في انعكاس جديد لتعاظم حالة الاستقطاب والانقسام السياسي على الساحة الأمريكية صوت مجلس النواب الأمريكي، في 3 أكتوبر الجاري، على إقالة رئيسه الجمهوري “كيفن مكارثي“، بموافقة 216 نائبًا ورفض 210، مما مثل سابقة بتاريخه الممتد منذ 234 سنة. إذ يعود آخر تصويت أجراه مجلس النواب الأمريكي لعزل رئيسه، إلى أكثر من قرن من الزمن، في حين أنها المرة الأولى التي يطيح فيها المجلس برئيسه. واتصالًا بذلك، فقد أصبح النائب “باتريك ماكهنري“، الذي يشغل منصب رئيس لجنة الخدمات المالية بمجلس النواب، كرئيس مؤقت للمجلس، لا يمكنه سوى الإشراف على جلسات من دون التصويت على مشاريع القوانين.
وعلى هذا النحو، دعا الرئيس الأمريكي “جو بايدن” إلى الإسراع في انتخاب رئيس جديد لمجلس النواب، إذ تقرر تعليق جلسات التصويت بالمجلس إلى الأسبوع المقبل. ومن جانبه، قال “مكارثي”: إنه لا ينوي ترشيح نفسه لرئاسة مجلس النواب مرة أخرى، مستنكرًا اتخاذ إجراء ضده ردًا على اتخاذه قرار “لصالح البلاد”، على حد تعبيره، وهو المتعلق بتجنب الإغلاق الحكومي. الأمر الذي يثير التساؤل بشأن ملابسات هذا التحرك، وكذا الارتدادات التي يمكن أن تنجم عنه.
عزل “مكارثي”.. سابقة تاريخية
في خطوة لم تعكس فقط الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين، وإنما بلورت أيضًا الانقسام داخل المعسكر الجمهوري، قدم النائب الأمريكي الجمهوري من الجناح اليميني المتشدد “مات جايتس”، في 2 أكتوبر الجاري، مذكرة “تعلن شغور منصب رئيس مجلس النواب”، فيما يعرف باسم “اقتراح الإخلاء”، وتحتاج لإقرارها عبر الأغلبية في المجلس. وقد علق “جايتس” قائلًا، في لقائه على شبكة “سي إن إن”: إنه يعتقد أنّ هناك حاجة للمضي قدمًا مع “قيادة جديدة” أجدر بالثقة، مضيفًا أنّ “لا أحد يثق في كيفين مكارثي”.
وعلى هذا، فقد بدا في بداية المشهد أنّ القادة الديمقراطيين يرفضون الانخراط في نقاشات بشأن التصويت، فيما علق زعيم الأقلية الديمقراطية “كيم جيفريز” قائلًا: إنّ حزبه “يركز على تجنب الإغلاق”. لذا، فقد اعتبرت بعض التحليلات أنها نظرًا لأهمية أصوات الديمقراطيين في إنقاذ “مكارثي”، فمن المحتمل أن تكون هناك بعض المفاوضات حول ما يمكن أن يحصل عليه الديمقراطيون مقابل أصواتهم التي يمكن أن يقدموها لدعم استمرار “مكارثي”.
و3 أكتوبر الجاري، صوت مجلس النواب على إقالة الجمهوري “مكارثي” بموافقة 216 ورفض 210 نائب، مما مثّل سابقة بتاريخه الممتد منذ 234 سنة. إذ قام النائب الجمهوري السابق “مارك ميدوز”، في عام 2015، بهذا الإجراء ضد رئيس مجلس النواب آنذاك “جون بينر”، لكنه استقال قبل الدعوة للتصويت. وقد اعتبرت صحيفة “واشنطن بوست” أنّ الديمقراطيين لعبوا دورًا كبيرًا في عزل “مكارثي”، موضحة أنهم فكروا بالفعل في التصويت لمساعدة “مكارثي” في الاحتفاظ بمنصبه، لكنهم قرروا في النهاية عدم القيام بذلك.
