بدأ موسم الانتخابات الرئاسية، مليئا بالحيوية والإثارة، فيه نقاشات كثيرة، وآراء متباينة، ومنافسة. المواسم السياسية من هذا النوع هى أفضل مدرسة للتربية الوطنية والسياسية، والمهم هو أن نخرج من هذا الموسم وقد اقتربنا من تحقيق المعادلة الصعبة والصيغة الذهبية الأكثر ملاءمة لبلادنا: سلطة مستقرة تنفذ إصلاحا عميقا شاملا.
الاستقرار هو حصانة ضد الفوضى، وهو مفتاح البقاء. علمتنا خبرة العقد الأخير أن الدولة فى العالم العربى هى مؤسسة هشة، قد لا يمكنها الصمود فى وجه الاحتجاجات والانشقاقات. الأخطر من هذا هو أن الدولة العربية التى تطيح بها الاحتجاجات لا يمكنها لملمة أشلائها، وإعادة توحيد المجتمع وأجهزة الحكم، من أجل أن تعود مجددا. الدولة فى العالم العربى هى فرصة تأتينا مرة واحدة فقط، لو ضيعناها قد لا تعود ثانية.
لكن الاستقرار المفرط قد ينتهى إلى ركود، فيخضع المجتمع لقوى التقليد والمحافظة؛ والمطلوب هو استقرار يطلق طاقات الإبداع والتجديد، لا طاقات التكرار والرتابة، فى عالم لا يكف عن التغير، ولا يمكننا الانعزال عنه. وفى الإصلاح علاج للإفراط فى الاستقرار.
الإصلاح ليس معالجة للأخطاء، لكنه عملية تكيف مستمرة مع التغيرات التى تحدث كل يوم فى العالم من حولنا. الإصلاح هو عملية متواصلة لتوسيع قاعدة الحكم، ومساحات التشاور، وامتلاك صوت فى تقرير مصير ومسار الوطن، وتعزيز المؤسسية، وزيادة الثقة، وتطبيق القانون، والمساواة. الإصلاح هو عملية تدريجية طويلة تحدث تحسينا تدريجيا متواصلا.الاستقرار هو موروث الأمة المصرية التاريخي؛ والإصلاح هو ما أخرجها من ركود تاريخى طويل، فوضعها على خريطة العصر، والمطلوب هو أن نكسب الاثنين معا.
الاستقرار هو القدرة على تحمل أعباء السلطة وممارسة الحكم. يكون الاستقرار ضعيفا عندما يصل إلى السلطة من لايمكنه البقاء هناك ضمن الحدود الدستورية، فتطيح به الأزمات والدسائس والانقسامات وتدخلات الطامعين من الخارج. يكون الاستقرار ضعيفا عندما يصل إلى الحكم من لا يملك مفاتيح تشغيل جهاز الدولة الإدارى، فيجد نفسه وحيدا عند القمة، ليسقط منها عند أول عاصفة.
بإمكان المثقفين والسياسيين تشخيص المشكلات واقتراح الحلول بأفصح أساليب الكتابة والخطابة، فيما قد تكون مقترحاتهم عبقرية أو عادية أو طائشة وخاطئة تماما. كل هذا ممكن، لكن يظل سؤال السلطة، أو سؤال إمكانية التنفيذ، هو السؤال الأهم، وما إذا كان يقف خلف المرشح قوة دعم قادرة على مساعدته فى تنفيذ برنامجه.فالرئيس لا ينفذ برنامجه بنفسه منفردا، لكن نجاحه يتوقف على قدرته على بناء تحالف اجتماعى وسياسى فعال، وقدرته على كسب تعاون مؤسسات وأجهزة الدولة، وهى فى مصر مؤسسات ذات قدرة، لها استقلاليتها، أما مفاتيح تشغيلها فليست من ضمن ما نقرأ عنه فى الكتب، ولكنها فى خبرات وعلاقات وتفاهمات قد تستعصى على الغرباء. هذا هو ميراث مصر التاريخى الذى وصل إلينا عبر آلاف السنين من الدولة المركزية، والذى مازال قائما رغم ما مر علينا من حداثة خلال القرنين الأخيرين.
بعض الناس يقارنون بين المرشحين على أساس البرامج والرؤى التى يقدمونها؛ هؤلاء منشغلون بالإصلاح. بعض الناس الآخرين يقيمون المرشحين على أساس القدرة على الحكم وممارسة السلطة؛ هؤلاء منشغلون بالاستقرار. فى إقليم مضطرب، تعانى فيه الدول هشاشة مزمنة، لا مفر من أن يحظى سؤال السلطة بالأولوية. اختبر العرب فى السودان وسوريا واليمن وليبيا مخاطر هشاشة الدولة، فأصبحوا أكثر تقديرا لها وحرصا على صيانتها من المخاطر. لكننا نعرف أيضا أن تأخر الإصلاح قد عمق من هشاشة الدولة، وسهل الإطاحة بها، وأننا سنكون محظوظين تماما لو فزنا بالاستقرار والإصلاح معا.
فى بلادنا، الاستقرار مفضل عادة على التغيير. هذه ثقافة وتقاليد قومية. لم تصل مجتمعات الشرق الأوسط بعد إلى مرحلة التداول السلمى الآمن للسلطة. هل حدث هذا لدينا قبل ذلك فى أى وقت؟ هل حدث عند أى من جيراننا فى البلاد العربية؟ هل حدث فى إيران؟ إنه يحدث جزئيا فقط فى تركيا، وهو بلد له تجربة سياسية خاصة جدا، فتركيا الحديثة هى وريثة إمبراطورية كبرى حكمت الشرق كله طوال القرون الأربعة السابقة، لتشهد بعد ذلك أعمق عملية علمنة حدثت خارج أوروبا، فنجحت فى تهذيب الإسلام السياسى بعد عدة تدخلات خشنة من الجيش، لتتكون صيغة للتعايش بين العلمانية والدين، فهل لدى بلاد أخرى فى الشرق الأوسط تجربة سياسية بهذا العمق؟
قد تكون فرصة المعارضة قليلة فى هذه الانتخابات، لكن مشاركتها أبعد ما تكون عن الديكور واستيفاء الأوراق. فى الصين يتم تسجيل الشركات الحكومية فى البورصة ليس من أجل الخصخصة، وإنما من أجل الشفافية وخلق آليات للإفصاح والمتابعة وتحسين الأداء وإصلاح الأخطاء. نظام مثل هذا يلائمنا سياسيا واقتصاديا فالمراجعة الدورية لأداء السلطة من خلال انتخابات نزيهة هى إحدى وسائلنا لتحقيق الإصلاح.
مشاركة المعارضة فى الانتخابات الرئاسية توسع مساحة المجال العام، وتتيح للمعارضة تمثيلا أفضل فيه، ويمنحها قدرة أكبر للتأثير على السياسات العامة. هذه بالتأكيد صفقة رابحة، تمنح مصر استقرارا سياسيا، ونظاما سياسيا يستوعب التنوعات، بينما تواصل التحرك باتجاه التقدم والنهضة. هذه هى طريقتنا فى الفوز بالاستقرار والإصلاح معا.