كثر الحديث والجدل، خاصة فى الفترة الأخيرة، حول دور عجز الموازنة العامة للدولة فى التضخم وارتفاع الأسعار، إذ يرى البعض انه السبب الرئيسى فى ذلك، فضلا عن ازدياد الدين العام وانخفاض الاستثمار الخاص نتيجة للمزاحمة. الأمر الذى أصبح يتطلب التوقف بالدراسة والتحليل حول مدى صحة هذه المقولات.وهى مسألة تتوقف على القراءة الدقيقة لطبيعة التضخم وأسبابه، بمعنى تفكيك عناصر أسباب وآليات التضخم.هل هو مؤقت ولا يحتاج الى المزيد من السياسات النقدية؟ ام انه عميق ومستمر فترة زمنية طويلة ويحتاج الى التدخل من جانب البنك المركزي؟ وهو ما يتطلب التناول على محورين أولهما طبيعة التضخم السائد حاليا واسبابه؟ ثم أثر عجز الموازنة على هذا التضخم؟
وجدير بالذكر ان موجة التضخم الحالية قد تحولت من تضخم ذى علاقة بالأجل القصير الى طبيعة طويلة الأجل. وتدلنا تجربة السبعينيات من القرن الماضى الى ان ارتفاع التضخم لوقت طويل فى ظل ظروف ضعف النمو قد أدى لأزمة مديونية وأعقبه عقد من تراجع النمو وهكذا فإننا فى تحد لم يسبق له مثيل منذ عدة عقود. وهنا نلحظ ظاهرتين أولاهما انه بدءا من أكتوبر 2022 أصبح التضخم الأساسى (وفقا للبنك المركزي) اعلى من التضخم مقاسا بأسعار المنتجين، وهو ما يعنى نقل عبء زيادة الأسعار من المنتج الى المستهلك. كما انه وبدءا من يوليو 2022 أصبح التضخم الأساسى، أعلى من التضخم الرئيسى (وفقا للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء) وهو ما يشير الى استمرار الضغوط التضخمية فى الاقتصاد. وهناك أسباب كثيرة لهذه الظاهرة بعضها يتعلق بالإفراط فى المعروض النقدى والسيولة المحلية مقارنة بالنمو فى الناتج المحلى، والبعض الآخر يرتبط بتضخم التكاليف والثالث يرتبط بالاختلالات الهيكلية فى الاقتصاد. ويرى أصحاب وجهة النظر هذه ان الزيادة فى عجز الموازنة تؤدى الى زيادة الطلب على النقد المتداول، الامر الذى يحدث أثرا توسعيا على السيولة المحلية تقابله زيادة فى مطلوبات البنك المركزى من الحكومة. وهنا نلحظ انه ورغم تراجع عجز الموازنة من 7.1% عام 2020/2021 الى 6٫2% عام 2021/2022 والى 6% عام 2022/2023 بينما تزايد النقد المصدر للناتج المحلى من 10.8% الى 11.7% خلال نفس الفترة. وعلى الجانب الآخر تدلنا القراءة التاريخية للاقتصاد المصرى ان هناك علاقة عكسية بين ارتفاع التضخم وانخفاض عجز الموازنة. الأمر الذى يتطلب البحث فى أسباب هذه الظاهرة. ولا شك فى ان الإجابة عن الأسئلة السابقة ليست بالبساطة والسهولة التى يتصورها البعض خاصة، ان الدراسات تؤكد ان نفس مستوى العجز يمكن ان تنتج عنه آثار اقتصادية شديدة الاختلاف من دولة لأخرى وذلك حسب هيكل الإنفاق العام والهيكل الضريبى والأساليب المختلفة لتمويل العجز. فهناك ارتباط وثيق بين الطريقة التى يمول بها العجز والتضخم. وهنا توجد عدة طرق لتمويل العجز، منها الاقتراض من البنك المركزى، او الاقتراض من البنوك الأخرى، أو