فيما اعتبرت بعض التحليلات أنّ “مكارثي” قد دفع ضريبة التنازلات التي كان قد قدمها للجمهوريين لتأمين حصوله على المنصب في يناير الماضي. إذ كان “جايتس” ضمن مجموعة تضم حوالي 20 نائبًا أجبروا “مكارثي” على المضي في 15 جولة تصويت قبل انتخابه رئيسًا للمجلس، في مقابل الحصول على تنازلات ضمت تغييرات في القواعد تسمح لأي عضو في المجلس بالدعوة إلى التصويت لإقالة رئيس المجلس. ومن ثَمّ، فبدون هذا التنازل، ربما لم يكن “مكارثي” قادرًا – من الأساس – على تأمين منصبه بعد 15 جولة من التصويت.
أسباب متباينة
يمثل مشهد عزل “مكارثي” من منصبه ملابسات سياسية متناقضة، إذ جاءت دعوة العزل لرئيس مجلس النواب الجمهوري على يد نائب جمهوري متشدد، فيما شهدت عملية التصويت توازنات سياسية غير متوقعة؛ حيث تم التصويت بالموافقة من قبل ثمانية جمهوريين يمينيين متطرفين وجميع الديمقراطيين في مجلس النواب الحاضرين. وهي المسألة التي يمكن تفسيرها في ضوء عدد من الأسباب، أبرزها:
بالنسبة للجمهوريين: فقد سعى النائب “جايتس” وغيره من الجمهوريين المتشددين إلى ربط مصير “مكارثي” السياسي بمعركة الإنفاق التي هددت بإغلاق الحكومة. بمعنى آخر، أدّى تبني “مكارثي” لاتفاق بين الحزبين لتجنب إغلاق الحكومة إلى استياء بين صفوف الجمهوريين. فقد أيد مجلس النواب تمويل الحكومة حتى 17 نوفمبر بأغلبية 335 صوتًا، وبدعم عدد أكبر من الديمقراطيين مقارنة بالجمهوريين. إلا أنّ الاستياء الجمهوري من “مكارثي” لم يكن – فقط – وليد تمرير هذا التمويل، وإنما ظهرت بوادره بقوة في الاتفاق الذي تم بشأن رفع سقف الدين في مايو الماضي.
وارتباطًا بذلك، علّق النواب الجمهوريون المتشددون على دعمهم لعزل “مكارثي”؛ فقد قال النائب “آندي بيجز”: إنّ “مكارثي” قد تخلى عن الكثير من الوعود التي قطعها على نفسه منذ يناير. كما اعتبر النائب “كينيث روبرت بوك” أنّ لديه خلافًا مع “مكارثي” منذ اتفاق سقف الدين، كما أكد أنّ الاتفاق الحالي “لن يحل أزمة الإنفاق في البلاد”. ومن ثَمّ، يمكن القول إنّ الجمهوريين المحافظين شعروا بالاستياء حيال ما اعتبروه كتحول في مواقف “مكارثي”، الذي كان قد تعهد بوضع حد للتشريع المؤقت الذي تم إعداده بتسرع ودعم الحزب الديمقراطي، وإعادة قضية الموازنة إلى عملية تتولاها اللجان. أي أنهم اعتبروا أنّ “مكارثي” قد أضعف فرصهم في التوصل لتخفيضات كبيرة في الميزانية.
أما بالنسبة للديمقراطيين: فعلى الرغم من التفاهمات التي يبدو أنّ “مكارثي” قد بناها مع الديمقراطيين، إلا أنّ هناك جملة من الأسباب التي دفعت الديمقراطيين إلى الإطاحة بــ”مكارثي”، والتي يأتي على رأسها تعاطفه مع الرئيس السابق “دونالد ترامب”. بالإضافة إلى إعلانه، في سبتمبر الماضي، عن طلب فتح تحقيق لعزل الرئيس “جو بايدن”. علاوة على ذلك، فقد عمل “مكارثي” مؤخرًا على إلقاء اللوم على الديمقراطيين في الإغلاق الحكومي الذي كان متوقعًا.
