في العاشر من سبتمبر من هذا الشهر توجه الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في زيارة تاريخية لفيتنام، واتفق مع نظيره الفيتنامي “فو فان سونج” على رفع علاقاتهما القائمة إلى مستوى “الشراكة الاستراتيجية الشاملة”، وهو أعلى مستوى للشراكة بين دولتين. كما أجرت الإدارتان مُحادثات بشأن الاتفاق حول أضخم عملية نقل أسلحة في التاريخ، وهو الاتفاق الذي سيؤدي -حال توصل البلدين إليه- إلى إعادة رسم خريطة القوى العسكرية في المنطقة، وسيقود بلا شك لإثارة غضب الصين، ويعد أيضًا تهميشًا لدور روسيا، وإثارة المزيد من الاضطرابات.
من العداء للشراكة.. كيف نمت العلاقات الأمريكية الفيتنامية؟
شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وفيتنام تطورات هامة على مر السنوات، ويمكن تقسيم هذه العلاقات إلى عدة مراحل رئيسية:
- الحرب الفيتنامية (1955-1975): في هذه الفترة، كانت الولايات المتحدة تدعم جمهورية فيتنام الجنوبية ضد الجمهورية الديمقراطية الشعبية لفيتنام الشمالية والفيتكونج. الحرب انتهت بانسحاب القوات الأمريكية من فيتنام في عام 1973 وانهيار جمهورية فيتنام الجنوبية في عام 1975.
- ما بعد الحرب الباردة: بعد انتهاء الحرب الباردة، كانت العلاقات بين الولايات المتحدة وفيتنام متوترة وقليلة التواصل لفترة طويلة.
- التطبيع والتعاون: في التسعينيات، شهدت العلاقات تحسنًا تدريجيًا. تمت إعادة فتح السفارة الأمريكية في هانوي في عام 1995. كما تطورت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين أيضًا، وأصبحت فيتنام من أهم شركاء التجارة للولايات المتحدة في منطقة جنوب شرق آسيا.
- الشراكة المتنامية: في السنوات الأخيرة، تطورت العلاقات بين الولايات المتحدة وفيتنام إلى مستوى الشراكة المتنامية. وشمل هذا التعاون التعاون الاقتصادي والأمني، بالإضافة إلى التعاون في مجالات مثل التغير المناخي والصحة العامة.
تعزيز التعاون الأمني
جاءت زيارة الرئيس “جو بايدن” الأخيرة لفيتنام لتحمل بعض الدلالات والتلميحات خاصة على الصعيدين الجيوسياسي والأمني، فضلًا عن تعزيز الوجود الأمريكي في المنطقة، وذلك من بواية “هانوي” ولتزيد من غضب بكين وقلق موسكو. حيث أجرت إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” محادثات مع فيتنام بشأن اتفاق لأضخم عملية نقل أسلحة في التاريخ بين الخصمين السابقين إبان الحرب الباردة، بهدف تحقيق التوازن في المنافسة الجيوسياسية مع الصين، بما في ذلك منطقة المحيط الهادئ.
لكن لا تزال الصفقة في مراحلها الأولى، ولم يتم تحديد شروطها الدقيقة بعد، وقد لا يتم المضي قدمًا فيها في القريب العاجل. ومع ذلك، كان هذا الموضوع هو الموضوع الرئيسي للمحادثات الرسمية بين فيتنام والولايات المتحدة.
ترى الولايات المتحدة الأمريكية أنها تتمتع بعلاقات أمنية مُثمرة وواعدة مع فيتنام، كما تلاحظ اهتمام “هانوي” ببعض الأنظمة الأمريكية، وتحديدًا الأنظمة التي قد تساعدهم في تحسين مراقبة مجالهم البحري وطائرات النقل وغيرها من الأسلحة المتقدمة.