الاقتراض من القطاع العائلى، أو الاقتراض من الخارج. ويرتبط كل شكل من أشكال التمويل هذه بأحد الاختلالات الأساسية فى الاقتصاد القومي. فالاقتراض من البنك المركزى عن طريق طبع النقود بمعدل يتجاوز الطلب السائد يؤدى الى أرصدة نقدية مفرطة مما يرفع فى النهاية المستوى العام للأسعار، وتصبح هذه الوسيلة إحدى الآليات المحتملة للتضخم. أما الاقتراض من الجهاز المصرفى فانه، رغم كونه لا يؤدى إلى إيجاد قاعدة نقدية تلقائيا، فإنه يزاحم القطاع الخاص فى الائتمان. ومن ثم تضطر هذه المصارف إلى خفض ائتمانها الى هذا القطاع وهو ما يطلق عليه أثر «المزاحمة» من خلال زيادات أسعار الفائدة. اما الاقتراض من القطاع العائلى فانه ينطوى على مخاطر ذات طبيعة خاصة عند الإفراط فى استخدامه، فهو أيضا يؤدى الى المزاحمة مع القطاع الخاص ورفع أسعار الفائدة ثم زيادة تكلفة الدين ومن ثم عبء الدين فى المستقبل. من هذا المنطلق يبرز الارتباط الوثيق بين السياستين المالية والنقدية، اذ يتوقف اتساع القاعدة النقدية على ما إذا كان تمويل العجز يأتى من مصادر خارجية ام من مصادر داخلية، أى من خلال الائتمان المصرفي. إذ إن الزيادة فى عجز الموازنة تؤدى الى زيادة الحاجة الى التمويل، فإذا ما تم توفير هذا التمويل للحكومة محليا فان ذلك ينعكس على الائتمان المقدم للقطاع الخاص. وهكذا تنعكس العلاقة بين السياستين فى نهاية الأمر على صافى الاقتراض الحكومى من الجهاز المصرفى، وهو ما يتوقف على مدى التمويل المقدر الحصول عليه من الجهاز المصرفى لتمويل العجز فى الموازنة. ومدى تأثر النمو فى السيولة المحلية بالاقتراض الحكومى من الجهاز المصرفى ككل. فضلا عن دور الودائع الحكومية لدى المصارف التجارية. مما سبق يتضح لنا أن مشكلة التضخم ترجع بالأساس إلى أسباب هيكلية فى بنية الاقتصاد، بالإضافة الى التضخم المستورد، والذى يعد السبب الرئيسى فى الوقت الحالى، وذلك بسبب تراجع الإنتاج وانخفاض إنتاجية العديد من القطاعات السلعية خاصة الزراعة والصناعة وازدياد الطاقات العاطلة، كما ان السبب المباشر للموجةالسائدة حاليا هو التخفيضات المستمرة فى قيمة الجنيه المصرى نتيجة للاعتماد الأكبر على الاستيراد بالدولار،إذ إنه ومع كل انخفاض فى الجنيه يرتفع التضخم، وخير دليل على ذلك الارتفاع من 13.8%عام 2016 الى 29.5% عام 2017 عقب تحرير سعر الصرف، وأيضا الارتفاع من 4.2% عام 2003 الى 16.5% عام 2004 لنفس السبب وهو ما حدث أيضا بين عامى 1985 و1986 حين ارتفع من 12.1% الى 23.9% بالإضافة الى سيادة الاحتكارات فى العديد من المنتجات التى تعد سمة أساسية من سمات السوق المصرية خاصة بعد ان امتدت بآثارها لتشمل معظم قطاعات الاقتصاد.
وهذا لا ينفى بالطبع ضرورة العمل على علاج عجز الموازنة، ولكنه يتطلب ان يتم ذلك فى إطار تنموى ومن منظور شامل وواسع يأخذ بعين الاعتبار علاج الاختلالات الهيكلية فى الاقتصاد القومى ويدفع عجلة التنمية إلى الأمام.