ارتدادات متوقعة
في ضوء النظر إلى عزل “مكارثي” كسابقة تاريخية لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل، يمكن القول إنّ هذا التحرك قد يحمل عددًا من التأثيرات والارتدادات التي قد تدفع الساحة السياسية نحو مزيد من التعقد والتأزم، ويمكن بلورة أبرز التداعيات المتوقعة على النحو التالي:
فصل جديد من الانقسام السياسي
منذ أحداث اقتحام مبنى الكونجرس في عام 2021، تشهد الساحة الأمريكية حالة انقسام سياسي واضحة، حملت انعكاسات متكررة في أكثر مناسبة، لم تقف فقط عند حدود المعسكرين المتنافسين الجمهوري والديمقراطي، وإنما وصلت أيضًا إلى الانقسام داخل كل معسكر. ولم يكن منصب اختيار رئيس مجلس النواب ذي الأغلبية الجمهورية المتواضعة ببعيد عن هذا المشهد. إذ انتُخب رئيس مجلس النواب بأغلبية بسيطة، وبشق الأنفس بعد 15 محاولة تصويت، وهو أمر لم يحدث في التاريخ السياسي الأمريكي على امتداده. علاوة على ذلك، فقد وصل “مكارثي” إلى المنصب بعد أنّ قدّم تنازلات كبيرة لحوالي 20 نائبًا جمهوريًا متشددًا من أنصار الرئيس السابق “ترامب”. ومن ثَمّ، فمن المرجح أن تعيد مذكرة عزل “مكارثي” إشعال المعركة داخل الحزب بين المعتدلين والمحافظين التقليديين من جانب، وأنصار الرئيس السابق “ترامب” من جانب آخر.
ضبابية حول من يخلف “مكارثي”
من المقرر أن ينتخب مجلس النواب رئيسًا جديدًا، لكنه سيظل بلا قيادة لمدة أسبوع على الأقل، فيما أعلن عدد من الجمهوريين اعتزامهم الاجتماع، الأسبوع المقبل، لمناقشة المرشحين المحتملين، مع تحديد موعد التصويت لاختيار الرئيس الجديد للمجلس في 11 أكتوبر الجاري. ولكن لا تزال الصورة ضبابية حول هوية رئيس مجلس النواب القادم. ويفتح عزل “مكارثي” الباب أمام منافسة غير مسبوقة لخلافته، قبل عام من السباق الرئاسي القادم. هذا، وقد تداولت وسائل إعلام أمريكية أسماء بعض المرشحين لخلافة “مكارثي”، ومن بينهم: “ستيف سكاليس“، و”جيم جوردن“، و”كيفن هيرن“، و”توم إيمير“. الأمر الذي يعني أنّ مجلس النواب قد يكون على مشارف معركة سياسية جديدة لاختيار رئيسه، في ضوء تعدد المرشحين المتوقعين، وعدم وجود مرشح أوفر حظًا حتى الآن.
تواضع المساعدات المقدمة لأوكرانيا
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، أخذت الولايات المتحدة على عاتقها تقديم كافة أشكال الدعم لأوكرانيا، باعتبار أنها تقود معركة العالم الحر ضد الخصم الروسي، إلا أنّ استمرار هذه المساعدات قد دفع إلى ظهور بعض الدعوات، لا سيما من قبل الجمهوريين، التي تطالب بتقليصها، وربما وقفها. ومن ثَمّ، يعكس اتفاق الإنفاق الأخير الذي أيده مجلس النواب لتمويل الحكومة حتى 17 نوفمبر، والذي نال دعم عدد أكبر من الديمقراطيين مقارنة بالجمهوريين، عدم تركيز واضح على مساعدة أوكرانيا. إذ يوفر 45 يومًا آخر من التمويل للحكومة الفيدرالية، وهو ما يكفي للاستمرار حتى منتصف نوفمبر، ولكنه لا يوفر أموالًا إضافية لمساعدة أوكرانيا في الحرب الجارية. لذا، فإنه من غير المتوقع أن يتجه خليفة “مكارثي” إلى الموافقة على تخصيص المزيد من الأموال لأوكرانيا خوفًا من أن يواجه مصيرًا مشابهًا لـــ”مكارثي”. وعليه، فمن المرجح أن تطل المساعدات المقدمة لأوكرانيا كنقطة خلاف بارزة خلال المرحلة المقبلة.
مجمل القول، إنه على الرغم من أنّ مسألة عزل رئيس مجلس النواب “كيفين مكارثي” تعتبر سابقة تاريخية لم تشهدها الساحة الأمريكية من قبل، إلا أنها تُعد كحلقة ضمن سلسلة الأحداث التي تعكس حالة الاستقطاب والانقسام السياسي المتزايد على الساحة الأمريكية. وهو الأمر الذي يعني أنّ هذا التحرك قد يدفع صوب الإسراع بإطلاق زخم السباق الرئاسي، وجعله على صفيح ساخن.