في سياق آخر، كانت فيتنام تعتمد بشكل كبير على روسيا في أمور التسليح، لكنَّ الحرب الروسية الأوكرانية أدت إلى تعقيد علاقة هانوي الطويلة الأمد مع موسكو، مما يجعل الحصول على الإمدادات وقطع الغيار للأسلحة الروسية الصنع أكثر صعوبة.
في المقابل، تُنفق فيتنام ما يقدر بنحو ملياري دولار سنويًا على واردات الأسلحة، وهذا يجعل واشنطن أكثر تفاؤلًا بإمكانية تحويل حصة من تلك الميزانية على المدى الطويل إلى أسلحة من الولايات المتحدة أو حلفائها وشركائها، وخاصة كوريا الجنوبية والهند. كما تدرس واشنطن شروط تمويل خاصة لمساعدة “هانوي” التي تعاني من ضائقة مالية على كسر اعتمادها على الأسلحة الروسية الأرخص ثمنًا.
كما أُثير الحديث حول قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتزويد هانوي بالمقاتلة الأمريكية (F-16) حيث أبدت هانوي اهتمامًا كبيرًا بمختلف أنظمة الدفاع الأمريكية الصنع، وخاصة طائرات الدوريات البحرية، وطائرات النقل، وقد يشمل ذلك الطائرات المقاتلة.
وبحسب بعض المسئولين الأمريكيين، فإن الحزمة التي قد يتم وضعها العام المقبل، قد تشهد بيع طائرات مقاتلة أمريكية من طراز (F-16) إلى هانوي. وسيكون حصول فيتنام على طائرات F-16، التي طورتها شركة لوكهيد مارتن، لحظة تاريخية، حيث قامت القوات الجوية الفيتنامية تقليديًا بالاعتماد على المقاتلات الروسية الصنع مثل Su-30 وSu-27 وSu-22. ومن المتوقع أن تقدم واشنطن نسخة F-16 Block 70 “Viper”، وهي النسخة الأكثر تقدمًا من الطائرة، والمجهزة بأنظمة أسلحة مختلفة، كما تتميز ببعض تكنولوجيا الجيل الخامس.
ماذا يعني توصل الولايات المتحدة وفيتنام إلى اتفاق حول صفقة الأسلحة؟
وإذا تم التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وفيتنام بشأن صفقة الأسلحة التاريخية، فمن المتوقع أن يكون لذلك الأمر الهام بعض الانعاكاسات المتباينة خاصة على الصعيدين الجيوسياسي والاقتصادي، منها على سبيل المثال؛ أولًا: زيادة قدرات فيتنام العسكرية بشكل كبير، وهو ما قد يزعج الصين ويرفع من توتراتها مع كلا البلدين. ثانيًا: تعزيز العلاقات العسكرية والاستراتيجية بين الولايات المتحدة وحليفتها فيتنام بما يخدم مواجهة النفوذ الصيني. ثالثًا: قد تفقد روسيا سوقًا هامة لتصدير أسلحتها، مما يضعف دورها استراتيجيًا في المنطقة. رابعًا: سيكون للصفقة آثار اقتصادية إيجابية على البلدين عبر صناعة الدفاع وتوظيف فرص العمل. خامسًا: إذا ما تم التوافق على الصفقة فإنها قد تؤدي على المدى البعيد إلى تعقيد العلاقات الإقليمية وزيادة التوتر مع الصين.
غضب صيني
في ظل تصاعد النزاع الإقليمي طويل الأمد بين فيتنام والصين في بحر الصين الجنوبي، فلا شك أن إبرام صفقة أسلحة كبيرة بين الولايات المتحدة وفيتنام سيُثير غضب الصين نتيجة لعدد من الاعتبارات منها:
- أن هناك خلافات سياسية وإقليمية حول فيتنام والصين حول السيادة في بحر الصين الجنوبي، وبالتالي فإن أي تعزيز لقدرات فيتنام العسكرية قد ينظر إليه على أنه تهديد محتمل لمصالح بكين.
