. وفيما يلي تطور لمعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي منذ الربع الأول 2022 حتى الربع الثاني 2023:
الشكل 2- معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي التركي (%)
Source: Turkish statistical institute, Quarterly Gross Domestic Product.
يتبين من الرسم السابق أنّ معدل نمو الاقتصاد التركي قد تباطأ من 7.6% خلال الربع الثاني من عام 2022 إلى 3.8% خلال نفس الربع من عام 2023، مع تلاشي التحفيز المرتبط بالانتخابات، وأثر الزيادات الكبيرة في أسعار الفائدة، مما قد يؤثر سلبًا على عجز الموازنة، وتباطؤ النشاط الاقتصادي التركي. ورغم ذلك، رفعت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني توقعاتها لنمو الاقتصاد التركي لعام 2023 من 2.6% إلى 4.2%، ولعام 2024 من 2% إلى 3%.
• استقرار سعر الصرف: أدرك الفريق الاقتصادي الجديد أهمية استقرار سعر الصرف كأداة لاستعادة الثقة في الاقتصاد التركي، حيث انخفضت الليرة التركية من 18.7 ليرة مقابل الدولار الواحد المسجلة في يناير 2023، إلى 19.86 ليرة مقابل الدولار خلال شهر مايو، لتنخفض بشكل مستمر حتى سبتمبر 2023 عند 27.17 ليرة لكل دولار، وهذا بسبب الاعتماد على نظام أكثر مرونة لسعر الصرف، يسمح بإجراء تعديلات قائمة على السوق، ويتجنب التدخلات المفرطة التي تستنزف الاحتياطيات الأجنبية.
حاصل ما سبق أنّ الفريق الاقتصادي التركي الجديد المتمثل في وزير المالية، ومحافظ البنك المركزي حاول تبني سياسات أكثر تقليدية، منذ تعيينهما في مايو 2023، من أجل خفض التضخم، وتحقيق الاستقرار في سعر الصرف، وخفض الاختلالات الخارجية والمالية.