- ترى الصين أن الولايات المتحدة تسعى لزيادة نفوذها في منطقة آسيا-المحيط الهادئ للحد من نفوذ الصين. وبالتالي فالتعاون الأمني الأمريكي-الفيتنامي قد يُنظر إليه على أنه جزء من سعي أمريكي لتحدي الصين.
- تعتبر الصين أن هذه الصفقة ستمكن فيتنام من الحصول على تكنولوجيات أمريكية متقدمة، مما يخلق توازنًا قويًا غير مرغوب فيه بالنسبة للصين.
- وبالتالي، فإن الصين من المتوقع أن تعبر عن رفضها وغضبها تجاه مثل هذه الصفقة التي تدعم قدرات فيتنام العسكرية.
إثارة قلق روسيا
من المحتمل بشكل كبير أن تُثير صفقة الأسلحة الضخمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وفيتنام -حال إتمامها- إثارة قلق روسيا، وذلك لعدة أسباب منها:
- أن فيتنام تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الأسلحة والمعدات العسكرية الروسية. وتاريخيًا كانت موسكو أحد أهم موردي الأسلحة لفيتنام، وهذه الصفقة تمثل انتقالًا لفيتنام إلى نطاق التأثير الأمريكي.
- كما أن روسيا تعتبر أن منطقة جنوب شرق آسيا ذات أهمية استراتيجية لنفوذها العالمي، وبالتالي فإن إبرام صفقة ضخمة مع الولايات المتحدة قد يضعف النفوذ الروسي على فيتنام ويعزز الوجود الأمريكي.
- كما تنظر روسيا للولايات المتحدة على أنها منافس استراتيجي عالمي يحاول منافستها على النفوذ، لذا فإن أي تدخل أمريكي متزايد في مناطق نفوذ روسيا تنظر إليه موسكو بكثير من القلق والغضب.
- وحال إتمام هذه الصفقة فهذا يعني تخلي فيتنام تدريجيًا عن الاعتماد على الأسلحة الروسية كمصدر رئيسي لتزويدها بالمعدات العسكرية، وكذلك فقدان روسيا لأحد أهم عملائها العسكريين في المنطقة، مما يضعف تأثيرها هناك. وبالتالي فهذه الصفقة قد تشكل ضربة لنفوذ روسيا العسكري في فيتنام.
أخيرًا، يمكننا النظر إلى قرار واشنطن باحتمال بيع الأسلحة إلى فيتنام من عدة زوايا. فقد يكون الدافع وراء ذلك هو الاستراتيجية الأمريكية الشاملة لتعزيز العلاقات الدبلوماسية والعسكرية مع فيتنام وتعزيز وجودها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. في السياق ذاته، يُنظر إلى هانوي على أنها أحد اللاعبين الرئيسيين في جنوب شرق آسيا للحفاظ على الاستقرار الإقليمي ومواجهة النفوذ الصيني في المنطقة. وحال إتمام هذه الصفقة فهذا يعني تهديد استقرار المنطقة، وإعادة رسم خريطة القوى العسكرية، فالصين لن تصمت وقد نشهد زيادة التوترات العسكرية أو الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وفيتنام. وقد تدفع هذه الصفقة الصين لزيادة ميزانيات الدفاع للمحافظة على توازنها العسكري. خاصة وأن حصول فيتنام على أسلحة أمريكية مُتقدمة سيُسهم في تعزيز قدراتها الردعية تجاه الصين. كما أن هذا الأمر سُيعزز المخاوف لدى الدول الأخرى مثل كوريا الشمالية، مما سيحفزها على تعزيز قدراتها العسكرية. خاصة وأن الصفقة ستُكسب فيتنام خبرات أمريكية في مجال الدفاع الجوي والبحري وغيرها. والأمر الأخير، أن إتمام هذه الصفقة سيعني تعقيد التحالفات الأمنية في المنطقة، وظهور مجموعات مؤيدة ومعارضة للصفقة. وبشكل عام قد تضعف الثقة بين الأطراف، مما يُعيق التعاون في العديد من القضايا الأخرى.